وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: هكذا تكون حياة الكبار

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

رحل العلامة المفكر السيد محمد حسن الأمين. رحل بصمت الكبار كأبلغ وسيلة للرد على منتقديه أو مبغضيه. رحل بعد أن اغترب الكلام عن معناه، وسكن الارتكاس منابر الحقيقة ومجالس الفكر، وتمدد الأفول فوق السطوح وعشب الأرض حاجباً ضوء البصيرة عن البصر. رحل بألم وحزن على ما آل إليه حال من حوله، اعتزل الغوغاء التي باتت منتشرة كالجراد وتلوث الأرض وهواءها بمجرد وجودها، وجانَب الحشود التي تستنزف الحياة وتُجَوِّفُ قيمتها ومعناها باسئلتها اليومية وأحاديثها التافهة. هي عزلة لا فراغ فيها ولا كرهاً لأحد، إنما هي ملاذ الأرواح الممتلئة ووطن النفوس المرهفة والمتلهفة إلى سماع ترانيم الحياة ومعزوفة الوجود.

كان إسلام السيد، وهو من سلالة علماء عريقة، هو إسلام العقل المتبصر، إسلام رؤية المشهد بكليته (Bird’s Eye) ليكون بالإمكان تفسير الجزئيات ولم شتاتها ، وليسهل فهم وتفسير النقاط النافرة وتبديد الصور المتناقضة. إنه إسلام التأويل، الذي يُطل على الماوراء وما تحت وما فوق، أي نشاط الفكر الذي لا ينصت للنص بل يحاوره ليخرج أفضل ما عنده، ولينبثق باستمرار وعي متجدد تنكشف معه مساحات معنى وذرى روح غير مسبوقة.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. «من بعدي الطوفان»!

لم يكن إسلام السيد إسلام حزب أو أيديولوجيا، بل لم يكن إسلام مذهب خاص يفرز الناس إلى ناجين وهالكين، رغم حبه الدفين لآل البيت. إسلام السيد لم يكن خلواً من مكان والتركز والتموضع في مكان آخر، بل هو طاقة منتشرة ترفد الحياة بكل مظاهر تجسُّدِها وتحقُّقِها وتهبها قوة إظهار كامل إمكاناتها. فالإسلام عنده ليس خياراً مقابل خيارات أخرى، طريق من بين عدة طرق، بل هو القوة التي تقف وراء الكشف عن الخيارات، استنارة عقل للمصيبين والمخطئين، واستضاءة روح للمهتدين والضالين معاً. بهذا الفهم، أخرج السيد الإسلام من تقابل العقل والنقل، جدل الهوية، وثنائية الأسلمة والعلمنة لحقائق الأنظمة. الإسلام عنده حاضر في العقل مثلما أن العقل حاضر في النقل، بحكم أن كلاهما يتقاطعان ويتداخلا في مجرى الوجود والنشاط الإنسانيين. إنها ذهنية جمع فيها السيد رحمه الله بين رشدية (نسبة إلى ابن رشد) وتوماوية (نسبة إلى توما الأكويني) تحقق عبرهما تآلف الدين والعقل في سير الوجود الإنساني، وتحولهما معاً وجهين لحضور وتدبير إلهي واحد لترشيد خيارات الوجود الإنساني.

كانت العلمنة بنظر السيد في أصولها الفلسفية العميقة لا في شعاراتها الأيديولوجية وسجالاتها السياسية

لذلك كانت العلمنة بنظر السيد، في أصولها الفلسفية العميقة، لا في شعاراتها الأيديولوجية وسجالاتها السياسية، وجهاً من وجوه الإسلام، أي العلمنة التي تستنير بقانون الطبيعة والإبتكار العقلي وحرية الإرادة الإنسانية. فالعلمنة في حقيقتها الإنسانية مساحة ابتكار وحرية، لا يعود فيها الدين سلطة حظر ومنع خارجية، بل قوة استنارة داخلية للإنسان في سير صنع وجوده وتقرير مصيره، تخرجه من أية وصاية خارجية إلى الابد.

كانت فلسطين دائماً قضيته، لكن فلسطين السيد، لم تكن مجرد استعادة مكان أو تحرير بعض مقدسات مدونة في سجل الآثار، أي لم تكن مجرد حرب تحرير عسكرية، بل لم تكن نوايا أو موقف معلنة أو انتماء وانسلاك في جبهة أو انضمام إلى حلف أو مادة تعبئة وتحشيد أو حتى ظلامة شعب خاص. هي عنده مسألة أخلاقية ومعنى وجودي، لا تختزلهما شعارات المزايدة، ولا تستنزفهما السياسة، ولا تسقطهما معاهدات السلام. فلسطين السيد هي انتصار للوجود الإنساني واستنقاذ لقيمتها وانحياز لنمط عيش كريم مقابل عيش آخر. بهذا لم تكن فلسطين قضية مسلم ضد يهودي، إزالة كيان قائم واستبداله بكيان آخر مع قطع النظر عن قاعدته الأخلاقية وأسسه الإنسانية، بل قضية حياة إنسانية ونمط وجود يتحقق ويترسخ فوق تلك الأرض، قضية انتصار لحق منتهك ومواجهة وضعية استلاب أو تَعدٍ تنتج كل صور التشريد والتقتيل.

لم يفشل مشروع السيد رغم تصدي القوى مجتمعة ضده، فالفكرة الحقة لا تموت ولا تفنى

أما لبنان، هذا المعشوق الأسطوري في قلب السيد، هذا البلد الذي عاش فيه ولأجله. هذا الوطن الذي أراده نموذج حياة وفرصة فرادة وتميز. أعطاه كل ما عنده بلا منة، وسعى قدر إمكانه، بل راهن بكل ما يملك من مكانة وطاقة، لخلق بقعة ضوء أو فسحة أمل، وسط ظلمة الطائفية الحالكة والخبث السلطوي، من أجل لبنان رحب ومتنوع ومتعدد وخلاق. لم يفشل مشروع السيد، رغم تصدي القوى مجتمعة ضده، فالفكرة الحقة لا تموت ولا تفنى، بل تتحين فرصة تحققها في أزمنة أخرى.

رحل السيد ورحل معه ذلك النجفي المتنور الذي تشبع من خُلقيات علي ابن أبي طالب وعُرفانيات زين العابدين

رحل السيد، ورحل معه ذلك النجفي المتنور، الذي تشبع من خُلقيات علي ابن أبي طالب وعُرفانيات زين العابدين، وأطل على الحداثة من بابها الواسع، لا ليساجلها ولا ليدعو إليها بل ليفهمها ويؤولها رؤى تصلح لزماننا ومكاننا. عاملي أصيل أخرج الإسلام من ذهنية الفسطاطين، وعقدة الفرقة الناجية، بل حرره من الخطاب الدعوي الذي يظهر الإحترام للآخر في الشكل ويزدريه في الباطن. عالم رباني، قارب وفهم الإسلام من خلال الإنسان والعالم الفعلي، لا أنه فهم وفسر وأنتج الإنسان والعالم من خلال الإسلام، فكان إسلاماً كونياً، بمعنى تحوله إلى حقيقة مكوننة، بدلا من تحويل العالم والإنسان إلى حقيقة مؤسلمة، مثلما تفعل الإسلامويات المعاصرة. فلم يعد ديناً مقابل دين آخر، أو دعوة للانزياح من هوية وموقع إلى هوية وموقع آخرين، بل بات بنظر السيد، ديناً خال من ادعاءات الحصر ومُلكية الحقيقة، وإضافة جديدة رحبة ومتواضعة، تضاف إلى أرصدة الحياة الإنسانية وخبراتها المتنوعة.

رحيل السيد، خسارة لا تعوض، فراغ يصعب سده، حزن لن يذهب، أثر لن يفنى، وذاكرة كثيفة الغنى بدأت من الآن رحلة اكتشافها والتعرف إليها.

السابق
تقبل التعازي بالعلامة الأمين يتواصل..إشادة بالدور الوطني للراحل الكبير
التالي
مؤتمر منتظر لعلية غداً.. وفضائح تُكشف للمرة الأولى عن صفقات الفيول والبواخر!