١٦ عاماً ولا تُجدي «شيطنة» رفيق الحريري!

في الذكرى السادسة عشرة لإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يبقى الرجل هو الغائب - الحاضر سواء لدى خصومه أو لدى محبيه - وما أكثرهم في الجانبين - فخصومه يحاولون حتى اليوم وبعد 16 عام على غيابه أن يحمِّلوه وزر ما وصل إليه البلد هذه الأيام ويدرجونه في خانة حصاد ما يسمونه " الحريرية السياسية " ورؤيتها الإقتصادية وهي تسمية حق يراد بها باطل ، أما من محبيه فيرون في غيابه غيابا للحلم الجميل والأمل الذي عاشوه فترة من حياتهم قبل أن يصحوا وقد تحول إلى كابوس بفعل إغتياله ، ودليلهم هو ما حصل منذ جريمة 14 شباط 2005 حتى اليوم .

يمكن القول أن رفيق الحريري كان دائما ولا يزال حتى بعد غيابه الرجل المفترى عليه، منذ لحظة دخوله السلطة لأول مرة في العام 1992 بعد حوالي عشر سنوات من دخوله العمل العام في لبنان في أعقاب الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ، حين دخل من باب تقديم المساعدة لرفع الأنقاض من بيروت ومحاولة إعادة الحياة إليها أو إعادتها إلى الحياة بعد الخراب الذي حل بها وبلبنان عموما بفعل الإجتياح الصهيوني.

إقرأ أيضاً: لماذا اغتال عناصر من «حزب الله » رفيق الحريري؟ (2)

وكذلك عبر تعليم الآف الشباب اللبناني في الوقت الذي كان فيه الآخرون يرمون بهم في أتون الحرب بشعارات رنانة، وبعدها في العامين 83 و 84 بعد معارك الجبل والضاحية على خلفية إتفاق 17 أيار بين السلطة اللبنانية يومها وإسرائيل ، كمبعوث للملك السعودي للوساطة بين الأفرقاء اللبنانيين من جهة ، وبين السلطة اللبنانية الممثلة بالرئيس أمين الجميل يومها والنظام السوري من جهة أخرى. هذه الوساطة التي أدت لإجتماعات جنيف ولوزان و أفضت لإلغاء إتفاق 17 أيار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ضمت كل الأطراف الفاعلة على الأرض في تلك الفترة وهي تقريبا نفس أطراف السلطة الموجودة اليوم، بإستثناء التيار العوني الذي ولد من رحم الحكومة العسكرية التي تسلمت السلطة بعد فشل إنتخاب رئيس جديد للجمهورية بديلا للرئيس أمين الجميل عام 1988، والتي كان لقائد الجيش يومها ميشال عون الدور الكبير في عدم إتمام عملية الإنتخاب بذريعة رفض مبدأ ” مخايل الضاهر أو الفوضى “، الذي نتج يومها عن إتفاق أميركي – سوري لإنتخاب مخايل الضاهر رئيسا.

رفيق الحريري
رفيق الحريري

فكانت الفوضى بعدها التي أدت إلى المزيد من الدمار والقتل جراء الحروب العبثية التي قادها ميشال عون يومها تارة تحت شعار حرب التحرير ، وأخرى تحت شعار إلغاء الميليشيات وبسط سلطة ” الدولة ” على جميع الأراضي اللبنانية ، الأمر الذي أوصل إلى إتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية ، والذي كان لرفيق الحريري دور كبير في التوصل إليه والتفاهم حوله .

الحريري بعد عام 1992

في العام 1992 تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة للمرة الأولى بعد أول إنتخابات نيابية تجري في لبنان منذ عشرين عاما ، وكان البلد في حال يرثى لها جراء خمسة عشرة عاما من الحرب التي قضت على كل مقومات الدولة الحديثة ، وما أنجبت سوى أمراء حرب ما لبثوا أن أصبحوا زعماء يحسب لهم ألف حساب، ولهم رأيهم في إعادة بناء البلد وهي مهمة لم تكن سهلة في بلد يقوم على التوازنات الطائفية والمذهبية ، فضلا عن وجود سلطة الوصاية السورية وتبعاتها من صراعات إقليمية ومصالح في ظل عملية السلام، التي كانت قد بدأت في مدريد يومها بعد حرب تحرير الكويت، وهذا ما يتجاهله دائما عن سوء نية غالبا خصوم رفيق الحريري ومبغضوه، هو الذي تصدى لهذه المهمة بكل شجاعة وثقة وإيمان رغم كل العقبات والعراقيل التي وضعت أمامه من قبل أمراء الحرب أنفسهم، الذين كان لهم اليد الطولى في دمار وخراب البلد بغض النظر عن مبررات كل منهم ، أخذ الرجل على عاتقه مهمة إعادة إعمار ما خربته الحرب وخاض معارك قاسية في الداخل ، إذ تعرض للهجوم تارة من قبل بعض اليسار الطفولي والمغامر على خلفية إيديولوجية عندما إتهموه بأنه صاحب مشروع رأسمالي متوحش إقتصاديا خاصة مع سقوط الإتحاد السوفياتي.

فكان وكأنه هو المسؤول عن هذا السقوط ، فبات بنظرهم صاحب مشروع سياسي أميركي وحتى صهيوني ، وتارة من قبل بعض اليمين العنصري على خلفية طائفية عندما إتهموه بـ ” أسلمة ” البلد، وبأنه صاحب مشروع سعودي يهدف إلى تهجير المسيحيين من لبنان وتوطين الفلسطينيين بدلاً عنهم . بموازاة ذلك تعرض الرجل لضغوطات خارجية وتهديدات من العدو الصهيوني على خلفية عمليات المقاومة ضد الإحتلال في الجنوب والبقاع الغربي ، فكان عدوان عام 1993 الجوي على لبنان وتهديد العدو صراحة بأنه لن يسمح للحريري بإستكمال مشروعه لإعادة الإعمار ، ومن ثم عدوان 1996 الذي أنتج تفاهم نيسان، الذي شرَّع المقاومة والذي كان تتويجاً لجهود الحريري الجبارة يومها في جولاته على عواصم القرار في العالم، حاملاَ معاناة وطنه وشعبه خاصة بعد مجزرة قانا الأولى التي إرتكبها العدو الصهيوني ضد المدنيين في أحد مراكز القوات الدولية،ومن ينسى يومها تكفله بأطفال شهداء المجزرة حتى بلوغهم سن الرشد .

عندما تسلم رفيق الحريري مهمة رئاسة الحكومة كان البلد أنقاض ، وكانت الكلاب الشاردة تسرح وتمرح في وسطه التجاري!

عندما تسلم رفيق الحريري مهمة رئاسة الحكومة كان البلد أنقاض ، وكانت الكلاب الشاردة تسرح وتمرح في وسطه التجاري، وكانت تخرج ليلاً إلى الشوارع المجاورة وتهاجم الناس وهذه حقيقة يعرفها كل من عاش تلك المرحلة ، وكانت صورة لبنان في الخارج سوداوية وسمعة اللبنانيين في الحضيض جراء سني الحرب التي وصمت لبنان واللبنانيين بالقتل والخطف والإرهاب ، وكان اللبناني مشبوها لدى مروره في مطارات العالم وهذه أيضا حقيقة لا مبالغة فيها ونعرفها نحن المغتربين حق المعرفة .

اعادة الإعمار

كل هذه الأجواء سواء في الداخل والخارج تغيرت مع تسلم رفيق الحريري السلطة، وبداية مرحلة الإعمار التي كانت أشبه بالمعحزة وأنجزت في زمن قياسي لم يتخطَ ست سنوات ، وبات إسم الحريري مرادفا لإسم لبنان في العالم بحيث كنا حتى هنا في أفريقيا عندما نبرز جواز السفر اللبناني يحدثنا الموظف في المطار عن الحريري وكأنه يعرفه شخصياً ويصفه بالرجل الشجاع والكبير ، نقول هذا لا لتزكية الرجل ولا لوضعه موضع القديسين ، ولكن نقوله للحقيقة والتاريخ ، فالرجل لم يكن قديسا أو ولياً من أولياء الله ، لكنه بالتأكيد لم يكن ذلك الشيطان الذي يحاول البعض تصويره للأجيال الجديدة من الشباب التي لم تعاصر الحرب ولا تعرف شيئا عن مآسيها ولا عن الجهود التي قام بها هذا الإنسان الكبير بكل ما فيها من إنجازات وإخفاقات ومن صواب ومن أخطاء أو سوء تقدير في بعض السياسات التي إنتهجها والتي تعتبر طبيعية جدا في ظروف كالتي كان يمر بها لبنان ، وهي أكثر من طبيعية على إعتبار أن من لا يعمل هو الوحيد الذي لا يخطأ .

بداية مرحلة الإعمار التي كانت أشبه بالمعحزة وأنجزت في زمن قياسي لم يتخطَ ست سنوات

هذه الصورة البشعة التي يحاول البعض من الأطراف السياسية إلصاقها برفيق الحريري ليست صحيحة وهي إنما تنبع من خلفيات إيديولوجية جامدة وخشبية كما هي حال بعض اليسار الغوغائي ، أو خلفيات طائفية بغيضة تخشى على ما تعتبره إمتيازات لها لا تريد لأحد المساس بها ولو على حساب الوطن كما هو حال بعض اليمين ، أو خلفيات سياسية – مذهبية – إيديولوجية تدخل ضمن الصراع الإقليمي وتداعياته في المنطقة – ولا نتحدث هنا طبعا عن النقد الموضوعي والطبيعي للتجربة الحريرية بإعتبارها تجربة ضخمة ومن الطبيعي أن يكون النقد على حجم التجربة – كل هذه الأطراف المتناقضة في توجهاتها تضافرت وإجتمعت – يا للمفارقة – على الحقد والكراهية، فكانت النتيجة أن بدأت الهجمة المضادة لمشروع رفيق الحريري الذي لم يكن قد إكتمل بعد إبتداء من العام 1998، وبدأت مسيرة التعطيل ووضع العصي في دواليب الحكم ، حتى كان يوم 14 شباط 2005 حينما وجد أصحاب المشروع المضاد أنه غير قادر على وقف المسيرة بل على تعطيلها فقط ، فكان القرار بقتل صاحب المسيرة نفسه وهكذا كان ، ومع ذلك لم يتوقف الضخ والتزوير والإفتراء على ما بات يسمى ” الحريرية السياسية ” وهو الإفتراء المستمر حتى اليوم بكل صفاقة ووقاحة رغم الأحوال التي وصل إليها البلد من خراب ودمار بعد 16 سنة من غياب الرجل وهو وضع شبيه بالذي كان فيه البلد في ال 15 سنة السابقة لتسلمه المسؤولية .

يوم 14 شباط 2005 حينما وجد أصحاب المشروع المضاد أنه غير قادر على وقف المسيرة بل على تعطيلها فقط فكان القرار بقتل صاحب المسيرة نفسه!

هذا الوضع الذي يحاول البعض تحميل مسؤوليته لمرحلة رفيق الحريري هو اليوم قد يكون دليل إبراء وإنصاف للرجل ، لأنه لو سلمنا جدلا أن رفيق الحريري وسياساته مسؤول عن بعض الأخطاء التي وقعت وبغض النظر عن الظروف التي كان يعمل بها رفيق الحريري ، فإن التجربة التي أعقبت غياب الرجل وهي تجربة تسلم فيها خصوم رفيق الحريري الحكم والتحكم بالبلد منذ العام 2008 على الأقل ، لم تنتج لا إصلاحاً ولا تغييراً بل على العكس أنتجت تعطيلاً للبلد لا يزال مستمرا حتى اليوم وهو ما أنتج بطبيعة الحال تراجعا في النمو الإقتصادي لدرجة ما تحت الصفر ، فكان التعطيل بالتالي ولا يزال هو رأس الفساد الذي يحكى عنه ، فمهما يكن هناك من أخطاء في الممارسة فلا يمكنها أن توصل إلى إنهيار بلد كالذي هو حاصل اليوم إذا ما كان هناك إنتاجية مستمرة وبعيدة عن التراشق والضغوط السياسية ، وببعض الإصلاحات يمكن أن يُصحح أي خطأ إذا ما إعتمدنا الأصول في التعامل السياسي عبر إحترام الدستور ومخرجاته بدل إتخاذه درعا يتلطى وراءه كل طرف طمعا بحصة أكبر من هنا أو هناك ، أو بسبب من كيدية شخصية تنم عن عدم إحساس بالمسؤولية الوطنية وهذا ما هو حاصل اليوم .

رفيق الحريري
رفيق الحريري

من هنا نقول أن نظرة سريعة ومنصفة على أحوال البلد كيف كانت عندما إستلم رفيق الحريري السلطة عام 1992 وكيف أصبحت وتركها لدى إستشهاده من جهة ، وكيف كانت يوم إستشهاده وكيف هي اليوم بعد 16 عاما على غيابه من جهة أخرى ، هذه النظرة كافية لإنصاف الرجل وإبراءه من كل الموبقات التي يحاول البعض إلصاقها به كي يخفي عيوبه هو وفشله في إدارة بلد كان في يوم من الأيام يسمى سويسرا الشرق، ومن ثم دُمِّر وأعيد إعماره برؤية حديثة ومنفتحة ومتطورة قبل أن تجتاحه الغربان من جديد وتعيث فيه فسادا وحقدا وكراهية خدمة لمطامع دول إقليمية من جهة ، وطلبا لمنافع سلطوية شخصية من جهة أخرى تحت شعارات كاذبة يختلط فيها السياسي بالطائفي من حديث عن إعادة حقوق لطائفة معينة ، أو حديث عن مقارعة الإستعمار ولا يقارعون ويقامرون في الحقيقة إلا بناسهم ووطنهم ومستقبل الأجيال الطالعة فيه ، وهذا ما يدينهم اليوم وغداً وسيبقى وصمة عار في جبينهم وبقعة سوداء كبيرة في سجل تاريخهم السياسي القائم على الإستغلال الرخيص لناسهم في سبيل مصالحهم الشخصية ومصالح مشغليهم في الخارج . رحم الله الرئيس الشهيد رفيق الحريري وطيب ثراه .

السابق
42 سنة على ثورة إيران (2): رعاية الانقسامات والانشقاقات الشيعية!
التالي
تحرك احتجاجي امام قصر عدل بيروت: لإطلاق الناشطين وعدم تسييس القضاء!