حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: صناعة الغضب..وطرابلس ضحية غير مذنبة

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

قبل استقلال لبنان وقبل الحرب العالمية الاولى لم تكن طرابلس عاصمة لبنان الثانية، بل كانت عاصمة الساحل السوري من ارواد حتى صور…لذلك سموها طرابلس الشام.

 لم يكن مرفأها  مرفأً  رديفاً لأيّ مرفأ  لبناني، بل كان منافساً كفؤاً لمرفأ حيفا في شرق المتوسط …

لم تكن مدينة نائية يحتسب ابتعادها عن مركز النشاط الاقتصادي والخدمات والتسوق وفرص العمل… بل كانت قلباً يضخ الازدهار والبضائع والحياة الى مدن كبرى من حلب وحمص واللاذقية وبيروت وحمص وبعلبك ودمشق وصولا للموصل وبغداد…

كانت مصباً نفطياً لشركة النفط العراقية الـ IPC حيث تقوم مصفاة لتكرير النفط  المرسل من كركوك في العراق، وحول عمليات التكرير والتصدير كانت تتشابك مهن ومصالح وشركات تؤمن فرص عمل هائلة، وتقوم مصانع ضخمة للأخشاب وصناعة الورق والمنتجات الغذائية  الخ … 

طرابلس كانت مدينة وعاصمة اقتصادية، يوم كانت كل مدن لبنان الحديثة،  بلدات ريفية تحكمها علاقات ما قبل المدن، وتقاليد القبيلة والعصبيات البدائية، ولأنها كذلك تأسست فيها نقابات المهن الحرة محامين ومهندسين واطباء وغيرهم، كما تأسست فيها صحف ومؤسسات اعلامية، رديفة لما تأسس في بيروت عندما توطدت أولويتها كعاصمة وطنية لبنانية.

١٧ تشرين اعادت طرابلس ك “أيقونة” لمدينة حديثة متجددة

 لم تكن طرابلس إلاّ مدينة للخير والبحبوحة والتفاعل والازدهار، لم تكن افقر مدينة على البحر الابيض المتوسط،  ولم تتحول الى ذلك، نتيجة قدر او كارثة طبيعية، او حظٍّ عاثر، كان أمراً تمت صناعته وصيانة استمراره والحفاظ عليه على مدى عقود وسنوات مديدة.

إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: شتائم ومازوت بديلا لنقاش الخيارات

منذ اعلان دولة لبنان الكبير من قبل الجنرال غورو سنة ١٩٢٠ وحتى سنة ١٩٣٦ قاومت طرابلس ادماجها في لبنان – لا لنقص في انتمائها اللبناني- بل رفضاً لتقطيع أوصالها ومداها الحيوي والاقتصادي وعزلها عن مدن الداخل السوري والعراقي، وايجاد حدود اقتصادية وأمنية بين القلب والمركز الذي شكلته وبين شبكة المدن الداخلية المشرقية، في سنة ١٩٣٦ سلمت طرابلس خياراتها وارتضت مكرهة أمام الانتداب الفرنسي، أن ترضى بقطع أوصالها عن مداها وأطرافها، وارتضت ثانية ان تلعب وظيفة طرف بدل وظيفة القلب، بالإكراه والجراحة القسرية تحولت طرابلس الى عاصمة ثانية.

هذه العاصمة زخرت بصناعات الحرف والخشب والنحاس والمفروشات والانسجة والملابس وصياغة الذهب والزيوت والعطور والصابون والخدمات المختلفة الخ… حتى كانت الحرب الأهلية اللبنانية، وتم استتباب امر الوصاية السورية، التي شنّت على طرابلس مرة أخرى حرباً شعواء  تم بعدها، تقطيع أوصال حياتها وموارد أرزاق أبنائها.

فتمّ شلّ مرافقها جميعاً في المرفأ وخزانات النفط والمصفاة المخروبة والمعطلة، وتوقفت تجارة الخشب وتحول معرض رشيد كرامي الدولي الى مخازن خاوية وهياكل لا وظيفة لها، ثم تعرضت أحياء فقرائها وبؤسائها سنة ١٩٨٥ الى مذبحة موصوفة، ادارتها المخابرات السورية، ما زال ضحاياها في غياهب الانكار والتجاهل…

 وقد توالت مترافقة مع ذلك، محاولات حثيثة ومستمرة، لجعلها مركزا للتطرف الاسلامي، وحقلا تَختبِرُ بها أجهزةٌ  أمنيةٌ عربية وخاصة سورية، محاولاتِ توليد وإستنساخ خلايا تمارس العنف المسلح، كحركة التوحيد الاسلامية، التي فرضت قيوداً اجتماعية ودينية ظلامية، وشجعت قيام بنى وأحزاب ومؤسسات دينية، تعتمد التطرف وتنشر نظريات الاسلام السياسي السني من سلفية وإخوانية، وصولا الى زرع منظمات إرهابية، كفتح الاسلام وغيرها، ومن اكتشاف محاولات فاشلة لقيام خلايا داعشية، تبرر من وقت لآخر، استمرار الاعتقال التعسفي والممنهج لألاف الشباب الطرابلسي بشبهات واهنة، واحتجازهم دون محاكمة، سنوات طوال بلغت في حالات عديدة، أكثر من عشر سنوات.

علاج مرارات طرابلس وغضبها انمائي اقتصادي وليس امنياً

اضافة لذلك، سعت الأجهزة الأمنية عربية ولبنانية، الى اخراج طرابلس من النصاب الوطني اللبناني، وعزل وزنها وتأثيرها عن التوازن السياسي في لبنان، عبر إثارة وتأجيج النزاع بين جبل محسن وباب التبانة، وهي حروب طالت ثلاثة عشر جولة قتالية، استنزفت حيوية المدينة وشوهت صورتها، وأنهكت قطاعاتها الاقتصادية، وقد انتهت بين ليلة وضحاها، في لحظة ضعف النظام السوري وانكفاء قوته في لبنان، وانشغال حزب الله بحربه في سوريا.

لعبت طرابلس دوراً رائداً في انتفاضة ١٧ تشرين واستحقت بصدق وكفاءة لقب “عروس الثورة” ومدادها، وظهرت مدينة حديثة تمارس فعاليات التظاهر السلمي،  وتحيي الفعاليات الجماهيرية الديموقراطية، وتحرص على العيش المشترك بين كافة الجماعات اللبنانية، وتتضامن مع كل ساحات الثورة في لبنان، التزاما بمدنية الثورة وتجاوزها انقسامات الطوائف، ونزعات التعصب والمذهبية، عادت طرابلس ايقونة لمدينة حديثة متجددة وليس فرعاً ل “قندهار” في لبنان، كما حاولت أجهزة أمنية وإعلامية وأطرافٌ سياسية أن تُصوّرها….

 كانت ثورة ١٧ تشرين مساراً لاستعادة طرابلس حقها، بان تنال اعترافاً وطنياً لبنانيا، انها “مدينة مشرقة وبهية، وشريكة في رسم مستقبل لبنان وخياراته”. لذلك لا تقوى طرابلس على احتمال فشل الثورة أو تعثرها،  فقدر “روح المدن” على حدّ تعبير منح الصلح يوما، ان تلعب دور الريادة والتمدن، خاصة وقد بقيت ساحاتها بعيدة عن غوغاء الهاتفين ” شيعة شيعة” وعصيّة على دراجات حارقي خيم الاعتصام وترهيبهم، فشكلت ضمانة للثورة وقاعدة آمنة لاستمرارها.

في ظل افلاس هذه المنظومة السياسية بكل مكوناتها الأخلاقي والسياسي ،وعجزها البنيوي عن تسيير مؤسسات الدولة ومرافقها العامة والتنكر لمسؤولياتها في البحث عن حلول لمواجهة ما يصيب لبنان من كوارث اقتصادية ومالية،  وإهمال أي معالجات قد توقف إنهيار القطاعات الاقتصادية، وتعالج الناتج المحلي الوطني،  لجأت منظومة الفساد والارتهان الى الخارج الى تبني سلوك إجرامي يحاول التحصن بالجائحة والأزمة الاقتصادية واستعمال مخاطر، البطالة والفقر والمرض، كأسلحة لكسر ارادة شعبنا، ولمتابعة نهب المال العام وثروات اللبنانيين، وعائدات أعمالهم، و جعل لبنان رهينة أو متراساً لمنظومة  اقليمية، وظيفته الانتحار فدية  لحسابات لا شأن لشعبه بها.

من أجل ذلك، كانت طرابلس هي البداية في المواجهة المتجددة، لأن أوجاع طرابلس هي الأقوى، ولأن وقع الانهيار على مواطنيها هو الأكثر فداحة وكلفة، ولأن دخول كاميرات الاعلام الى أزقة البؤساء والعائلات المستورة، والى بيوتهم التي ليست بيوتا البته، كانت لحظة طرابلسية، أدمعت عيون لبنان والعالم…

ولأن اضطرار مئات الناس من أهاليها، الى الهروب في زوارق الموت بحراً، والى رمي اطفالهم في البحر، بعدما وقعوا في لجة التيه وانسداد سبل الهروب، كانت فضيحة تعري الجريمة المنظمة المستترة والمتسلسلة التي ترتكبها المنظومة الحاكمة، في لبنان عامة وطرابلس خاصة.

 لا حدود في عاصمة الشمال لطعم المرارات المتعاقبة، أوللقهر الامني الخارج عن أي قانون، أو للتسرب المدرسي الشامل في الأحياء الشعبية، أو لندرة فرص العمل ولتدني المداخيل المالية، أو لانعدام التقديمات الاجتماعية والرعاية الرسمية…

 لا حدود لصلف السلطة أو اهمالها ووقاحتها، فبسبب جائحة كورونا أو بذريعتها، أجبرت عشرات الاف من ابناء المدينة الذي يكسبون قوتهم بشكل يومي، على الاحتجاز في بيوتهم على مدى اسابيع ثلاثة، ليطالهم جوع فوق عوز، لكنها امتنعت عن تسليم مستشفى ميداني خصص لطرابلس هدية من دولة قطر، من أجل معالجة مرضى الجائحة التي سجنتهم بذريعتها.

من يراكم افتعال الغضب مسؤول عن العنف أولاً


احراق سرايا الحكومة، أمر خاطئ ومدان لكنه لا يختصر المشهد ليكون تغطية لألاف الاسئلة عن الدم المسفوك من شهداء وجرحى من شباب طرابلس وأهلها، ولا يعفي من محاسبة قضائية لمن استسهل استعمال العنف المفرط ضد جمهور اعزل!

 احراق المبنى البلدي عمل مشبوه ومفتعل، لكنه لا يُحوّل طرابلس من ضحية مظلومة الى متهمة مذنبة… أما علاج جراحات طرابلس ومراراتها، فمقاربته انمائية واقتصادية وليس امنية اتهامية.

العنف امر لا فائدة منه، لكن نتاج بديهي لغضب عارم، حدثت صناعته بالقهر والافقار والتهميش والعزل والانكار، وتمت ادامته بالجوع والمهانة والبطالة والاميّة… ومن يراكم الغضب مسؤول عن العنف أولاً…

السابق
«يوتيوب» يختبر ميزة المقاطع القصيرة لمنافسة «تيك توك»
التالي
هيلاري كلينتون وابنتها تدخلان على خط الإنتاج التلفزيوني