محمد علي مقلّد لـ«جنوبية»: الثورة أنجزت الكثير.. وما زال أمامها درب نضالي طويل

محمد علي مقلد

الأستاذ الجامعي المتقاعد، الباحث الدكتور محمد علي مقلّد ، يدرج الثورة التي قام بها الشعب اللبناني ، في 17 تشرين الأول 2019 ، ضمن ثورات ” الربيع العربي ” . لأن مقلّد ، قد وجد أن الهم الثوروي كان هما مشتركا لدى جميع من قاموا بهذه الثورات – وهذا ما يذكرنا بالقاعدة الذهبية المأثورة: ” كلنا في الهم شرق” – فان ما استهدفته الثورة اللبنانية ، كان هو عين ما استهدفته تلك الثورات ، وهو – وعلى ما يحدده مقلد – في بداية هذا الحوار الذي أجراه معه موقع ” جنوبية ” لمناسبة مرور عام على قيام ثورة 17 تشرين: “اعادة تشكيل السلطات على أسس ديموقراطية ، والغاء كل أشكال الاستبداد الصريحة ( عربيا )، والمقنعة ( لبنانيا).

ثورة 17 تشرين أخطأت في التعامل مع شعارها الأهم :” كلن يعني كلن ”  

الربيع اللبناني

● ماذا عنت لك ثورة 17 تشرين الأول 2019 ضد الفساد السلطوي الشامل لنظام الحكم في لبنان؟ وماذا كانت طبيعة نظرتك الخاصة اليها ؟

  • يحق لي أن أزعم ، من غير ادعاء، أنني حدست بهذه الثورة من غير أن أتوقعها . ولقد كتبت كثيرا عنها ، لأسميها ” ثورة ” ، وليس انتفاضة أو حراكا أو غير ذلك من الأسماء التي أطلقت عليها . لقد أدرجتها ضمن الثورات التي قامت في العالم العربي . وحين كتبت عن ثورات ” الربيع العربي ” نشرت كتابا عنوانه : ” هل الربيع العربي ثورة ؟ “، وجوابي على السؤال كان حاسما وقاطعا ، أنه ( أي الربيع العربي )أول ثورة في العالم العربي ،بعد النبي محمد . فكل ما قبله كان عبارة عن انتفاضات ، مثل : ” البابكية ” أو ” القرامطة ” أو ما يسمى ” ثورة الزنج ” مثلا . أوانقلابات ، قادها ضباط في الجيش أو معممون ، كما حصل في ايران ومصروليبيا وسوريا والعراق والسودان … الخ…

 رسمت الثورة ملامح جديدة للوطن ولمنظومة قيمه الثقافية 

أشكال الاستبداد العربي

● لماذا أطلقت على ما سبق ” الربيع العربي ” انقلابات أو انتفاضات ، وخصصت هذا الربيع والثورة اللبنانية باسم الثورة ؟

اقرأ أيضا: الهندي لـ«جنوبية»: الحكومة المقبلة حبة أسبرين لبلد يعاني من السرطان

  • جاءت الأديان التوحيدية ( السماوية وغير السماوية ) لتبشر بانتقال المجتمعات من الاقتصاد الريعي ، الى الاقتصاد الزراعي ، ومن العقل الأسطوري الى العقل الغيبي ،ومن أنظمة الحكم التي كان الحاكم فيها هو ” الاله ” ، مثل (ما كان أيام الفراعنة) الى أنظمة الحكم التي صار فيها الحاكم ،ممثلا لله ( الحاكم بأمر الله ) أو خليفة الله ( يستسقى به المطر ) . استمرت هذه الحضارة حتى الثورة الفرنسية التي نقلت المجتمعات من الزراعة الى الصناعة ، ومن العقل الغيبي الى العقل العلمي، ومن النظام الوراثي الى الديموقراطية .
    في عالمنا العربي وفي العالم الاسلامي ، حصلت عملية الانتقال من الحضارة القديمة ( الزراعية ) الى الحديثة ( الصناعية ) ، في المجالين الاقتصادي والثقافي ، فتأسست مراكز الأبحاث والجامعات ، والمؤسسات الاستثمارية . أما على الصعيد السياسي ، فقد استمرت أنظمة الحكم الوراثية ( السلطانية أو الجمهوريات الوراثية ) . لذلك اعتبرت أن ” الربيع العربي ” ، هو أول ثورة في عالمنا ، لأنه طالب بانتقال السلطة من شكلها الاستبدادي الوراثي ، الى شكلها الديموقراطي ،خصوصا أن هذه الثورات لم ترفع بين شعاراتها ، لا قضية الصراع مع العدو الاسرائيلي ولا مع الامبريالية والاستعمار . وليس ذلك استخفافا بهذه القضايا ، بل لأن الثورة استهدفت اعادة تشكيل السلطات على أسس ديموقراطية ، والغاء كل أشكال ألاستبداد الصريحة والمقنعة . الصريح منها : مثل :” أنظمة اعلان حالة الطوارئ وتعليق الدساتير ” والمقنع منها : كما هي الحال في لبنان ، حيث يتم اختيار الحاكم بالتعيين ، وهذا ما حصل في انتخابات رئاسة الجمهورية والنواب ، في الدورات الأخيرة ، بعد ” الطائف ” .

 لا يمكن للثورة المطالبة بدولة حديثة فيما هي تحارب النظام المصرفي فيها

ما لم يفعله المثقفون اللبنانيون

● كيف ترى ومن موقعك الثقافي هذا الدور الحتمي كفعالية مواكبة للفعل التغييري ؟

  • توزع المثقفون اللبنانيون على حلبات الصراع السياسي ، ولا سيما في مرحلة الحرب الأهلية ، فكان لكل حزب ، بل لكل ميليشيا مثقفوها ، واعلاميوها ، ومتعلموها . انتهت الحرب الأهلية ، فصار لزاما على المثقف ليكون مثقفا حقا ، أن يقرأ التجربة بعين نقدية . كثر من المثقفين فعلوا ذلك ، لكنهم ليسوا جميعا في عداد من وضع برنامجا بديلا لانقاذ الوطن . وان كانوا قد خرجوا من طاحونة الحرب الايديولوجية التي انخرطوا فيها . ربما كان الدور الأساسي ، الذي ينبغي على المثقف أن يضطلع به هو التبشير بمرحلة السلم الأهلي . وهي عملية تحتاج الى آليات مختلفة عن تلك التي سادت في مرحلة الحرب , ربما كان عليه أن يخرج من صداقات الحرب وعداواتها ، وهو ما لم يفعله معظم المثقفين ، بمن فيهم الذين قرأوا التجربة قراءة نقدية .

آلية السلم الأهلي تفترض احترام التنوع والتعدد ، وهذا يتطلب منسوبا عاليا من الديموقراطية ، يمكّن اللبنانيين من تنظيم اختلافاتهم ، بدل تفجيرها ، كما حصل أيام الحرب .
ان شرط تنظيم الخلافات والتنوع والتعدد ، يتمثل بقيام دولة حديثة ومؤسسات . دولة دستورية يسود فيها القانون ، ويتوحد في ظله اللبنانيون.
لقد اندلعت ثورة 17 تشرين 2019 ، بعد أن تفاقم انتهاك الدستور والقوانين من قبل الطبقة السياسية ، غير أن بعض المثقفين استمروا ينظرون الى الصراع السياسي ، من زاوية الانقسامات القديمة التي سادت في الحرب الأهلية أو بعدها بين ( فريقي الثامن والرابع عشر من آذار ) .
غير أن جيلاً جديداً من المثقفين من شباب لبنان وشاباته طلاباً أو خريجي جامعات يؤسس اليوم مع بعض خريجي الحرب الأهلية لثقافة وطنية جديدة هي الكفيلة بإعادة بناء الوطن والدولة.

انجازات الثورة

● ما هي قراءتك الخاصة للأبعاد الثقافية لهذه الثورة ؟

  • لقد رسمت هذه الثورة ملامح جديدة للوطن ، ولمنظومة القيم الثقافية فيه . اذ استطاعت أن تفضح مكائد السلطة المتلاعبة بمشاعر الناس وانتماءاتهم الدينية والمناطقية ، فتوحد اللبنانيون في ظل الثورة تحت راية العلم اللبناني ، وتجاوزوا الانقسامات القديمة الموروثة من أيام الحرب . وهذاهو الانجاز الأول للثورة ، والانجاز الثاني الذي حققته الثورة هو أن برنامجها للانقاذ ،أكد على الطابع السلمي ، وعلى كونها ثورة تحت سقف الدستور ، وهو ما يعتبر من ابتكاراتها التي لم يشهد ” الربيع العربي ” له مثيلا الا في تونس . انجازها الثالث هو تعميم القناعة بأن الجيل القديم من الحكام ، لم يعد يليق بكفاءات الجيل الجديد من الشباب والشابات ، ولم يعد يستجيب لطموحاتهم في بناء وطن حر ودولة سيدة .

● ثورة 17 تشرين الأول 2019 ، لا شك في أنها أسست لوعي تغييري مستقبلي ، فبرأيك ماذا بامكاننا استشرافه من أبعاد هذا الوعي ؟

  • يمكن أن أجزم بأن لبنان لن يكرر تجارب ما قبل 17 تشرين . بتعبير آخر : ان من المؤكد أن لبنان ما بعد 17 تشرين لن يكون كما كان قبله . هنالك وعي مستجد لدى هذا الجيل المتألق من طلاب الجامعات وخريجيها ، بأهمية الدولة وبأنها البديل الوحيد لحكم الميليشيات المسلحة ،وغير المسلحة ، ولحالة التشرذم ، ولأشكال الصراعات المناطقية والمذهبية والطائفية والدينية ، التي لم يعد لها وجود في العالم الا في منطقتنا , الوعي بأهمية وحدة اللبنانيين يستتبع وعيا جديدا للصراعات حول لبنان . لقد أخطأ اللبنانيون حين ربطت القوى السياسية مصائرها بقوى خارجية ، واستعانت بها ضد بعضها البعض . هذا الفعل الخياني لم يسلم منه أحد ممن شارك في الحرب الأهلية . ولذلك بات على اللبنانيين أن يتعلموا من الحرب أهم دروسها وهو أن يعملوا من أجل مصالح بلدهم ، لا من أجل مصالح حلفائهم في الخارج .

التحدي الأكبر للثورة

● بعد مرور عام على قيام هذه الثورة ، ما هو تقييمك لأداء ثوارها ؟ فما الذي حققته من نجاح ، وما الذي أصيبت به من فشل؟

  • لا شك أن الثورة أنجزت الكثير وما زال أمامها الكثير . لقد تمكنت الثورة من اعادة تجميع اللبنانيين على أسس جديدة ، وهي أسس قد تسمى علمانية ، وقد يطلق على الدولة المنشودة صفة الدولة المدنية . الا أن الأكيد أن الثورة نجحت في تعميم مفهوم الدولة الحديثة وقوامها : الدستور والقوانين واستقلالية القضاء ، وتداول السلطة . ومن ناحية أخرى تمكنت من فضح أكاذيب السلطة وفسادها ، السياسي والمالي والأخلاقي ، وضيقت الخناق على المسؤولين عن تفاقم الأزمة وبلوغها حد الانفجار . ومن ناحية ثالثة تمكنت من اسقاط الحكومة مرتين ، وصعبت على أهل السلطة الاستمرار باستخدام النهج ذاته والآليات ذاتها ، في تشكيل الحكومات وادارة شؤون البلاد ، لكنها لم تتمكن من فرض وجهة نظرها في اعادة تشكيل السلطة . فما زال أمامها أن تناضل لالغاء المحاصصة ولاقرار قانون عصري للانتخابات ، ولتطبيق مواد الدستور المقر في الطائف ، ولا سيما ما يتعلق بالغاء الطائفية السياسية وبتشكيل مجلس الشيوخ . وفي أغلب الظن أن استكمال مهماتها المتعلقة بمحاربة الفساد ، تتطلب تحقيق استقلالية القضاء ، بل تحويله الى سلطة ثالثة استنادا الى نصوص الدستور ، وتحريره من تدخل السياسيين .
    أحد أهم ما تحتاجه الثورة ، هو تنظيم عملها وتحديد أهدافها ، وترجمة برنامجها الى خطة عمل موحدة . وان من بين القضايا الخلافية التي تتسلل منها الثورة المضادة ، ما يتعلق بالنظام المصرفي . ان النظام اللبناني بما هو نظام برلماني ديموقراطي ، ينتمي الى منظومة الأنظمة الرأسمالية التي تعتمد النظام المصرفي ، كواحد من أهم مقوماتها . في هذه الحالة ، لا يمكن للثورة أن تطالب بقيام الدولة الحديثة ، وتطالب ، في الوقت ذاته ، بإلغاء النظام المصرفي .

 التحدي الأكبر أمام ثورة 17 تشرين هو تنظيم صفوفها 

● الثورة ما زالت حية – يقول رأي – بالرغم من خفوت حركتها ، العائد الى أسباب عدة ، والذي ازاءه ثمة من يرى، أنها أصبحت بحكم المنتهية ، فأي الرأيين ترى أنه هو الصحيح ؟

  • أعتقد أن ” الربيع العربي ” ، عموما ، وضع قطار التغيير في بلداننا على سكته الصحيحة ، لكن السكة قد تتعرض للقطع في مكان ما ، وقد تكون محطتها المقبلة بعيدة ، وقد يحاول أعداؤها تخريبها من داخلها ، غير أن القطار لن يعود الى الوراء .
    لقد تأثرت الثورة اللبنانية بعوامل شتى ، من بينها الأحداث الجارية في محيطنا ، والصراعات الدولية على المنطقة ، والتنافس على وراثة الحركة القومية العربية بين دول المنطقة ، من اسرائيل وتركيا وايران . كما تأثرت الثورة اللبنانية بالوباء الذي أصاب البشرية ( الكورونا )، فحد هذا الوباء من حرية الحركة ، وقلص من فاعلية التجمعات والمظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية ، هذا فضلا عن الأزمة الاقتصادية التي جعلت عملية التنقل بين المناطق أمرا صعبا .
    أما التحدي الأكبر أمام الثورة ، فهو تنظيم صفوفها لاخراج قوى الثورة المضادة ، التي تحاول حرف الثورة عن مسارها السلمي ، وتقوم بأعمال التخريب المقصود والمتعمد للمؤسسات العامة . وقد بلغت الصعوبات أوجها في أعقاب انفجار الرابع من آب . غير أن جميع التطورات أثبتت، أن عقارب الساعة لن تعود الى الوراء ، وأن الثورة مستمرة ، وأن نظام الاستبداد والمحاصصة والفساد الى زوال .

أين أخطأت الثورة

● برأيك ما الذي تحتاجه ثورة 17 تشرين الأول ، لتستعيد زخمها من جديد ؟

  • لقد حددت الثورة برنامجها وهو : ” اسقاط الحكومة ، وتشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية ، ومحاربة الفساد والفاسدين ، واسترداد المال المنهوب ، واستقلالية القضاء ، وسن قانون انتخابي عصري ، واجراء انتخابات نيابية مبكرة . ” هذا البرنامج شكل تعويضا عن وجود قيادة موحدة للثورة ، الى أن قدمت الحكومة استقالتها ، فبات على الثورة أن تفصّل خطة عملها لتحقيق هذا البرنامج . وهو ما لم تفعله ، وهذا أحد أخطائها ، ما سمح لقوى الثورة المضادة أن تدخل في تأويلات شتى لهذا البرنامج ، ولا سيما للشعار الأهم : ” كلن يعني كلن ” . وهو شعار يصيب كل من شارك في السلطة . لقد أخطأت الثورة في التعامل مع هذا الشعار فأتاحت لقوى السلطة نفسها أن تفسر أسباب الأزمة على هوى مصالحها ، فروّج بعضها (أي بعض السلطة ) للكلام عن أسباب تعود الى ثلاثين عاما ، ليحملوا رفيق الحريري مسؤولية الأزمة ، ويبرؤوا أنفسهم ونظام الوصاية مما اقترفوه . كما أتاحت التأويلات الفرصة أمام المصطادين في الماء العكر ، ليشن كل منهم هجوما على خصمه القديم ، فضاعت البوصلة من أمام الكثيرين من أهل الثورة ، ممن انجروا وراء حملات تضليلية، أربكت مسار الثورة.
السابق
حسن يدق ناقوس الخطر: مقبلون على موجة ثانية وليس من أسرة عناية متاحة!!
التالي
بالفيديو: تظاهرة أمام السفارة الفرنسية منددة بالاساءة للنبي محمد.. واستنفار أمني!