وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان بلد الموت الصامت

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

أحداث طرابلس الأخيرة عيّنة من مشهد احتجاج وتعبير عفوي عن حال اختناق الحاضر اللبناني وانسداد أفق مستقبله. 

مشهد تكرر في أكثر من مدينة وبلد وشارع في لبنان، بنفس العناوين والشعارات التي لم تتعدى حدود وسقف المطالبة بالإلتفات إلى حال البؤس والكرامات المهدورة. 

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإمامة بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها (٣/٣)

عدم المعنى

اكتشف اللبنانيون أن الذي يجمعهم ليس المطلب السياسي أو المشروع السياسي ولا حتى الهوية الوطنية، بل ولا حتى الأمل بالتغيير أو الإيمان الكاذب بفرادة الشخصية اللبنانية.  الذي يجمعهم هو عدم المعنى الذي أخذ يحاصر وجودهم، والدمار الزاحف إلى بيوتهم، والموت الذي يطفىء شعلة الحياة فيهم. جمعهم الإختناق والضيق، ووحَّدهم القلق والمعاناة. خرجوا إلى الشوارع لا ليغيروا أو حتى يثوروا، بل ليطلقوا العنان لخوفهم وارتباكهم، ألَمهم ووجعهم، علَّ ذلك يُسمع أو يحرك شفقة أو تعاطف، أو علَّهُ يوقظ غفلة المنشغلين بطموحاتهم الصغيرة، والمفاخرين بإنجازاتهم التافهة.

خرجوا إلى الشوارع لا ليغيروا أو حتى يثوروا، بل ليطلقوا العنان لخوفهم وارتباكهم، ألَمهم ووجعهم، علَّ ذلك يُسمع أو يحرك شفقة


في عالمنا الحديث، جُعِل النزول إلى الشارع طريقاً لإيصال الرسائل، وسيلة سلمية للتأثير على القرار السياسي، ساحة تعبير عن عدم رضا أو عدم اقتناع، أداة تواصل وعنصر تفاعل بين الحاكم والمحكوم. شُرِّع ذلك حقاً غير قابل للانتزاع، واعتبر أهم تجليات الديمقراطية، بسبب كونه يردم الهوّة بين صانعي القرار وبين من تؤخذ القرارات بإسمهم وتقع عليهم تبعات تنفيذه.

عندما استهان اللبنانيون بمصائرهم

أما في لبنان، فلم يعد التعبير لغرض إيصال رسائل أو حتى ممارسة حق سياسي أو قانوني، فهذا أمر تنازل عنه اللبنانيون منذ زمن بعيد، ربما لأنهم لم يختبروه بما فيه الكفاية، أو يئسوا من فشل تجذيره في حياتهم العامة.  قرروا أن يغتربوا عنه، وينشغلوا بتفاصيل يومياتهم، بطموحاتهم الشخصية ومبادراتهم الفردية،  تعمدوا أن ينسوه أو يتناسوه ولم  يدركوا أنهم بذلك ينسون أنفسهم، ويضعون مصائرهم في جعبة سياسييهم. 
لم يكن نزول اللبنانيين إلى الشارع منذ أكثر من عام، أكثر من تنفيس عن وجع لم تعد الصدور تتحمل  كتمانه، وإظهار حزن لم تعد الوجوه قادرة على إخفائه. ورغم ذلك اعتبر ذلك كثيراً عليهم بل حتى محرّماً وممنوعاً. فالساحات لم تعد ساحات تلاقٍ وتداولٍ وتعارف، بل باتت ساحات استثمار مالي ومقاولات تجارية وناطحات سحاب واستعراضات أمنية، ومناطق محتكرة بل منذورة لاحتفالات الزعيم.

لم يكن نزول اللبنانيين إلى الشارع منذ أكثر من عام، أكثر من تنفيس عن وجع لم تعد الصدور تتحمل  كتمانه


نتكلم كثيرا في السياسة ونجبن عن التفكير 


لم تعد مشكلة العلاقة بين السياسي والعامي (من عامة الناس) مشكلة ثقة او سوء فهم متبادل أو استبداد أو حتى فساد، فهذا سلوك قديم غمر أروقة السياسة، وأتخم عناوين الصحف، وشغل أندية الثقافة، وتعوّده اللبنانيون منذ زمن بعيد، بل ارتضوا بهذا السوك طريقة سهلة لإدارة بلادهم، وقبلوا التنازل عن أكثر حقوقهم الطبيعية وحتى الإنسانية، مقابل الإشغال العبثي والفوضوي للمراكز والطريق الأسهل لاستلام المناصب والتوزيع المجاني للهبات والعوائد،  في لبنان تعلمنا أن نتكلم كثيراً في السياسة، من دون أن نجرؤ على التفكير بها والتدبر في مجرياتها وحتى البوح بحقائقها.

كانت السياسة عندنا ترفاً، جلسة تكاذب، لعبة عض أصابع، حفلة تذاكي، معرض تباه وتفاخر، ساحة غلبة، مباراة فوز صبيانية بالنقاط أو بالضربة القاضية. لم نع أن مصائرنا وحياة أبنائنا وجنى عمرنا كانت هي اللعبة، وأن قدر الوطن كله كان هو رهان السبق.  لم نعِ أن ما كنا نتحدث به ليس سياسة، بل ثرثرة وغفلة، تشوّف أجوف، سراب يحسبه الواهم مجداً.  

في لبنان تعلمنا أن نتكلم كثيراً في السياسة، من دون أن نجرؤ على التفكير بها والتدبر في مجرياتها وحتى البوح بحقائقها

الموت الطوعي


في لبنان مات المواطن. هو موت في جزء منه طوعي بعبادة الزعيم المُخلِّص، وفي جزء منه إختياري بالانسحاب اليائس والمحبط من الحياة العامة،  وفي جزئه الآخر مصادرة وامتلاك واحتلال للقول والقرار السياسيين.  والموت هنا ليس بالجسد، بل بمعنى تسخيف حقيقة وجودك، استئناس بالعبودية، مِران على الانقياد، أنسٌ بالانمحاق.    حين تتنازل للسياسي، أي لمن في السلطة، عن حقوقك الطبيعية كإنسان حرٌّ وكريم، وعن حقك المكتسب بالمطالبة، فأنت لا تمنحه ثقتك أو تأتمنه على مصيرك، بل تسلمه زمام أمرك لتعفي نفسك من موجبات حريتك ومن مسؤولية صناعة مصيرك، أي تتنازل له طوعاً عن حقيقتك ووجودك. تبيع نفسك له بثمن بخس، ليبيعك بثمن بخس. تصبح بالنسبة عنده شيئاً،  رقماً، كتلة بشر صماء يجمعها ويقسمها ويفرقها متى يشاء وكيف ما يشاء، يصنع منها جيوشاً ومتظاهرين وغوغاء موالين.  تصبح رصيداً يحوله من حساب إلى حساب، ينجز به صفقات وتسويات وتنازلات ومساجلات ومعارك وحتى حروب، من دون أن يسألك أو يستشيرك أو حتى من دون أن يراعي طاقة احتمالك، ليحقق بها انتصاراته ويصنع تاريخه المجيد ويقيم صروح عبادته لمريديه. 

حين تتكرر تنازلاتك ويطول صمتك، تصبح عند من بايعته أو أعلنت له الولاء فضلة، تفصيلاً تافهاً، يزعجه ظهورك المتكرر

  حين تتكرر تنازلاتك ويطول صمتك، تصبح عند من بايعته أو أعلنت له الولاء فضلة، تفصيلاً تافهاً، يزعجه ظهورك المتكرر لتأكيد ولائك له، لا يعود يبالي بمدائحك، يغضبه احتجاجك، يؤرقه أنينك، يرى صراخك هتكاً لقواعد الولاء له، ويفسر إطلاق وجَعِكَ خيانة عظمى لعهد الوفاء له. 

إمّا أن تبقى أو يرحلوا، إما أن تموت أو يموتوا


مشكلة وجود

حين تلغى الساحات، ويسيس الألم، ويحاكم الجائع لا الجوع، ويلاحق الفقير لا الفقر، وحين يُسمِّمُ السياسيون بدنسهم ساحات الأرض، وتلوث صورهم فضاء الأمكنة، فإن المشكلة بينك وبين ساسة لبنان وقادته لا تعود مشكلة فساد تحتاج إلى ملاحقة، أو خلل يحتاج إلى إصلاح، أو أزمة علاقة تحتاج إلى تصويب، بل تصبح مشكلة وجود : إما أنت أو هم، إمّا أن تبقى أو يرحلوا، إما أن تموت أو يموتوا.                                        

السابق
«طرابلس مدينتنا» ترفع الصوت: معا لمواجهة التهميش والاستباحة
التالي
توجه لرفع الدعم وقفزة كبيرة بأسعار المواد الغذائية؟!