الأزمة الاقتصادية تخيّم على القطاع الصحي.. والمستشفيات للمحظوظين

مستشفى رفيق الحريري كورونا

يوما بعد يوم تتفاقم الأزمة الاقتصادية بشكل بات ينعكس سلبيا على كافة القطاعات، وقد وصلت الأوضاع في القطاع الصحي والاستشفائي الى مرحلة شديدة الخطورة، مع نقص السيولة بسبب تأخر المؤسسات الضامنة وبالتالي عدم قدرة المستشفيات من إستقبال المرضى، عدا عن انقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية وبحث المستشفيات رفع تسعيرتها مع انهيار العملة الوطنية.

وفي تحقيق ترجمه “سينابس” إن لبنان بلدُ المُفارقات، وقطاعه الصحي خيرُ مثالٍ على هذه الحالة. يتحدثُ اللبنانيون بافتخارٍ كبيرٍ عن المستشفيات الكثيرة المتطورة والأطباء المهرة في بلدهم، غير أنهم لا يخفون استياءهم من المرافقِ الطبيّة العامة وموظفيها ومن سياسة الحكومة. ولا بأس بهذا لو أن ما يثير إعجابهم بالقطاع الصحي، أي المستشفيات الخاصة، لا يعتمد على أكثر ما يثير استياءهم، وهو القطاع الحكومي، لأن إفلاس الدولة قد يؤدي إلى زوال المؤسسات الخاصة التي ازدهرت بفضل علاقةٍ طُفيليةٍ مع الدولة لطالما درّت عليها الربح الكثير.

اقرا ايضا: كارثة صحية.. نقص سيولة في القطاع الاستشفائي وازمة «أمصال»!


برزت مساوئ قطاع الصحة للعيان وسط الأزمات المتداخلة التي تعصف بلبنان، فقد أدى انهيار القطاع المصرفي إلى إفقار كثير من السكان، ممن لم يعد بمقدورهم تغطية تكاليف الاستشفاء بدون شبكات أمانٍ يمكنهم اللجوء إليها، وهي تكاليف كانوا لا يُلقون لها بالاً فيما مضى. لقد عرّت الاستجابة المتخبطة لوباء كوفيد-19 النهجَ الفوضوي الذي تتبعهُ الدولةُ في مجال الصحة العامة، في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التخطيط المركزي والإنجاز أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كما تبدو المؤسساتِ الطبيةَ المتقدمة غير مهيأةٍ للتعامل مع احتياجات الدولة، وهي احتياجات تتغير بسرعة، بينما تستمرُ في استنزاف جلّ الموارد المتبقية.
ولعقودٍ من الزمن، اعتمدَ قطاع الصحة على المستشفيات الخاصة التي تختلسُ الربحَ على حساب الدولةِ والمجتمع، واليوم يتعاظمُ الضغط على الجوانب الثلاثة لهذا المثلث حدَّ الانهيار، وهو ما سينتجُ عنه حتماً نظامٌ جديدٌ. والسؤال هو ما الشكل الذي سيكونُ عليه هذا النظام؟ ستعتمدُ الإجابة، أولاً وقبل كل شيء، على فهم الأسباب التي تجعل القطاع الصحي في لبنان يستحقّ الإعجاب وواهناً للغاية في آنٍ معاً.        
✜  ربيع القطاع الصحي ✜
لطالما كان نظام الرعاية الصحية مدعاة فخرٍ للبنان، ولسببٍ وجيهٍ، فحتى وقتٍ قريب على الأقل كان في هذا البلد أكثرُ من ثلاثة أطباء لكلّ ألف نسمةٍ، أي ثلاثة أمثال ما توصي به منظمة الصحة العالمية عادةً، وقد تلقّى غالبية هؤلاء المهنيين التدريبَ في أوروبا والولايات المتحدة، وحصلوا على شهاداتٍ من شأنها أن تمدّهم بالثقة عندما يعودون إلى وطنهم، وتحت تصرفهم أحدثُ الأجهزة وأكثرها تطوراً، بما في ذلك أحدثُ أجهزة التصوير التشخيصي، ففي عام 2014، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن لدى لبنان 110 أجهزة تصويرٍ مقطعيٍ محوسبٍ لكلّ مليون شخصٍ، مقارنةً بـ 46 جهازاً في الولايات المتحدة و 15 في فرنسا.        
وفي السنوات الماضية أصبحت بيروت قبلةً إقليميةً للسياحة العلاجية بفضل السمعة المرموقة التي تمتّعت بها المرافقُ الصحية في هذه المدينة، ما أكسبها لقبَ ”مستشفى الشرق الأوسط“. وقد واصل لبنان في استقطاب المرضى الباحثين عن خدمات عالية الجودة بأسعارٍ معقولةٍ على الرغم من احتدام المنافسة إثر تأسيس الدول المجاورة قطاعاتٍ صحيةً خاصةً بها، ففي الآونة الأخيرة راح العراقيون على وجه الخصوص يقصدون المستشفياتِ الخاصةَ في بيروت من أجل العمليات الجراحية الرئيسة كجراحة القلب المفتوح أو علاج السرطان، وغالباً ما تأتي هذه العملياتُ ضمن عروض تتضمن خدمات فندقية لقضاء فترة النقاهة بعد إجراء العمليات الجراحية.         
كما اعتمدتِ السياحةُ العلاجية على كثرة اللبنانيين المغتربين الهاربين من التكاليف العالية وفترات الانتظار المطوّلة في منظومات الاستشفاء الغربية. قال رجلٌ لبنانيٌّ عادَ مؤخراً من الولايات المتحدة: ”يسافرُ اللبنانيون الأميركيون إلى بيروت لعلاج أسنانهم، ففي لبنان قد يدفع هؤلاء 70 دولاراً مقابل ما يمكن أن يكلّفهم ألف دولارٍ في الولايات المتحدة باستخدام التكنولوجيا ذاتها بالضبط“. كما أوضحتْ نائبةُ مدير منظمةٍ لبنانيةٍ غير حكوميةٍ كيف أنها ما زالت تربطُ تأمينها الصحي ببيروت حتى يومنا هذا على الرغم من قضائها الكثير من الوقت في المغترب، وتقول: ”أتمسك بخطة تأمينٍ خاصةٍ تغطي النفقات في لبنان فقط، وإذا احتجتُ علاجاً في مكانٍ آخر، فإنني أفضّل العودة على أيّ حال.“

يتغنّى بعضُ العاملين في الطب بنظام الرعاية الصحية في بلدهم

ويتغنّى بعضُ العاملين في مجال الطب بنظام الرعاية الصحية في بلدهم، لا سيما عند التحدث إلى الأجانب، إذ تباهى طبيبٌ جراحٌ في مدينة طرابلس شمال البلاد بالتطور الموجود في المركز الطبي بالجامعة الأمريكية في بيروت بقوله: ”لديهم وحداتُ عنايةٍ مركزةٍ لا تجد مثيلها في الولايات المتحدة“. كما كرَّر اختصاصيٌ في الطب الباطني في مستشفى أوتيل ديو الشهير هذه المقارنة ببلدان أكثر ثراءً بكثير حين قال: ”يضاهي قطاعنا الصحي نظيره في الولايات المتحدة أو فرنسا على الرغم من الاختلافات الموجودة في مجتمعاتنا: هنا يجب أن نتعاملَ مع فقرٍ أكبر من حولنا، ما يجعلنا نتعلّمُ أكثر، ونساعدُ أكثر، ونصبحُ أطباء أفضل حتى من الأطباء في الغرب.“
ولكن على الرغم من تشديد العاملين في ميدان الرعاية الصحية على نقاط القوة في هذا القطاع، غير أنهم ينوّهون إلى الجوانب السلبية في نظام يركّزُ على الطب العلاجي عالي المستوى، نظامٍ يعالجُ الحالاتِ عند ظهورها وحسب من خلال تدخلاتٍ طبيةٍ غالباً ما تكون باهظة التكلفة. على النقيض من ذلك، لا يَلقى الطبُّ الوقائي سوى القليل من الاهتمام رغم تضمنه مجالاتٍ صحية أساسيةً من قبيل الطب العام ورعاية حديثي الولادة والتطعيم، ولذا لا يُستغرب أن تجد في لبنان مستشفياتٍ تضمُّ غرفَ طوارئ فسيحةً وأجنحةً جراحيةً مذهلة جنباً إلى جنب مع عياداتٍ عائليةٍ ذات مستوى متدنٍ، كون هذه الأخيرة تدر أرباحاً أقلّ بكثير.
وأكثرُ ما يتجلى خطأ هذه الأولوياتُ في الغُبن الكبير الذي تتعرض له الممرضاتِ والممرضون، فقد قدّرت دراسةٌ نشرتها المجلةُ العلميةُ PLOS One في عام 2017 امتلاك لبنان ثلاثَ ممرضاتٍ وممرضين فقط لكلّ ألف شخص مقارنةً بما متوسطه ​​ثمانيةٌ في دول الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى تدني شأن الممرضين والممرضات في قطاعٍ يتسيّدهُ الأطباء المتخصصون، يتقاضى هؤلاء رواتبَ متدنيةً، وسرعان ما يُستغنى عنهم كلياً عندما يتعثرُ العمل، وهو ما عبّرت عنه ممرضةٌ تعملُ في طرابلس لم تتقاضى راتبها منذ شهورٍ بقولها شاكيةً: ”الممرضون والممرضات لا يساوون شيئاً هنا، فهم يعاملونا وكأننا عاملو منازلَ صادفَ أنهم يعرفون شيئاً عن الطب.“

تشجّعُ المستشفياتُ الخاصةُ الإسرافَ في الإنفاق ما يؤدي إلى تضخيم فواتيرها

كما تفرضُ المستشفياتُ الخاصةُ التكاليفَ حيثما أمكنها ذلك، وتشجّع الإسراف في الإنفاق، فيؤدي ذلك إلى تضخيم فواتيرها، لا سيما من خلال الإفراط في إجراء الفحوصات وفي كتابة الوصفات الطبية، فكثيراً ما يُطلب من المرضى الذين يعانون من حالاتٍ بسيطةٍ نسبياً، مثل إصابات الركبة أو آلام أسفل الظهر، إجراءُ تصويرٍ بالرنين المغناطيسي، وهو ما أوضحه جرّاحٌ متقاعدٌ بقوله: ”لا تستندُ سياساتُ المشترياتِ والوصفاتِ إلى الاحتياجاتِ الفعليةِ دائماً، بل إلى الأدواتِ والإجراءاتِ التي تحققُ أكبر قدرٍ من الرِبح“، ففي كثير من الأحيان يَتوقّعُ المرضى تناول كثير من الأدوية بعد إجراء فحوصاتٍ طبيةٍ معقدةٍ ومكلفةٍ، فلن تكون وصفة الاسبرين وحسب لعلاج الصداع مقنعة للمريض.. بعد إجراء تصوير للدماغ.        
إن الاستثماراتِ الكبيرةَ بالدولار لدعم الأطباءِ المتخصصين والمعداتِ عاليةِ التقنيةِ يخلقُ حلقةً مفرغةً مدفوعةً بتحقيق الربح. تُعتبر قسطراتُ القلب وغرفُ عمليات القلب المفتوح وآلاتُ الليزر التجميلية مكلفةً عند شرائها وتشغيلها. ولتغطية النفقات، طوّرت بعضُ المستشفيات الخاصة سياسةً للضغط على الموظفين لكي يركّزوا على الأنشطة المدرّة للمال. وصَفَ جرّاحٌ متقاعدٌ كيف كان صاحبُ عملٍ سابقٍ يجبرُ مدراءَ البرامجِ الطبيةِ على استردادِ التكاليف بقوله:
كانت الإدارة تستجوبنا في كلّ شهرٍ: ’لماذا لم تجروا المزيد من الفحوصات؟ لماذا لم تستخدموا منشآتنا بكاملِ طاقتها؟ كم صورة رنين مغناطيسي طلبتم؟ لماذا لا يُبلي برنامجكم بلاءً حسناً هذا الشهر؟ ثم يعاقبون ذوي الأداء الضعيف بمنحهم نوبةً ليليةً واحدة فقط في الأسبوع بدلاً من اثنتين، أو ببساطة قد يستبدلونك بشخص يظنون أنه سيكون أكثر إنتاجاً.        
والمفاضلة النهائية في سوق الرعاية الصحية التنافسي هذا تتعلق بالمعلومات، فالمستشفياتُ تأبى الكشفَ عن أبسط البيانات، وعادةً ما تحتفظُ كل مستشفىً، على سبيل المثال، بأعداد من دخلوا المستشفى أو الحالاتِ المشخصةِ أو الأسرّة المتاحة، ونادراً ما تشاركُ المستشفياتُ الخاصةُ السجلاتِ التي تحتفظُ بها مع السلطات المركزية، حتى بعد أن أصدرت وزارة الصحة العامة تعميماتٍ في عام 2020، في محاولةٍ عبثيةٍ لحصر المعلومات حول حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19. توضّحُ هذه المحاولةُ الفاشلةُ كيف أنّ السرية التي تحرصُ عليها المستشفيات الخاصة تقوّضُ نظام الصحةَ العامة الذي يعتمد على تجميع المعلومات من كل المعنيين. إن من الصعب التحدثُ عن نظامٍ صحيّ بدون بياناتٍ وطنيةٍ، لا غنى عنها لرصدِ الاحتياجاتِ المتغيرة والتكيّفِ معها.        
✜ دولةٌ عليلة ✜
غير أن هذه السلبياتِ ما هي إلا أعراضٌ لمشكلةٍ أعمقَ تتجذر في العلاقة بين قطاعٍ شديدِ الخصخصةِ وبنية البلاد التحتية المتهالكة، وأفضلُ تشخيص لذلك يأتي من وزارة الصحة العامة مباشرةً، حيث يحدّدُ موقعها الإلكتروني هيكلها ومسؤولياتها على النحو الآتي: مجموعةٌ متنوعةٌ وتقليديةٌ من وظائف الصحة العامة، من الإشراف على سلامة الغذاء إلى تنسيق حملات التلقيح، ثم ما تلبث أن تُدلي باعترافٍ عجيبٍ:
نّنوه إلى أن بعض الأقسام المذكورة آنفاً مغلقةٌ تقريباً، ولا يُنفّذ فيها سوى عددٍ قليلٍ جداً من الأنشطة إما بسبب نقص الموظفين أو الحافز، أو بسبب ضعف التمويل. كما صدرَ في عام 1996 مرسومٌ بوقف التوظيف في القطاع العام، ما أدى إلى زيادة العبء على الموظفين، وارتفاعِ المتوسط العمْري للطاقم الطبي، وإهمالِ الكثير من الأنشطة الأساسية.        
تستحوذُ وزارة الصحة العامة على ثالث أكبر ميزانيةٍ من بين الوزارات الخدمية في لبنان، غير أنها تتميز بما هي مقصّرة فيه، فعلى عكس معظم نظيراتها حول العالم، لا تمتلك الوزارة بنكاً للدم أو منظومة اسعاف فوري على مستوى الدولة، كما أنها لا تمتلكُ مختبراً وطنياً مركزياً يتولّى إجراءَ الفحوصات الحيوية فيما يتعلق بمراقبة جودة الأدوية والمخاطر البيئية وسلامة الأغذية والأوبئة. (كان في لبنان مختبرٌ قد جُدد بالكامل في عام 1997 بتمويلٍ سويديٍّ، قبل أن يُهدم بإيعازٍ من أحد السياسيين الذي كان يعيش في الجوار كما زُعم حينها. لم يُبن مختبرٌ بديلٌ عنه، ولم يُعرف مصيرُ معداته).        

تستحوذ الوزارة على ثالث أكبر ميزانيةٍ من بين الوزارات الخدمية في لبنان

وبدلاً من تعزيز قدراتها في المجالات الأساسية، أوكلتِ الوزارةُ أجزاءً أكبر من الرعاية الصحية إلى كياناتٍ أخرى مدفوعة بمعظمها لتحصيل الربح، فعلى سبيل المثال تُرسل عيناتُ شلل الأطفال إلى الأردن لتحليلها بسبب الافتقار إلى مختبرٍ وطنيٍّ، كما تَدفعُ وزارة الصحة العامة المالَ للشركات الخاصة لقاءَ خدمات غسيل الكلى وتنفيذ برامج احتواء مرض السكري، وهي خدمات تقع ضمن اختصاص الوزارة مباشرةً، وأما في المجالات الرئيسة مثل حملات التلقيح، تعتمدُ الوزارةُ على شركاء غير ربحيين كوكالات المساعدات الدولية والجمعيات الخيرية اللبنانية. إن توكيل الآخرين بهذه المسؤوليات يخلق تكاليفَ إضافيةً بدلاً من تخفيف الضغط على الدولة ويعرقلُ مكافحةَ الأمراضٍ الموهِنة.
كما أن الوزارة مقصّرةٌ في الأشكال الأساسية للتنسيق والرقابة والتنظيم في قطاعٍ مقسمٍ بين المستشفيات الخاصة والمرافق العامة والمنظمات المدنية والجهات الأجنبية. تُصْدرُ الوزارة مراسيمَ وتعميماتٍ تهدفُ إلى تنظيم القطاع، غير أنها نادراً ما تنفذها، وخيرُ مثالٍ على ذلك هو البدء بإصدار الوصفات الطبية الموحّدَة في عام 2011 بهدف حصر البيانات، وحثّ الأطباء على وصف أدويةٍ بديلةٍ مكافئةٍ للعلامات التجارية باهظةِ الثمن، والحد من الإفراط في وصف الأدوية. أدّت العقبات الإدارية والعراقيل التي وضعتها المستشفيات الخاصة إلى تأخير تنفيذ الخطة أربعَ سنواتٍ، ولا يزال التنفيذ فاتراً حتى يومنا هذا.
وبدلاً من تولي دورٍ قياديٍّ، ينتهي الأمرُ بوزارة الصحة العامة إلى حصر عملها بعدد من الوظائفَ المنفصلةٍ، لا سيما تحديد الأدوية التي ستتلقى الدعمَ من البنك المركزي، والتفاوض بشأن اعتماد المستشفيات الخاصة، وتعيين ممثلين عنها في مجالس إدارة المستشفيات العامة، والإشراف على حملات التلقيح الروتينية التي عادة ما تنفذها المنظماتُ غير الحكومية. تدير وزارة الصحة 29 مستشفىً حكومياً، بيد أن هذا الرقم متواضع مقارنةً بعدد المستشفيات التي تسعى للربح، فوفقاً لأرقام وزارة الصحة العامة، يوجد في لبنان 157 مستشفىً خاصاً، وبالتالي فإن الدور الضئيل الذي تضطلعُ به الوزارةُ يثيرُ تساؤلاً واضحاً: علامَ تنفقُ ميزانيتها الضخمة؟        
تكمنُ الإجابةُ في سجل الموارد التي تغدقها الوزارة على مستشفيات القطاع الخاص على حساب بنيتها التحتية، ووفقاً لدراسةٍ نُشرت في مجلة شرق البحر المتوسط​​ الصحية التابعة لمنظمة الصحة العالمية، يعودُ هذا التوجه إلى حقبة الحرب الأهلية في لبنان عندما ارتفعت مخصّصاتُ الرعاية الصحية الخاصة في ميزانية وزارة الصحة العامة من 10 إلى 80 في المئة. وجدتْ دراسةٌ حديثةٌ أجراها مركزُ المعرفة إلى السياسة (Knowledge to Policy Center) ومقره بيروت أن المستشفياتِ العامةِ تلقّت أقل من 2 في المئة من إجمالي الأموال التي تُنفق على الرعاية الصحية في البلاد.        
إن الجزء الأكبر مما تدفعه وزارةُ الصحة من مالٍ للمستشفيات الخاصة يُستخدم لتسديد النفقات التي يتكبدها المرضى الذين يتمتعون بشكلٍ من أشكال الرعاية الحكومية. تعتمدُ شريحةٌ واسعةٌ من المجتمع على خطط الضمان الاجتماعي المدعومة من الدولة، بما في ذلك الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونية موظفي الخدمة المدنية، والتغطية المقدمة لأفراد الجيش والأمن، وحتى من لا تأمين لهم على الإطلاق يحقُّ لهم تقنياً الحصولُ على الرعاية الطبية المدعومة من الدولة. في المستشفيات الحكومية، تغطي أنظمةُ التأمين العامةُ نحو 95 في المئة من الفواتير، وأما في المستشفيات الخاصة، فتغطي 85 في المئة. يختار كثيرٌ من المرضى الخدمةَ الأفضل بالنظر إلى هذا التفاوت الصغير، فوفقاً لأرقامٍ متفرقةٍ من وزارة الصحة العامة، اختارَ أكثرُ من ثلثي المرضى ممّن لا تأمين لديهم المستشفياتِ الخاصةَ في عام 2008.       

الترتيب الناتج عن ذلك تشوبه الدوافع الخاطئة

والترتيب الناتجُ عن ذلك تشوبه الدوافع الخاطئة، إذ يفضّلُ المرضى المستشفياتِ الخاصةَ التي تخفّضُ من إنفاقها بينما تضخّم الفواتير، لا سيما من خلال الإفراط في إجراء الفحوصات والإجراءات الجراحية التي نوقشت أعلاه. وما يزيد الطينَ بلّةً أن وزارة الصحة العامة لا تمارس أية رقابةٍ على ما تقدمه من تعويضاتٍ، وتتفاوض مع كل مستشفىً على السقف السنوي الذي ستسدده. ومن المثير للدهشة أن الوزارة لا تدقّقُ هذا المبلغ المقطوع في نهاية المطاف، كما قد يشوبُ عمليةَ التفاوض السعيُ وراءَ الربح. تحدّثَ طبيبٌ في طرابلس مندداً بالفساد المستشري بعد أن فشل في إنشاء مستشفاه الخاص بقوله:
إن الاعتماداتِ المقدمةَ للمستشفيات الخاصة تدرُّ الربحَ الكثير، فمثلاً قد يتفاوض المستشفى على سقف بقيمة مليار ليرة، ولكن فقط بعد أن تُسلمَ حقيبةٌ من المال لطرفٍ ثالثٍ مهمته تسهيلَ الصفقة، ثم إذا تجاوزت المستشفى الحد المسموحَ به عند إعداد الفواتير، فقد يتوجب عليها تسليم حقيبةٍ أخرى من المال! تمثّلُ الرشوةُ مشكلةً كبيرةً في هذا القطاع لأنه مبنيٌ كلياً على تحقيق الربح.        
لا يمكن التأكد من صدق هذه المزاعم على نحوٍ مستقلٍ، لكنّ تحيّز الوزارة الهيكلي لصالح القطاع الخاص مكشوفٌ على أي حال، وقد أصبح هذا التحيّزُ أكثر وضوحاً بسبب وباء كوفيد-19، حيث كانت المستشفيات الخاصة مترددةً في تحمّل نصيبها من المسؤولية في مكافحة الجائحة، ومع ذلك استمرت وزارة الصحة العامة في منحها المواردَ المتعلقةَ بالوباء على حساب مرافقها، فعلى سبيل المثال أرسلت الوزارةُ فقط ربعُ المعدات الطبية المقدمة من خلال منحة تونسية إلى مستشفى رفيق الحريري الجامعي الذي تحمل وطأة الاستجابة الأولية للفيروس، وسلّمت الباقي إلى المركز الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت الذي يتمتع أساساً بدعمٍ دوليٍ سخيٍ، والذي بلغ ما في حساباته من أصولٍ نحو ملياري دولارٍ في عام 2019.
ومنذ أن بدأ الاقتصاد اللبناني بالانهيار، أصبح الشغلُ الشاغل لوزارة الصحة العامة دعمَ القطاع الخاص إلى أقصى حدٍّ ممكن من خلال إيجاد طرقٍ لسداد مستحقاته المتراكمة، لكن من الناحية المالية، لا يمكن الاستمرار في محاولة الحفاظ على النظام كما هو قائم حالياً، والأسوأ من ذلك أن هذه المحاولة تشغل الوزارة عن دورها الأساسي في التفكير بحلولٍ لمشاكل القطاع وتسهيل عمله، وبفعل استنزافها مالها وسلطتها، تفشلُ وزارة الصحة العامة في بدء الاستثمار في البنية التحتية للصحة العامة التي يحتاجها اللبنانيون الذين تضعفُ قدرتهم الشرائية يوماً بعد يوم، وبدلاً من ذلك يُترك المواطنون ليبتدعوا الحلول بأنفسهم وليبحثوا عن علاجٍ طبيٍّ رخيص التكلفة في هذا المشهد الذي يزداد تفككاً وتعقيداً.         
✜ عامةُ شعبٍ أعيتهم الحيلة ✜
يواجهُ عامةُ اللبنانيين عقباتٍ في الحصول على الرعاية المناسبة حتى في أفضل الأوقات، إذ يجب عليهم أولاً معرفة من ينبغي أن يقصدوه طلباً للعلاج. في معظم البلدان يبدأ المرضى باستشارة الأطباء العامين الذين يشكّلون ما يُسمى المستوى الأولي للقطاع الصحي والذين يحوّلون المرضى إلى قسم المستشفى ذي الصلة، لكن الناس في لبنان يتوجهون إلى المستوى الثاني مباشرةً. إن هذه العادة، في جزءٍ منها، هي نتاج قصورٍ في وعي العامة حيال خيارات الرعاية الأولية، وذلك نظراً لتركيز القطاع على الخدمات المتخصصة. قال طبيبٌ شابٌ يتدرّب في مستشفى أوتيل ديو: ”لدينا عيادةٌ لطب الأسرة فيها خيرةُ الأطباء الذين يقدمون المشوراتِ لقاء رسومٍ رمزيةٍ، ولكن لا يبدو أن أحداً يعلمُ بوجودها.“
ولذا يلجأُ المرضى إلى سبلٍ ارتجالية وأحياناً اعتباطيةٍ للحصول على الرعاية معتمدين على خبراتهم السابقة، وعلى من يعرفونهم من أطباء، وعلى ما يتردّدُ إلى مسامعهم من معلومات، وفي نهاية المطاف يقصدون من يثقون بهم أكثر مما يقصدون الأكفاء، إذ قد يقصدُ شخصٌ يعاني من آلام أسفل الظهر – وهي حالة متعلقة بالطب العام – جراحَ عظام بدلاً من الطبيب العام. وصَفَ متدربٌ في الطبِّ كيف تصبح هذه الحالاتٍ عبثيةً بقوله: ”من الطبيعي رؤية مرضى يعانون من التهابات المسالك البولية في قسم أمراض القلب لمجرد أن طبيب قلبٍ يعرفونه قد وافقَ على الإشراف على علاجهم“. بطبيعة الحال، يمكن أن يؤدي هذا الارتجال إلى انعدام الأمن، إذ يلجأ المرضى بانتظامٍ إلى معارفهم بحثاً عن آراءَ أخرى حول التشخيص أو الوصفات الطبية.
ثم ما يلبث المرضى أن يصطدموا بالبيروقراطية المتفشية بمجرد أن يقرروا من أين يبدؤون، فلكي يدخلوا المستشفى، يجب على المرضى إثباتُ أن نفقاتهم ستُغطى مقدماً من خلال بوليصة تأمين خاصة، أو نظام ضمانٍ اجتماعيٍ، أو وزارة الصحة العامة نفسها، أو وديعةٍ نقديةٍ. تُطلق هذه الخطوة العنانَ لعملية مرهقةٍ من الأخذ والردّ تستمرُ طوال الرحلة الطبية للمريض، حيث يتطلبُ كل إجراءٍ جديدٍ موافقةً مسبقةً. روَتْ مخرجة أفلامٍ تجربتها المريرةَ في أعقاب تعرّضها لحادث سيارةٍ: ”إن وقوع حالة طبية طارئة يعني الدخول في كابوس معرفة من سيسدد الفواتير، ولا ينتهي الأمر ببساطة أو بهدوء أبداً“. وبعد أن بدأت علاجها في إحدى المستشفيات، اضطرت هذه المخرجة إلى الانتقال إلى مستشفىً آخر للبقاء في حدود الميزانية التي وافقت عليها شركةُ التأمين.         

يلجأ المرضى إلى سبل مرتجلة وأحياناً اعتباطية للحصول على الرعاية الطبية

وحتى المرضى الذين تغطي الدولة نفقاتِ علاجهم يجبُ عليهم التعامل مع الإجراءات البطيئة والمشؤومة، فمثلاً لا تنسّقُ المستشفياتُ مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تاركةً للمرضى إدارةَ هذه العملية المتذبذبة بأنفسهم. وهناك مشكلةً أخرى آخذة في التفاقم وتتمثل في انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، فالمستشفيات الخاصة تطابق فواتيرها مع قيمتها في السوق السوداء، بينما يتشبث الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بقائمة أسعارٍ قديمةٍ وفقاً لسعر الصرف الرسمي. وبينما يجد المزيد من المرضى صعوبةً في سداد فواتيرهم، تنخفض نسبة ما تغطيه الدولة عملياً أكثر فأكثر.
وما يزيدُ الإرباكَ في هذا القطاع حقيقةُ أن المستشفيات نادراً ما تقدم حزمةً كاملةً ومتماسكةً من الخدمات، فبدون تنظيمٍ حكوميٍ، للمستشفياتُ الخاصةُ كاملُ الحرية في انتقاء واختيار ما ستقدمهُ من خدماتٍ، ما يترك فجواتٍ صارخةً في بعض الأحيان. وصَفَ عاملٌ أجنبيٌّ وضعتْ زوجته مولوداً في لبنان كيف يمكن أن تشمل عمليةُ الولادة ثلاثَ مؤسساتٍ مختلفةٍ، إذ أشرفت إحداها على الولادة لكنها لم تُجرِ فحوصات ما بعد الولادة، بينما أجرتِ الثانيةُ الفحوصاتِ لكنها لم تشرحها. وأخيراً حظي الزوجان بمساعدةٍ من طبيبٍ في عيادة بعد أن نشَرَ صديقٌ نداءً للحصول على المشورة على موقع فيسبوك. قال أحدُ الأطباء المعنيين: ”تخيّل أن عمليةً أساسيةً كهذه قد تستغرق خمسة أيامٍ دون إحساسٍ بإحراز تقدمٍ أو أية فكرةٍ عمّا يجب القيام به بعد ذلك!“
وللخروج من هذه المتاهة، يتوجب على المرضى ارتجال الحلول في كلّ منعطفٍ تقريباً، فغيابُ التنسيق بين المستشفيات الخاصة يعني أن على المرضى تجميعَ سجلاتهمُ الصحيةِ وأخذها من مستشفىً إلى آخر، كما أنهم يلجؤون إلى شبكاتهم للعثور على الدواء المناسب الذي قد لا يكون متوفراً في بعض الصيدليات، أو باهظ الثمن في بعضها الآخر، أو مخزناً تخزيناً سيئاً (كما في حالة البدائل الأرخص التي تُستورد بصورةٍ غير قانونيةٍ)، أو قد يكون مزيفاً. كما يطلب الناسُ زمر دمٍ معينةٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسبب الافتقار إلى بنك دمٍّ وطنيٍ.        
وقد تثقلُ هذه التقلباتُ والمنعطفاتُ كاهل المرضى بتكاليفٍ باهظةٍ، ولا عجبَ أن يقع العبء الأكبر على عاتق أكثر الفئات ضعفاً في المجتمع، فمن حيث المبدأ، تضمن وزارة الصحة العامة تغطيةَ المرضى ممّن لا تأمين لهم حتى في المستشفيات الخاصة، لكن فعلياً تميزُ المستشفيات الخاصة علناً ضد ما يُسمى ”عامة المرضى“ الذين قد يحصلون على أسرّةٍ من الدرجة الثالثة، ويعَامَلُون باستخفافٍ من قبل الأطباء والممرضات، ويُمنحون خياراتِ علاجٍ محدودةً، وهو ما أوضحه متدربٌ في الطبّ بقوله: ”تتوجّسُ الإدارة من هؤلاء المرضى لأن الوزارة لا تسدّدُ نفقاتهم في أغلب الأحيان، و قد تصعّب الإدارة العمليةَ من خلال طلب أوراقٍ أكثر من المعتاد.“       

قد تثقلُ هذه التقلباتُ والمنعطفاتُ كاهل المرضى بتكاليفٍ باهظةٍ

وغالباً ما يعني هذا التحيز أن على أكثر المرضى عوزاً إمضاء الكثير من الوقت في البحث عن مستشفياتٍ تعالجهم، وعندما يجدون الرعاية، يلاقي كثيرٌ منهم صعوبةً في دفع حصّتهم من التكاليف. أظهرت دراسة أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت ونُشرت في عام 2005 أن الفقراء ينفقون في المتوسط ​​20 في المئة من دخلهمُ الإجماليّ على الرعاية الصحية، أي أكثر من ضعفي ما ينفقه بقيةُ السكان. استذكر حارسُ مبنىً في جنوب بيروت خضعَ لعملية بتر إصبع القدم كيف كانت الفاتورة باهظة بقوله: ”تدبّرتُ أمري بفضل مساعدةٍ من أختي وأصهاري لدفع تكاليف الأشعة السينية والعمل الجراحي والأدوية.“        
وعندما لا تكفي الشبكاتُ العائليةُ لتأمين الموارد المطلوبة، يلجأ بعض اللبنانيين إلى الأحزاب السياسية وزعمائها، وهو ما أوضحه طبيبٌ في طرابلس بقوله: ”سيجدُ المرضى الذين لا طاقة لهم بتسديد فواتيرهم سياسياً أو آخر ليسددها. هؤلاء الناس يحكموننا، لذا يجب أن يدفعوا، وهم يفعلون ذلك“. عادةً ما تتمتّعُ هذه الشخصيات بعلاقاتٍ قويةٍ مع مؤسساتٍ طبية تمنحهم شروطاً تفضيلية. كما أنهم كثيراً ما يديرون المؤسساتِ والجمعياتِ الخيريةِ والمستوصفاتِ التي توفر رعايةً أساسيةً ميسورة التكلفة كشكلٍ من أشكال المحسوبية.
وأخيراً يضمُّ هذا القطاع الذي بُني على عَجَلٍ مجموعةً من المنظمات غير الحكومية وغير السياسية، المحلية والدولية، التي ازدهرت في البلاد منذ الحرب الأهلية، إذ يوفرُ الصليبُ الأحمرُ اللبنانيُ خدمةَ الإسعاف الفوري للحالاتِ الطارئة، وتتلقى منظمات كثيرة كمؤسسةُ عامل وجمعية الشبان المسيحيين اللبنانية التمويلَ من أجل تقديم خدماتٍ متنوعةٍ ومتداخلةٍ في بعض الأحيان، كالعياداتِ المتنقلة وتوزيع الأدوية وإدارة ملف الأمراض المزمنة. في غضون ذلك، تتحملُ وكالات الأمم المتحدة بعض التكاليف الطبية المتعلقة باللاجئين السوريين والفلسطينيين. إن هذه الوفرة في مقدمي الخدمات الصحية، والتي غالباً ما تعتمد على تدفقات التمويل من الخارج، تُعفي الدولةَ من واجباتها، وتعززُ غريزةً لبنانيةً خالصةً، وهي الثقة في أي شيءٍ أكثر من الثقة بالدولة، ما يُضعِفُ بالتالي حافزها للتغيير.        
✜  ✜  ✜
هنالك ثمنٌ باهظٌ يجب دفعه مقابل عقودٍ من ضعف الاستثمار في الصحة العامة في لبنان، وقد تستَّرَ البلدُ حتى الآن على المشاكل من خلال الاعتماد المفرط على التدابير العلاجية والإفراط في وصف الأدوية، بينما أُهمل الطبُ الوقائي والوقاية الصحية الأساسية والأمن الغذائي ومكافحة التلوث، وبالتالي يمكننا الآن توقعُ زيادةٍ حادةٍ في الأمراض المعدية والمزمنة في بلدٍ غير مهيئٍ لمواجهتها. إن انتشار الربو، أو عودةَ الكوليرا، أو انتشار حالات التسمم الغذائي هي مشاكلٌ لا يمكن حلّها من خلال نهج لبنان التقليدي القائم على مبدأ ”تدبر أمرك بنفسك“.        
يرى كثيرٌ من اللبنانيين أن الحلّ يظلُّ في الدور المتنامي للقطاع الخاص بالنظر إلى إفلاس الحكومة وسوء تعامل وزارة الصحة العامة مع أزمة كوفيد-19، لكن الحقيقة هي أن غالبية المؤسسات الخاصة لم تعد قادرةً على البقاء، فقاعدة عملائها من الطبقة المتوسطة تتقلص بسرعةٍ، والسياحةُ العلاجيةُ آخذةٌ في التراجع​​، وتكاليفُ معداتها آخذةٌ في الارتفاع ارتفاعاً كبيراً. إن هذه المؤسساتِ لا تختلف عن البنوك اللبنانية، فهي في أبهى حلّة فقط ما دامتِ الدولة تتحمل الفاتورة، كما أن برامج المساعدات الدولية والمنظمات غير الحكومية المحلية لا تقدمُ البدائل، فتدخلاتها محدودة الحجم والنطاق ومنفصلةٌ عن بعضها البعض، وستعتمد كفاءتها الإجماليةُ دائماً على قدرة الدولة على تنسيق القطاع.        
وبالنظر إلى حال الوزارة اليوم، فإن وضع أهدافٍ طموحةٍ أكثر مما ينبغي يعني أن لا شيء سيحدثُ البتّة، فليس من الضروري أن تتصف الدولة بالكمال، وكلُّ ما عليها فعله هو البدءُ في الاضطلاع بأدوارها الأساسية التي لا بديل عنها ببساطة، وأولها جمعُ المعلومات وتحليلها ونشرها، وهي أمورٌ يمكن القيام بكثير منها بأقل التكاليف. لقد كانت العقبة ثقافية في غالبها، حيث امتنعت وزارة الصحة العامة عن الاطلاع على سجلات القطاع الخاص في حين فشلت في إنتاج بياناتٍ متسقةٍ خاصةٍ بها.        
تتمثلُ الأولوية الأخرى في البدء في إعادة توجيه الموارد من خلال تقليصِ الدعمِ المقدّم للمستشفيات الخاصة الأعلى تكلفة وغير الملائمة وللأدوية ذات العلامات التجارية الباهظة، كما يجب أن يُحوّلَ جزءٌ متزايدٌ من ميزانية الوزارة لصالح مراكز الرعاية الصحية الأولية والأدوية المكافئة، وأخيراً يتعيّن على وزارة الصحة العامة إعادةُ التفكير جذرياً في نظام الضمان الاجتماعي ليتسنّى للبنانيين التمتعُ بشبكة أمانٍ في وقت الحاجة. لا يمكن لأيٍ من ذلك أن يحدث بين عشيةٍ وضحاها، غير أن على البلاد ألا تستمر في السقوط في الهاوية، فاتخاذ الخطوات البسيطة هو كلُّ ما يلزم للبدء في النهوض من جديد.  

السابق
تهمة اغتصاب زوجي تلاحق فنان مصري وهذا رد عمرو أديب
التالي
وائل كفوري وإليسا يغنيان في الرياض على ذات المسرح دون لقاء