17 تشرين.. سيرة نجاحات واخفاقات غيّرت وجه لبنان!

ثورة ساحة الشهداء لبنان ينتفض

لا بد قبل البانوراما الاستعراضية التي ستلي تمهيدنا هذا من تحليل هادئ لثورة 17 تشرين بعد سنة على انطلاقتها، نستعرض فيه مسيرة الثورة بحلوها ومُرّها، وعجرها وبجرها، وسنحاول على الأخص الإجابة على سؤال مؤسف يُتداول اليوم في وسائل الإعلام وتلوكه ألسنة الناس والمتابعين وهو: هل فشلت الثورة؟

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو لـ«جنوبية»: نريد مجتمعا ثائرا لا مجرد ثوار!

لم تنطلق ثورة 17 تشرين الأول 2019 من فراغ، بل من واقع شاذ أفرزته ذهنيات اللبنانيين وصراعات الإقليم على أرضنا، ومصالح الدول الكبرى… وغيرها. لم تلجأ الثورة منذ البداية إلى الأساليب التقليدية في التصدي الثوري العنيف، وإن لم يخل الأمر من بعض مظاهره، وهي لم تُعلن قياداتٍ ظاهرةً، أو حتى متحدثين باسمها.

رفضت الواقع المهترئ بمجمله، وخرجت من تقوقعاتها الطائفية والمذهبية. لم تنحز الثورة لسعد ولا لسعيد إن كان ذا علاقة ولو بسيطة بالسلطة القائمة، ورفعت شعار “كلن يعني كلن” وسارت فيه بعناد، وهو شعار لم يلبث أن تناسلت منه شعارات كثيرة توصّف ديناميكية مجموعات الحراك المختلفة للوصول إلى الهدف الرئيسي المشترك، وهو التخلص من “الطغمة” التي جثمت على صدور اللبنانيين ما يقارب نصف القرن حتى كادت تقطع أنفاسهم، مثل شعارات “الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي”.. “يسقط يسقط حكم الأزعر”.. “حرامي حرامي رياض سلامة حرامي”.. “يسقط يسقط حكم المصرف”.. “صور صور صور كرمالِك بدنا نثور”.. و”كلن كلن كلن والسيّد واحد منّن”… وغيرها. لم تمارس الثورة السياسة بمعناها اللبناني، أي سياسة التكاذب والمحاصصات والنهب المنظَّم و”مرِّقلي تا مرِّقلك” واستغلال المشاعر الطائفية والمذهبية للشعب لإحكام السيطرة عليه.

لم تنحز الثورة لسعد ولا لسعيد من ذوي العلاقة بالسلطة ورفعت شعار “كلن يعني كلن” بعناد

حققت الثورة في سنةٍ الكثيرَ الكثير، فرغم العذابات، وغوغائية جمهور “الثنائي” المرتهَنين للقوى السياسية، والاعتقالات، ووحشية القوى الأمنية التي بقرت البطون وفقأت العيون بـ”الخردق” و”المطاطي”… فضحت الثورة الكل، من كبيرهم الذي علّمهم السحر إلى أصغر زجّال في جوقة التبعية والارتهان إلى الخارج… وكسرت حاجز الخوف، ولم ينجُ أحد من ألسنتهم وغضبهم المحقّ.لم ينفع معها ترهيب حاملي العصي رافعي شعار “إلا السيد” و”شيعة شيعة”، ولم يتراجع إعلاميّوها الأشاوس أمام رهبة الهجمات السلطوية والميليشيوية عن القول للأعور “يا أعور”.

لم يفُتّ في عضدها اتهامُ المنغمس حتى أخمص قدميه بالعمالة، وباعترافه، الثورةَ والثوارَ بـ”العمالة للسفارات”، وحرق خيامهم وقبضة ثورتهم أكثر من مرة، كان آخرها من جمهور “المستقبل”.
أعلنت منذ تاريخ انطلاقها أن أساس التقارب والتنافر ليست المصالح أو التحالفات، “رباعيةً” كانت أم “ثلاثية” أم غير ذلك، بل تقديم همّ محاربة الفساد على أي شأن آخر.

قيل إنها هربت من مواجهة “حزب الله”، ولكن… إذا نظرنا برويّة وحكمةِ تفكيرٍ لوجدنا الثورة قد عرّت بثبات رِجْلها في الشوارع وبقوّتها الناعمة، قوة الإعلام، هذا الحزب المدجّج بالسلاح الغاشم، ولم تندفع إلى معركة “كسر عظم” خاسرة مسبقًا معه لينفش ريشه بعدها أكثر وأكثر ويتبختر كالطاووس قائلًا “هاأنذا”، وأسقطت بقوتها الناعمة أدواته واحدة تلو الأخرى، حكومة الحريري ثم حكومة دياب، وأبقت لسان الإعلام الناري مسلطًا فوق رأسه طوال فترة الثورة، حتى أوجدت بحقٍّ رأيًا عامًّا جديدًا في لبنان ما كان ليجرؤ أو يحلم بقول ما يقوله اليوم في حق مَن مالُه وسلاحه وأمواله وتدريبه من جمهورية ولاية الفقيه.

لم يفُتّ في عضد الثورة وصمُها بـ”عملاء السفارات” من المنغمسين في عمالتهم

الثورة في الحقيقة لم تقم في وجه حكومةٍ والسلام، بل في وجه كل الطبقة التي نهبت الشعب وأفقرته، وفي وجه القوى الفعلية التي تسيِّر دفة الحكم في لبنان، وأكبرها وأهمها “حزب الله”، ولم تلتهِ بالقشور والموظفين الذي يصدعون بتنفيذ أوامره.

نقول لكل من يقول إن الثورة انتهت: بل هي استراحة المحارب يا صديقي، فإنه ديدن الثورات في التاريخ، وتلكم الثورتان الفرنسية والجزائرية خير دليل، فالسياسة فن الممكن، وليس خطأً انتظار فرصة الانقضاض من جديد بعد الميل أمام ريح دول الإقليم والخارج ومصالحها وطمعها في ثرواتنا وحماية إسرائيل ودعم أي طرف داخلي يحقق لها هذين الهدفين ولو كان يرفع لـ”المقاومة” ألف راية ولـ”الممانعة” ألف لواء، ويبحُّ الحناجرَ في شتيمتها ليلَ نهار، بعد أن تكون تجارب الثوار جنباً إلى جنب قد تعمّقت، وإيمانهم بثورتهم قد تجذر، فاعلم بعدها أن النصر على أزلام أي طغمة، ومنها الطغمة الإيرانية هو صبر ساعة.

انطلاقة الثورة

انطلقت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 على شكل احتجاجات في الشارع بسبب ضريبة شهرية فرضها وزير الاتصالات محمد شقير في حكومة الرئيس سعد الحريري على استخدام تطبيق واتساب قيمتها 6 دولارات شهريًّا، وتطورت سريعًا لتصبح حركة اعتراض شعبية واسعة على الحكم وركود الاقتصاد والبطالة وفساد المسؤولين وفشلهم في توفير الخدمات الأساسية للمواطن ونهبهم المال العام، والتشريعات التي فُصّلت على قياسهم لحمايتهم من المساءلة.

تحولت احتجاجات الشارع بسرعة قصوى أزمةً بين النظام والشعب الثائر من جهة، وبين الأخير وإخوانه في الوطن المنقسمين طائفيًّا وراء أمراء الحرب الأهلية أركان هذا النظام من جهة أخرى، ودفعت الرئيس الحريري إلى الاستقالة في 29 ت1/ أكتوبر 2019. أما ركنا ثلاثيِّ الحكم الآخران، وأحدهما مستمر في الحكم منذ ثمانية وعشرين عامًا (20 ت1/ أكتوبر 1992 – …) وصاحب المدة الأطول بين رؤساء المجالس النيابية في العالم، وهو نبيه بري، فبقيا متمسكَين بكرسيَّيهما، وكَلّفا في 19 ك1/ ديسمبر 2019، على وقع استمرار الاحتجاجات، وزير التربية السابق حسان دياب بتشكيل حكومة جديدة، في وقت أعلن المحتجون إدانتهم تكليفه. وبعد شهر ويومين من التكليف وثلاثة أشهر و5 أيام من الثورة، في 21 ك2/ يناير 2020، مُنحت حكومة دياب العشرينية الثقة في عملية تحايل موصوفة على الدستور قام بها برّي (تُنظر تفاصيلها لاحقًا)، إلا أن هذه الحكومة لم تُكمل الثمانية أشهر في الحكم، إذ قدمت استقالتها في 10 آب/ أغسطس 2020، بعد أسبوع على انفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 آب الذي عمّق الهوة أكثر بين السلطة والشعب.

الإرهاصات الأولى للثورة

ومما لا شك فيه أن اندلاع الاحتجاجات لم يكن وليد لحظته أو بسبب ضريبة الواتس أب فحسب، بل هي نتيجة تراكم أزمات سابقة واحتقانات بين جماهير القيادات السياسية الحاكمة أدى إلى تفجّر حوادث مؤسفة على الأرض، مثل الذي حدث في 27 أيار/ مايو 2019 في السعديات، وهي منطقة يعيش فيها مناصرون لـ”حزب الله” و”تيار المستقبل”، فقد أودت حادثة تمَّ فيها إطلاق النار على مصلى في المنطقة تابع لـ”حزب الله” تبعه تبادل لإطلاق النار، بحياة المواطن محمد المولى الذي تعرضت سيارته لست عشرة رصاصة أصابت اثنتان منها جسمه فقضى على الفور.

وكالذي حدث في 30 حزيران/ يونيو 2019 في بلدة البساتين الشوفية بين جماعة وليد جنبلاط ومرافقي الوزير صالح الغريب، التابع سياسيًّا لرئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، المتحالف مع زعيم الحزب الحاكم “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، وذلك احتجاجًا على زيارة الأخير المنطقة، ما أدى إلى سقوط ثلاثة قتلى، اثنان منهم من مرافقي الغريب وقد قتلا على الفور، وهما المسؤول في الحزب الديمقراطي اللبناني رامي أكرم سلمان، ومرافق الوزير الغريب سامر نديم أبو فراج، أما الثالث فهو ابن البلدة صاحب الـ17 عامًا سامو غصن، الذي أصيب برصاصة في الرأس خلال تبادل إطلاق النار وأسلم الروح لاحقًا (في 25 تموز 2020، بعد سنة و25 يومًا من الصراع مع الإصابة القاتلة).

سامو غصن قبرشمون
سامو غصن
سامر أبو فراج (على اليمين) ورامي سلمان


ومع انطلاق الثورة، وفي اليوم الثاني منها، 18 أكتوبر 2019، أطلق مرافق لوزير التربية وقتها أكرم شهيب، العضو في كتلة “الحزب التقدمي الاشتراكي” النار في الهواء باتجاه متظاهرين ضد الحكومة ودهَسَ أحدهم أثناء خروج الوزير من مجلس النواب ومحاولة أحد المعتصمين قطع الطريق أمامه. لم يؤد إطلاق النار إلى أي إصابات، وقام شهيب بعدها بتسليم مطلق النار إلى السلطات بطلب من رئيس الحزب وليد جنبلاط.

تحرّكان ثوريان منظّمان قبل الثورة

أما الاحتقان الشعبي الذي تُرجم تحركاتٍ لاعنفيةً على الأرض قبل الثورة، فتجلّى في تحركين لافتين قبل نحو أسبوع من تفجر الانتفاضة (في 11 تشرين الأول 2019) تمثلا باقتحام ناشطين من حزب “سبعة” المجلس النيابي وإلقاء عضو الهيئة التنفيذية فيه بارعة الأحمر بيانًا أظهر “خرق هذا المجلس الدستور عشرات المرات” عبر “إقرار موازنات من دون قطع حساب، وعدم احترام المهل الدستورية لتقديمها، وإغلاق أبواب المجلس أشهرًا طويلة بسبب خلافات سياسية، وإخفاء قوانين تطوير الوطن تحت سقفه (مثل قانون استعادة الأموال المنهوبة وقانون استقلالية القضاء)، وتمديد النواب لأنفسهم 5 أشهر من دون وكالة من الناس… وغيرها”. وأعلن البيان “إطلاق المقاومة المدنية الوطنية، لا المسيحية ولا الإسلامية، في وجه… سلطة طائفية تتخبط في أزمة خطيرة هي سببها، وترفض محاربة الفساد، إذ لا تمكنها محاربة نفسها”، وختم البيان: “لم يعد لدينا حل الا تغيير الحكام عبر انتخابات نيابية مبكرة ينبثق منها مجلس نيابي جديد ورئيس جمهورية جديد وحكومة اخصائيين جديدة”، وقد تسبب الحادث بإيقاف شرطة المجلس العشرات من “سبعة” تم الإفراج عنهم لاحقًا.

أما في التحرك الثاني، فقد اقتحمت في اليوم ذاته مجموعة من قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي مبنى “الاتحاد العمالي العام” في بيروت، ودعوا مِن داخله في بيان “كل المتضررين من السياسات الاقتصادية إلى التحرك أمام جمعية المصارف، حيث تتكدّس أموال الشعب المنهوبة بفعل التحالف التدميريّ الثلاثيّ: المصارف – مصرف لبنان – والسلطة السياسية”، بحسب البيان، الذي اتهم “الاتحاد العمالي” بأنه بات “اتحاد السلطة ورأس المال ضدّ مصلحة العمّال”، معتبرًا أن المعركة “مع هذه السلطة المتعفّنة (كما وصفها) جذريّةٌ، وتتمثل في مواجة الهدر والفساد والطائفيّة والمحاصصة التي تعتاش عليها السلطة وتؤبّد حكمها وتحفظ استمراريتها من خلالها”. 

اقتحام ناشطي “سبعة” المجلسَ النيابي وطلابِ الحزب الشيوعي “الاتحادَ العمالي” باكورةُ الصراع مع السلطة

كانت الثورة موجهة إلى عجز الطبقة الحاكمة على الأصعدة كافة، فإضافة إلى نهبها المال العام، وتقصيرها في تقديم أبسط الخدمات للمواطن، وتسبّبها بارتفاع أسعار النفط والخبز وتآكل القدرة الشرائية للبنانيين وزيادة البطالة والفقر، بلغ العجز بهذه السلطة مبلغًا فشلت معه في إخماد حرائق (قُدرت بـ100 حريق) التهمت مساحات خضراء واسعة يفتخر بها اللبنانيون، وأدت إلى نزوح مئات الأشخاص وإلحاق أضرار جسيمة بالحياة البرية اللبنانية، فهرولت إلى طلب المساعدة من الدول الصديقة كقبرص و‌الأردن و‌تركيا و‌اليونان، إضافة إلى مشكلة المشاكل ومصيبة المصائب كلها، العجز في الإنتاج الكهربائي، إذ لم يسجَّل منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975 قط تزويد “مؤسسة كهرباء لبنان” اللبنانيين بكهرباء مستقرة على مدار 24 ساعة، وبات التقنين في التغذية بالتيار ظاهرة عامة، ويتراوح في الشدة والضعف، حتى بات اللبنانيون ينظرون إلى الساعات الثماني من التقنين يوميًا وكانه نعمة، وانتشرت “مافيا المولدات” في البلاد، مع اهتراء في البنية التحتية للصرف الصحي، و”أزمة قمامة” عانى منها اللبنانيون طويلًا.

الاحتكاك مع السلطة

وفي اليوم الثاني من انطلاق الثورة، أطلق مرافقو النائب السابق مصباح الأحدب النار وأصابوا 7 أشخاص في ساحة النور بمدينة طرابلس خلال تظاهرة احتجاجية منع المشاركون فيها الأحدب من الانضمام إليهم، باعتباره رمزًا من رموز السلطة المرفوضة بمجملها منهم، ورشقوه بعبوات المياه ما استفز المرافقين الشخصيين.

أحد جرحى ساحة النور في طرابلس برصاص مرافقي الأحدب

شهداء الثورة الخمسة

كحال كل الثورات في العالم، قدمت ثورة 17 تشرين خلال عام واحد خمسة شهداء على مذبح الحرية والكرامة، نذكرهم وفق تواريخ استشهادهم:

الشهيد الأول

لم يَطُلْ تحول ثورة 17 تشرين دمويةً، إذ تحقّق ذلك في اليوم الثاني لانطلاقتها، ولو أن المقتول ظلمًا كان فردًا واحدًا من أبنائها، وهو الشهيد حسين العطار، وسقط حين كان يشارك في تظاهرة على طريق المطار برصاصتين من عنصر حركة أمل خليل عواد اللتين أصابت إحداهما قلبه، لمجرد أن عطار اعترض على تقاضيه مبالغ كبيرة من راغبي السفر الذين لم يعودوا يستطيعون الوصول إلى المطار بسبب قطع الطريق مقابل إيصالهم على دراجته النارية، طالبًا إليه عدم الإساءة إلى الثورة بهذه الأفعال، فيما فر المجرم إلى سوريا وتوارى فيها حوالى السنة إلى أن تسلمته قوات الأمن اللبنانية عبر معبر المصنع في 7 تشرين الأول 2020.

الشهيد حسين العطار

الشهيد الثاني

يوم 19 تشرين الأول 2019، اعتلى الشاب الثائر عمر زكريا مبنى قيد الإنشاء قرب ساحة رياض الصلح وبيده الراية التي أرادها فوق كل الرايات، العلم اللبناني، بهدف زرعه فوق المبنى ليخفق عاليًا، يحدوه الأمل بأن يرفع بفعله السامي الوطن إلى علٍ، إلّا أنّ قدمه انزلقت به نحو قضبان حديدية اخترقت جسده، فنُقل إلى العلاج على الفور لكنه أسلم الروح بعد تسعة أيام متأثرًا بجراحه، في 28 تشرين الأول.

عمر زكريا
الشهيد عمر زكريا

الشهيد الثالث

في 13 ت2/ نوفمبر 2019 أصابت الشاب علاء أبو فخر رصاصة في الرأس إثر تلاسن مع سيارة عسكرية تابعة للجيش اللبناني في خلدة، خلال قطعه الطريق الرئيسي مع مجموعة من المتظاهرين، وكان مطلقها عنصرًا في مخابرات الجيش هو المعاون أول “شربل.ح”، مرافق العقيد في الجيش نضال ضو، المقرّب من الحزب التقدمي الاشتراكي. وقالت قيادة الجيش لاحقًا إن إطلاق النار حدث لتفريق المتظاهرين ما أدى إلى إصابة أحد الأشخاص. وأوقفت العسكري مطلق النار وبدأت تحقيقًا في الحادث.

علاء ابو فخر
الشهيد علاء ابو فخر

الشهيد الرابع

رغم كل الآلام التي تحملها، وكل تعب الأطباء لإنقاذه، استسلم الجسد الرابع في 17 شباط 2020، جسد الشاب أحمد توفيق، بعد مقاومةٍ استمرت شهرين وعشرين يومًا في العناية الفائقة لأثر رصاصة أصابته في 26 تشرين الثاني 2019 في البطن ومزقت أحشاءه مصدرها الجيش اللبناني، إثر صدامات عنيفة مع المتظاهرين الذين كانوا يحاولون حرق مكتب التيار الوطني الحر في شارع الجميزات بطرابلس.

الشهيد أحمد توفيق
الشهيد أحمد توفيق

الشهيد الخامس

وفي مواجهة ليلةَ 28 نيسان/ أبريل 2020 مع الجيش في عاصمة الشمال أيضًا، سقط الثائر الشاب فواز السمان، الذي كان يشترك مع أبناء مدينته في تظاهرة احتجاجًا على الأوضاع المعيشية المزرية التي تعيشها المدينة ولبنان عمومًا.

الشهيد فواز السمان

قدمت ثورة 17 تشرين خلال عام واحد خمسة شهداء على مذبح الحرية والكرامة

فتن متنقلة

وفي بكفيا، وبعد شهر وتسعة أيام من تفجر الانتفاضة، في 26 تشرين الثاني 2019، حدث إشكال كبير بين أهل المنطقة الذين منعوا مواكب سيّارة لمناصري “التيار الوطني الحر” انطلقت من مركز التيار في ميرنا الشالوحي باتجاه انطلياس ووصلت إلى مداخل بكفيا الموالية بمعظمها لحزب “الكتائب” رافعة شعارات المطالبة بفتح ملف المارينا – الأملاك البحرية وصفقة “البوما” التي يتهمون رئيس الكتائب السابق رئيس الجمهورية أمين الجميل بالتورط فيها، ما أسفر إشكال كبير وتضارب بين الموكب والأهالي أسفرا عن سقوط 4 جرحى.

جريحة خلال إشكال بكفيا

انهيار الاقتصاد

ولو أن الأمر استمر على ما هو في ظل وضع اقتصادي مقبول لتصبّر الناس على مصيبتهم في حكامهم، إلا أن بداية خسارة الليرة قيمتها أمام الدولار، وتدهور الاقتصاد اللبناني خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتدني نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أدنى مستوياته، ووصول الدين العام إلى أعلى مستوياته منذ عام 2008، وتلويح وكالات التصنيف الائتماني الدولية بالعصا للبنان، صاحِب الاقتصاد المدولر والمعتمد في شكل أساسي على الاستيراد، عبر تخفيضها تصنيف سنداته الحكومية… كلها عوامل أدت مجتمعةً إلى زيادة عجز ميزانية الدولة واستخدام احتياطي النقد الأجنبي من البنك المركزي، ما أثر عام 2019 في قدرة شركات الاستيراد والمواطنين على الحصول على الدولار بالسعر الرسمي، وأدى إلى ظهور سوق سوداء للتعامل به، فأصدر مصرف لبنان في الأول من أكتوبر 2019 (وكان الدولار وقتها قد بلغ 1640 ليرة) تعميمًا يهدف إلى توفير الدولارات لمستوردي السلع الأساسية (قمح وبنزين وأدوية) بالسعر الرسمي المقدر بـ1507 ليرات، مقابل حصوله من البنوك على الاعتمادات المستندية المخصصة حصرًا لاستيراد هذه السلع التي حصلت عليها من المستورد والمبلغ الذي أودعه هذا المستورد بالليرة للحصول على مقابله بالدولار.

أصبح تقليص العجز المستجدّ في الاقتصاد شرطاً لتيسير وصول حزمة قروض ومِنَح كان متفقًا أن تسلَّم إلى لبنان تقدَّر بحوالى 11 مليار دولار اتُّفق عليها في 2018 بين كل من البنك الدولي (10.2 مليار) و‌البنك الأوروبي و‌المملكة العربية السعودية (860 مليون دولار) وبين لبنان، فاجتمع مجلس الوزراء في 17 تشرين الأول بجدول أعمال من 36 بندًا، مقترحًا استراتيجيات لزيادة إيرادات الدولة لعام 2020، بزيادة ضريبة القيمة المضافة فورًا على الكماليات 15%، وتدريجياً إلى 15% على بقية الأصناف، على أن يطبَّق نصفها في 2021 ونصفها الآخر في 2022.

ساحة طرابلس: عاصمة الحرمان وعروس الثورة

بداية تشكُّل “الساحات”

لم يفلح مسعى المصرف المركزي والحكومة في تهدئة الشارع، ففي اليوم الثاني من الثورة (18 تشرين)، وفي ملمح أوّلي لبداية تململ القاعدة الشعبية لـ”الثنائي الشيعي”، انتقلت التظاهرات إلى النبطية ولاحقًا إلى صور، والنبطية وبعلبك وبنت جبيل وكفررمان، فقام المتظاهرون في النبطية بتخريب مكاتب “حزب الله” و‌حركة “أمل”. أما في عاصمة الشمال طرابلس، فهاجم متظاهرون مكاتب التيار الوطني الحر في تعبير عن خيبة الأمل والاحتجاج على فساد الحكومة. وفي بيروت، حاول المتظاهرون دخول السراي الحكومية والبرلمان فحصلت مواجهات مع القوى الأمنية التي استخدمت الغاز المسيل للدموع. وبسرعة، أنشأ المتظاهرون حواجز على الطرق الرئيسية في البلاد، مستخدمين الإطارات المحترقة وحاويات القمامة وغيرها، وبالتالي بدأت ملامح ما سمي لاحقًا بـ”الساحات” في التكوُّن.

ساحة صيدا: حشود كثيفة في ساحة إيليا بصيدا
ساحة صور: ثوار في عرين “حزب الله”
حراك النبطية
ساحة النبطية: فعلتها الثورة!! مشهد غير معتاد للجنوبيين
لبنان ينتفض في ساحة الشهداء
ساحة الشهداء: أمُّ الساحات خلال رفعها قبضة الثورة بحضور مئات الآلاف

تفرُّق حلفاء الأمس وتوهّج الثورة

في اليوم ذاته كانت جلسة لمجلس الوزراء مقررة بعد الظهر، إلا أن حليفًا مهمًا لرئيس الوزراء سعد الحريري أعلن أن وزراءه لن يحضروها، ودعا الرئيسَ الحريري إلى الاستقالة، بسبب “الفشل الذريع في وقف تدهور الوضع الاقتصادي للبلد”، كما ورد في كلام جعجع، الذي أظهر إلى العلن الخلافات العميقة التي كانت كامنة منذ مدة بين حلفاء الأمس، فيما دعا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على “تويتر” إلى التظاهر “الهادئ” و “السلمي” في عاليه وبحمدون وبعقلين ضد “عهد عون، الذي يقضي على جميع مبادرات الإصلاح الممكنة بكل الوسائل وأفسد كل شيء، ويحاول من خلال رجله القوي جبران باسيل رمي المسؤولية إلى الآخرين”، مستثنيًا نفسه من الطبقة الفاسدة، وختم بالقول “سوف نتظاهر في مناطقنا لتجنب إثارة الحساسيات”.

ألغى سعد الحريري الجلسة المقررة للحكومة، ووجه بدلًا منها كلمة إلى اللبنانيين أمهل فيها “أطرافًا في الحكومة” لم يسمها “72 ساعة للتوقف عن تعطيل الإصلاحات بعد أن أعطتنا الناس 3 سنوات، وتقديم أجوبة تقنعني وتقنع المجتمع الدولي”، مهدِّدًا بأنه سوف يتبنى نهجًا مختلفًا في حال عدم الاستجابة.
وسرعان ما تطورت شعارات الانتفاضة الشعبية حتى وصلت إلى المطالبة برحيل الرؤساء الثلاثة، وازداد زخم التظاهرات حتى وصل العدد في إحداها إلى مليون متظاهر يحملون الأعلام اللبنانية فقط.

نصر الله ولاءاته الثلاث

في اليوم الثالث للانتفاضة أطل أمين عام حزب الله حسن نصر الله على اللبنانيين بكلمة رفض فيها مطالب الثورة ورفع في وجهها ثلاث لاءات: “لا” لاستقالة حكومة الحريري، لأنها “إذا استقالت فمن غير المعلوم أن تتشكل الحكومة بسنة أو سنتين، نريد للحكومة أن تستمر بروح ومنهجية جديدتين”، و”لا” لمطلب حكومة التكنوقراط، و”لا” لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، من دون أن يطرح خطة يتبناها حزبه، بل اكتفى بدعوة الجميع إلى التضحية. وبعد أن برّر عدم نزول أتباعه بأنهم “إذا نزلوا لن يغادروا قبل تحقيق مطالبهم”، عقّب بأنهم سينزلون “في حال فرض ضرائب جديدة على الفقراء”، وبأنهم “سيغيرون كل المعادلات”.
وقد نزل أتباعه بالفعل في اليوم ذاته، إذ قامت مجموعات من حركة أمل بمضايقة المتظاهرين في صور وفتْح النار عليهم، كما حاول راكبو دراجات نارية يرفعون أعلام الثنائي الشيعي ليلةَ اليوم الخامس للثورة، التسلل إلى خيم المحتجين في وسط بيروت محاولين التعدي على قاطنيها، لكن الجيش اللبناني أحبط محاولتهم. ونفى طرفا الثنائي تورطهما في هذا الحادث

استقالة “القوات”

في 20 تشرين الأول 2019، أعلن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في مؤتمر صحافي استقالة وزرائه الأربعة من مجلس الوزراء من دون التنسيق مع الحريري، بسبب “عجز الحكومة وعرقلة الإصلاحات الضرورية” كما قال.

إغلاق المصارف

وكانت مصارف لبنان قد أغلقت أبوابها من دون سابق إنذار بدءًا من اليوم الثاني للثورة الجمعة 18 تشرين الأول، وسط تساؤل المودعين. وتأخر بيان جمعية المصارف المنتظر للرد على استفسارات أصحاب الودائع القلقين من تعطّل أشغالهم وقلة السيولة بين أيديهم حتى الإثنين 21 منه، الذي طلعت شمسه على استمرار أبواب المصارف مغلقة، فجاء في بيان مدير الإعلام والعلاقات العامة في الجمعية جورج أبي صالح، تأكيد استمرار الإقفال “على خلفية الأحداث التي تعرفها البلاد، ونظرًا لما تعرضت له بعض المراكز والفروع من أضرار، وحرصًا على أمن العملاء والموظفين وسلامتهم”… كل هذا ولم يدُرْ في خلد هؤلاء المودعين أن مدة الإقفال ستدوم 20 يومًا، وأن الافتتاح بعدها لن يحمل إليهم الفرج المأمول، بل بما لم يتوقعوه أو يتوقعه أحد، وهو أنه “لا سيولةَ”، في وقتٍ وضع تقرير لوكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني لبنان على “ائتمان الساعة السلبية”، بسبب تدني الجدارة الائتمانية والضغوط الاقتصادية المتعلقة بالإصلاحات، واستمرت بنوك البلاد مغلقة بسبب المخاوف من السلامة.

بداية تخوين المتظاهرين

ألقى حسن نصر الله في 25 تشرين الأول كلمة اقترح فيها أن لا يتم استغلال المتظاهرين من قبل العملاء المحليين والأجانب لبدء حرب أهلية داخل البلاد، فرد عليه ما يقدر بنحو 170.000 من المحتجين خلال يومين (في 27 أكتوبر) بسلسلة بشرية للأيادي المتشابكة امتدت من مدينة طرابلس الشمالية إلى مدينة صور الجنوبية (171 كلم)، لإظهار وحدة الشعب اللبناني من مختلف المناطق والطوائف.

إصبعٌ كلّفت لبنان واللبنانيين غاليًا ولمّا تزلْ

ومع انتشار الأخبار بنيّة السلطات عقد جلسة تشريعية في 12 ت2/ نوفمبر 2019 لإقرار قانون العفو العام المقترح بشكل يمنح فاسدي السلطة الحاليين والسابقين الحماية من المقاضاة على جرائم إساءة استخدام الأموال العامة، أصدر المحتجون في اليوم ذاته قائمة مطالب تضمنت المطالبة بمحاكمة سريعة، والتحقيق في سوء استخدام الأموال العامة، ظهر رئيس البرلمان نبيه بري على الهواء للإعلان عن تأجيل الجلسة حتى 19 ت2، مدّعيًا أن التأجيل هو “لأسباب أمنية”. وفي الموعد المضروب، وكان من المقرر أن يعقد البرلمان جلستين في الصباح لإقرار جدول زمني لقانون العفو، عُقدت الجلسة الأولى، لأن المقاطعين كانوا 58 فقط، رغم إقامة المتظاهرين سلسلة بشرية حول البرلمان لمنع النواب من الوصول، لكن قوافل بعضهم كانت تخترق الحشود مسرعة مع إطلاق الرصاص في الهواء، ما تسبب بإصابة العديد من المتظاهرين بجروح خطيرة، وأدى إلى إعلان الأمين العام للبرلمان عدنان ضاهر عند الساعة 11:20 تأجيل جلستي البرلمان “إلى أجل غير مسمى”، ما اعتُبر انتصارًا آخر تحققه الثورة.

في 12 ت2، طلب بري من الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، لكن الأخير رفض، فظهر الرئيس ميشال عون مساء في مقابلة تلفزيونية مباشرة، ورفض فيها حكومة تكنوقراط كاملة، وحذر من سحب الأموال من البنوك لأن فيه مزيدًا من الإضرار بالقطاع الاقتصادي، ودعا إلى وضع حد فوري للاحتجاجات لمنع حدوث “كارثة”. واتهم عون المتظاهرين “بطعن الشعب بخنجر” و”بانتهاك القانون الدولي” بسبب إغلاق الطرق، معلنًا قولته الشهيرة “إذا مش معاجبن يهاجرو”، الذي دفعت الناس بمئات الآلاف إلى الشوارع احتجاجًا، في بيروت وقب إلياس وجسر الرينغ وضهر البيدر والجية ونهر الكلب والناعمة والبداوي والعبدة والمحمرة وبرقايل والمدينة الرياضية وفردان وجل الديب وحاصبيا وطريق البالما السريع وعاليه والكولا والدورة والصيفي وكورنيش المزرعة وساسين.

رئيس “نقابة المحامين” من الثورة

في 17 ت2/ نوفمبر 2019، انتُخب بأغلبية الأصوات غير حزبي ومدعوم من الثورة لأول مرة نقيبًا للمحامين هو ملحم خلف.

الاحتكاك العنيف لجماهير “الثنائي” بالثورة

في أمسية من أكثر الأُمسيات عنفاً منذ بداية الاحتجاجات، اشتبك مؤيدو حزب الله و‌حركة أمل قبل منتصف ليل 24 ت2 2019 بعنف مع محتجي “الرينغ” وجل الديب، كما أحرقوا خيام المجتمع المدني وقبضة الثورة في ساحة الشهداء وحطموا السيارات وتسببوا بأضرار في الممتلكات العامة والخاصة، ما دفع منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان يان كوبيتش إلى التغريد على تويتر محذرًا من هذه المواجهة المتصاعدة. وفي اليوم التالي جال أنصار “الثنائي” على الدراجات النارية في أنحاء بيروت وصور ومدن أخرى مطلقين هتافات الاستفزاز ضد المتظاهرين، ما تسبب ببعض الاشتباكات الجسدية. وكادت الأمور تفلت من عقالها بين عشيّة وضحاها، حين وقعت اشتباكات خطيرة في المنطقة ذات الحساسية العالية جدًّا الواقعة بين الشياح وعين رمانة، أصيب فيها عشرات الأشخاص واعتقل الجيش اللبناني 16 شخصاً لتورطهم في الاشتباكات.

تعثر لبنان في سداد سنداته وانتحارات

كان يوم السبت 5 آذار/ مارس 2020 فارقًا في تاريخ لبنان، إذ اتخذ رئيس الحكومة حسان دياب قرارًا بعدم تسديد سندات اليوروبوند التي تستحق على لبنان في 8 آذار وقيمتها 1.2 مليار دولار، وبذلك كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية التي ترزح البلاد تحت واقع ماليّ مأزوم وديون تصل قيمتها إلى 92 مليار دولار وأزمة حادة تطاول الاحتياطات بالعملات الأجنبية، عن سداد ديونها السيادية للدائنين الدوليين. وفي ظل تلك الظروف المعيشية المتدهورة وحجز ودائع اللبنانيين في المصارف وانخفاض مستوى دخل اللبناني إلى مستوى خطير، أُعلن عن عملية انتحار ناجي الفليطي، الأب لفتاة (ست سنوات) وطفل (سنة واحدة) البالغ من العمر 40 عاماً في عرسال، بعدما أصبح عاطلاً عن العمل قبل شهرين، ولعجزه عن تأمين ألف ليرة لبنانية لطفلته ثمن منقوشة تقتاتها في المدرسة، وبسبب ديون متراكمة عليه لا تتجاوز النصف مليون ليرة لبنانية (!!!) كما ذكر أهله لوسائل الإعلام، لتلي هذه العملية محاولات انتحار كثيرة تكلل أكثرها بالنجاح. وأثار انتحار الفليطي، لأنه لم يكن قادراً على إعانة أسرته بعد أن فقد وظيفته، غضباً كبيراً في الشارع اللبناني.


ونذكر بعجالة جميع محاولات الانتحار، المتكلل بالنجاح منها وغير المتكلل:

  • انتحر المواطن داني أبي حيدر، الأب لثلاثة أطفال، في منطقة النبعة مطلقًا رصاصة على رأسه بعد طرده من عمله وعدم قدرته على سداد ديونه من أقساط مدارس وسندات للبنك بسبب أوضاعه الاقتصادية الصعبة التي تراكمت إثر تخفيض راتبه إلى النصف قبل شهرين من انتحاره.
    وسقط المواطن جورج زريق في بكفتين بالكورة ضحيةً جديدة للوضع الاقتصادي المتدهور بعد رفض إدارة مدرسة ابنته إعطاءه إفادة لنقلها إلى مدرسة رسمية قبل تسديد الأقساط المتراكمة عليه بسبب أحواله المادية المتردية، فقرر زريق أن يضع حداً لحياته عبر إشعال النار في نفسه في باحة تلك المدرسة.عُثر على العنصر الأمني أنطونيو طنوس جثة في حقل في خراج بلدة سفينة الدريب ـ عكار والى جانبه مسدسه الأميري.
    وقد سُجلت الواقعة كحادثة انتحار نسبة إلى الدلائل التي تشير إلى ذلك، ولكن لم يُعلم ما إذا كانت الدوافع مادية، فالتحقيقات التي تبقى محصورة بقضاء السلك العسكري الذي لم يُفرِج عن النتائج.

يوم حزين وصادم

وكان يوم 3 تموز/ يوليو حزينًا جدًّا في لبنان إذ حصد الانتحار روحين فيه، ما أوجد حالة صدمة كبيرة لدى اللبنانيين والثوار، إلى درجة تعرض البطريرك الماروني بشارة الراعي لذكر المسألة في مستهل صلاة المسبحة الوردية على نية لبنان من كنيسة الصرح البطريركي.

فقد استيقظ اللبنانيون على فاجعة إقدام المواطن محمد علي الهق وسط ذهول المارّة على إطلاق النار على نفسه أمام مقهى دانكين Dunkin في شارع الحمرا بعد أن تناول فيه فنجان قهوة. “أنا مش كافر، بس الجوع كافر” كانت العبارة التي كتبها الهق على صدره قبل إنهاء حياته صارخًا “لبنان حر مستقل”، وقرأها كل من مر بجوار جثمان، مرفقًا إياها بسجل عدلي نظيف له.


الهق: أحرجوه فجوّعوه في الدنيا فكفّروه فأخرجوه منها

وتبين للأجهزة الأمنية بعد مباشرتها التحقيق أن الهق كان يرزح تحت أعباء ديون مالية، بعد عودته من الخليج وعمله هناك في العديد من المطاعم قبل العودة وافتتاحه مطعما في منطقة المريجة، إلأ أن فشله في المشروع الجديد وحتى في توفير الإيجار الشهري له ثم قوت يومه دفعه إلى الانتحار. وتحولت جملة الهق “أنا مش كافر” الهاشتاغ الأكثر تداولًا في لبنان (#أنامشكافر)، وحمل متظاهرو 17 أيار يافطات تندد بالمسؤولين.
ابن صيدا سامر حبلي، الأب لطفلة وحيدة، كان الضحية التالية في ذلك اليوم المشؤوم للفقر والعوز اللذين تسببت بهما الطبقة الحاكمة، فوضع حدّاً لمعاناة كانت يومية مع البحث المذلّ عن لقمة عيش كريم، وتراكمت عوامل ضيق ذات اليد وإثقال مرض زوجته كاهله وتراكم الديون عليه والبطالة… لتدفع بسامر إلى شنق نفسه.
وكان البطريرك الراعي قال: “يؤلمنا ويؤسفنا أن يكون قد أقدم شابان على الانتحار اليوم في لبنان بسبب الوضع المعيشي المزري. إن خطوة كهذه تعتبر وصمة عار في جبين لبنان. وإن ما كتبه أحدهما (انا لست بكافر إنما الجوع كافر)، يشكل مسؤولية في أعناق كل اللبنانيين، مسؤولين وغير مسؤولين”.

سقوط الخطيب

بعد انسحاب سمير الخطيب كمرشح لرئاسة الوزراء، الاسم الذي كان عُوِّم بعد استقالة الحريري، إثر فشله في الحصول على دعم كافٍ من الأحزاب السنية عاد اسم سعد الحريري مرشحًا وحيدًا لرئاسة الوزراء، لكن المحتجين تجمعوا خارج البرلمان للتعبير عن رفض ترشيحه والمطالبة بمرشح مستقل، هاتفين ضده وضد جبران باسيل، فنشر الحريري على أثرها تغريدة على “تويتر” جاء فيها: “ولما تبين لي انه رغم التزامي القاطع بتشكيل حكومة اختصاصيين، فإن المواقف التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية من مسألة تسميتي هي مواقف غير قابلة للتبديل، فإنني أعلن انني لن أكون مرشحا لتشكيل الحكومة المقبلة”.

وبعد تعيين حسان دياب رئيسًا للوزراء استمر إغلاق الطرق وتظاهر الآلاف ضده مطالبين باستقالته. وبعد هدوء الاحتجاجات نسبيًّا لمدة تقل عن الشهر استؤنفت عنيفةً من جديد في 14 كانون الثاني 2020، فأُغلقت الطرق السريعة والطرق الرئيسية في بيروت و‌طرابلس و‌عكار و‌صيدا و‌زحلة ودارت اشتباكات مع قوات الأمن خارج البنك المركزي.

اعتقال المتظاهرين ممنوع

في 15 يناير تجمع متظاهرون أمام ثكنة شرطة الحلو في بيروت مطالبين بالإفراج عن أكثر من 50 متظاهراً تم اعتقالهم خلال تظاهرة، فأطلقت شرطة مكافحة الشغب الغاز المسيل للدموع بكثافة ومارست العنف المفرط لفصل المتظاهرين، بالإضافة إلى اعتقال 15 متظاهراً إضافيًّا. سقطت في الاشتباكات 45 جريحًا وفق الصليب الأحمر، فأصدر وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي بياناً ينتقد العنف ضد المحتجين ويحثهم على التزام التظاهرات السلمية في الوقت نفسه. ودعت هيومن رايتس ووتش السلطات إلى الإفراج عن المحتجزين الذين لم توجه إليهم تهم بجرائم، ومحاسبة الضباط المسؤولين عن الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين.

اعتقال صحفي أميركي

نشرت صحيفة إنترناشيونال بيزنس تايمز (IB Times) في 19 يناير 2020، نقلًا عن ” لجنة حماية الصحفيين”، أن الصحافيين الذين يغطون الاحتجاجات المناهضة للحكومة في لبنان بدأوا بالتعرض للاعتقال أو الاعتداء أو التحرش من قبل الشرطة، وذلك بعد 5 أيام على اعتقال الصحفي الأميركي المستقل نيكولاس فراكيس في بيروت في 14 يناير بتهمة (كما نقلت الـ”واشنطن بوست”) إرسال لقطات من الاحتجاجات المناهضة للحكومة إلى صحيفة هاآرتس الإسرائيلية، في حين أنكرت الأخيرة أي تعامل مع فراكسيس، وقالت إن فيديو الاحتجاج المناهض للحكومة الذي تم تحميله على حسابهم في “فايسبوك” كان من وكالة “رويترز”.

باسيل منبوذ حتى من “الخارج” المحايد

شاءت الأقدار أن تكشف دعوة وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل لالقاء كلمة في منتدى “دافوس” الاقتصادي العالمي في 20 كانون الثاني 2020 (بعد أن كان مثّل لبنان في المنتدى عام 2019 بصفته وزيرًا أصيلًا) ضمن ندوة بعنوان “عودة الاحتجاجات العربية”، ويشارك فيها رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، والمنسقة الخاصة السابقة للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ، ومقدمة برنامج “كابيتال كونيكشن” في قناة “سي أن بي سي” (CNBC) الصحافية هادلي غامبل، والملياردير الإماراتي حسين سجواني، نظرةَ الخارج الجديدة إلى هذا الرجل ومكانته بين فاعلياته، التي أكثر ما تجلّت في المقابلة التلفزيونية التي أجرتها معه غامبل بحضور كاغ، وكانت أشبه بمحاكمة منها إلى مقابلة.

وكانت غامبل قالت قبل لقائها باسيل في مقابلة مع القناة التي تعمل فيها إنها تلقت “خلال الـ 24 ساعة الماضية الكثير من التغريدات على تويتر والهاشتاغات على فايسبوك من مشاهدي المحطة اللبنانيين يعربون فيها عن الكثير من القلق والاستياء لأن باسيل سيمثل لبنان هذه السنة، ولأنه ستكون له مقابلة على منصتي، وأنهم لا يريدون ذلك”، واعدة بأنها “كصحفي وكشخص يحمل في قلبه محبة خاصة للبنان”، ستساءل باسيل بشدة خلال المقابلة المقررة عن كل ما يحصل في لبنان، وهو ما جعل باسيل يقدم للقاء غامبل بنية مسبقة بعدم السماح لغامبل بأن تصوِّب عليه كما وعدت اللبنانيين، لكنها فاجأته في بداية اللقاء وأحرجته باستفتاءِ حاضري اللقاء برفع الأيدي حول رأيهم في فاعلية حكومة حسان دياب وقدرتها على مواجهة التحديات التي يواجهها لبنان، فكانت النتيجة يدًا واحدة من بين الحاضرين، وحتى باسيل نفسه لم يرفع يده، ثم جاءت المفاجأة التالية لباسيل طيَّ السؤال الأول لغامبل: “أنت تقود أكبر تكتل سياسي لكنك لست وزيرًا، لذلك طرح كثيرون سؤالًا عليَّ هو: “كيف حضرت إلى هنا؟ هل استخدمتَ طائرة خاصة؟”، ليجيب باسيل: ” أنا أستطيع التواجد هنا كحال وزراء خارجية سابقين تمت دعوتهم، وقد جئت على نفقتي الخاصة”، فجاء السؤال التالي ذو الصلة أشدَّ من غامبل، التي قالت: “لكن الوزراء يتقاضون 5000 دولار، فكيف لك أن تمتلك طائرة خاصة بهذا المبلغ؟”، فقال باسيل: “لم أصرف ليرة واحدة من حساب الخزينة العامة”. غامبل: “إذًا هي أموال العائلة”. باسيل: “كلا، إنها تقدمة لي. لقد أتيت إلى هنا بدعوة”… وفي تلك اللحظة جاء التدخل الأقسى على باسيل من سيغريد كاغ، التي قالت له: “عندما نكون في الحكومة يُمنع علينا أن يكون لدينا مثل هؤلاء الأصدقاء”.

باسيل خلال المقابلة “المحاكمة”


غامبل المتابعة جيدًا ما يُكتب على وسائل التواصل الاجتماعي، غمزت ساخرةً من قناة نائب باسيل في رئاسة التيار الوطني الحر السيدة مي خريش خلال قول باسيل لها “أنتِ بالتأكيد تتابعين تويتر ووسائل التواصل…”، مقاطعة إياه قائلة: “نعم، يبدو أنني صهيونية”، وذلك ردًّا على تغريدة لخريش قالت فيها: “غامبل.. أداة في الحملة الصهيونية على جبران باسيل. هذه تريد أن تمنع باسيل من الذهاب إلى دافوس. تريد محاسبته وتحميله مسؤولية كل ما يحصل في لبنان”، مرفقةً إياها بصورة لغامبل مع رئيس الوزراء الصهيوني الراحل شيمون بيريز.

مي خريش
مي خريش

وكان موقع “آفاز” للعرائض نشر عريضة وقّعها ستة آلاف شخص تقول: “لا يجب أن يكون باسيل حاضراً في منتدى دولي مرموق مثل دافوس باسمنا. لا ينبغي إعطاؤه منصة شرعية لتدعيم سلطته والتحدث نيابة عن أمة رفضته وتتهمه بالفساد الفاضح”، كما نشر موقع “تشانج.أورغ” (change.org) للعرائض أيضا بيانًا موقّعًا من 11 ألف شخص جاء فيه: “باسيل مسؤول عن قرارات كبرى مأسوية أوصلت البلاد إلى أزمة سياسية من المرجح أن تؤدي إلى إفلاسها”.

منظمة العفو الدولية تدين عنف قوى الأمن

في 23 كانون الثاني / يناير 2020، جاء في بيان لـ”منظمة العفو الدولية” عن الأحداث في لبنان، أن “الاستخدام غير القانوني لقوى الأمن الداخلي للرصاص المطاطي أدى إلى إصابة مئات المحتجين بجروح، بعضها خطيرة”، وأنه “يجب على الحكومة التحقيق في الاستخدام غير القانوني والمفرط للقوة الذي أوقع ما لا يقل عن 409 من المحتجين خلال ليلتين فقط وفق بيانات الصليب الأحمر اللبناني، والتعدّي بالضرب، والتهديدات بالاغتصاب، والاعتقالات التعسفية للمحتجين لمنع تكرار ما حدث”. وأجرت المنظمة مقابلات مع 13 من شهود العيان، من بينهم طبيبان، واطلعت على عشرات الصور ومقاطع الفيديو وتصريحات الرسميين التي تدعم ما توصلت إليه من نتائج. وأضاف بيان المنظمة أن “الرصاص المطاطي استهدف الحزء العلوي من الأجساد، كما أُطلق الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه من مسافة قريبة، ما تسبّب بضرر أكيد للمحتجين”، وأن “امرأتين على الأقل أكدتا للمنظمة أن رجال الشرطة هددوهما بالاغتصاب”. وتابع البيان: “وعلى السلطات القضائية دور مهم في التحقيق وبعث رسالة قوية مفادها أن هذا العنف لن يتم التسامح معه”. وتطرق البيان إلى أن جنوح “بضع عشرات من المحتجين إلى إلقاء الحجارة والمفرقعات النارية في اتجاه القوى الأمنية، لا يجعل الاحتجاج بأكمله غير سلمي، أو يبرر استعمال القوة المفرطة في حقه”. وأوردت المنظمة شهادة ثلاثة من المحتجين بإطلاق شرطة مكافحة الشغب الرصاص المطاطي عليهم مباشرة أثناء هروبهم نحو شارع الجميزة”، وشهادة طبيب جراح في مستشفى أوتيل ديو [من دون ذكر اسمه بناء على طلبه] علاجه أربع حالات إصابات بالرصاص المطاطي في الرأس، من بينها حالة فقد البصر بشكل دائم”. ويُظهر مقطع فيديو متداول بصورة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، الشرطة تضرب المحتجين أثناء خروجهم من مركبات قوى الأمن الداخلي داخل ثكنة الحلو. وقد وعد رئيس قوى الأمن الداخلي بإجراء تحقيق في هذه الحادثة المحددة. لكن أي تحقيق لم يحدث حتى يومنا.

موازنة 2020

وسط الأزمة المالية المتفاقمة، أقر مجلس النواب اللبناني ميزانية 2020 في 27 كانون الثاني/ يناير، بحضور 70 نائبًا فقط من أصل 128، وتصويت 49 منهم في مصلحة إقرارها. كان الغرض من الموازنة الجديدة، وفق رئيس لجنة الموازنة النيابية إبراهيم كنعان، خفض عجز الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالى 7%.

الصورة المعاكسة: أول جريح من الطبقة الحاكمة

يوم 11 شباط/ فبراير 2020، قطع المحتجون كل الطرقات المؤدية إلى البرلمان محاولين تعطيل عقد جلسة منح الثقة لحكومة حسان دياب عبر منع النواب من الوصول. 84 نائباً حضروا الجلسة، 63 منهم أعطوا الثقة، 20 صوّتوا بـ”لا ثقة” وهم نواب “القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل” و”الحزب الاشتراكي”، ونائب واحد امتنع عن التصويت.

وكان بعض النواب قد أمضى ليلته داخل مبنى البرلمان لتجنب الاحتكاك بالمحتجين، فيما اتبع بعض المعنيين بعقد الجلسة أساليب أخرى لتضليل المحتجين، كالوصول إلى البرلمان على متن دراجات نارية، كما فعل وزير النقل والأشغال ميشال نجار. في وقتٍ تعرض موكب وزير البيئة دميانوس قطار للرشق بالبيض في أحد شوارع العاصمة لحظة مروره متوجهًا للمشاركة في الجلسة.

أما النائب اللبناني سليم سعادة، المنتمي إلى كتلة “الحزب القومي السوري”، فقد حاول الوصول بسيارته فحوصر من محتجين غاضبين أمام البرلمان استطاعوا النيل منه بحجر أصابه بجرح كبير قريبًا من عينه نقل على أثرها للعلاج، ثم عاد لاحقًا إلى الجلسة.

وكادت جلسة الثقة تفشل في الانعقاد، معلنة نصرًا للثائرين على الأرض بمنعهم إكمال نصابها، إذ كان في القاعة 58 نائبًا فقط عندما قرع الرئيس بري الجرس لبدئها بعد 36 دقيقة من موعدها (وفي ذلك مخالفة واضحة من بري، إذ لا يحق له وفق الدستور دخول القاعة العامة إلا بعد اكتمال النصاب، ولم تفلح في تخفيف هذه المخالفة الفذلكةُ الكلامية من نائب رئيس المجلس ايلي الفرزلي، بادعائه أنه يحق لرئيس المجلس الدخول ما دام النواب المتبقّون داخل “حرم المجلس”؟؟!!!)، معلنًا ان نواباً من كتلة “اللقاء الديموقراطي” (5 نواب) أبلغوه أنهم في طريقهم إلى القاعة العامة، إضافة إلى 4 نواب آخرين من كتلة “التنمية والتحرير” وصلوا إلى المطار وهم في طريقهم إلى المجلس، وبالتالي يُعتبر النصاب القانوني مؤمنًا (58+5+4=67)، ما أثار سجالًا عند افتتاحها حول تأمين النصاب، إذ أكد رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل أن الجلسة بدأت من دون نصاب قانوني، وهو أمر “غير دستوري” و”ضرب للديمقراطية وتحدٍّ للشباب المنتفض”.

وبذلك، وجّه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط صفعة للثائرين بإيعازه إلى أعضاء كتلة “اللقاء الديمقراطي” بدخول القاعة لتأمين انعقادها، على الرغم من حجب نوابه الثقة عن الحكومة مع نواب “القوات” و”المستقبل”.

النائب سليم سعادة

دخول بري القاعة العامة من دون أن يبلغ عدد النواب النصاب مخالفة دستورية واضحة

الاستعداد لمساعدة لبنان شرط الإصلاح

في وقت واصل فريق بعثة صندوق النقد الدولي لقاءاته مع حكومة لبنان ومسؤوليه البحث في وضع خطة اقتصادية طارئة من شأنها تسهيل الحصول على مساعدات من الصندوق، كشف وزير المالية السعودي محمد الجدعان خلال مشاركته في قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في الرياض يوم 23 شباط/ فبراير في دافوس، والتي كانت مساعدة لبنان على تجاوز أزمته المالية بندًا على جدول أعمالها، عن استعداد بلاده لمساعدة لبنان في أزمته المالية بمجرد التأكد من أن السلطات فيه قد وضعت خطة إصلاح قوية. وبالمثل، أعرب وزير المالية الفرنسي برونو لو مير خلال القمة عن استعداد بلاده لتقديم الدعم المالي للبنان إذا لزم الأمر، فيما راجت معلومات عن تباين في الرأي بين وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين والأوروبيين حول وجوب عدم خلط التعافي الاقتصادي للبنان مع الجهود الأميركية لمواجهة إيران في المنطقة. وقال مونشين في مقابلة تلفزيونية إنه يدعم مساعدة صندوق النقد الدولي لبنان فقط في حال قرر السياسيون اللبنانيون إجراء خيارات اقتصادية صعبة.

كورونا يُغلق الحدود و… “المخيمات”

قررت الحكومة في 15 آذار/ مارس 2020 إغلاق الحدود البرية والبحرية أسبوعين (‌حتى 29 من الشهر) في إطار حالة الطوارئ الصحية التي فُرضت للتصدي لفايروس “كورونا”، وفي 27 منه أخلت قوات الأمن اللبنانية -تقيُّدًا بالإجراء نفسه- مخيمات المعتصمين في ساحة الشهداء الموجودة في وسط بيروت منذ بداية الثورة. وأعرب ناشطون وصحفيون في لبنان عن مخاوفهم من اتخاذ الحكومة اللبنانية تفشي الفايروس ذريعة لتقوية سلطاتها وإغلاق بؤر المقاومة العنيفة ضدها.

إعلان الخطة الإصلاحية

وخلال عقد “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان”(ISG) في 6 نيسان/ أبريل 2006 مؤتمرًا ببيروت لبحث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي يمر بها لبنان ومسألة النازحين السوريين، دعا رئيس الجمهورية ميشال عون أعضاءها، وهم سفراء الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة والبنك الدولي، الى اجتماع في قصر بعبدا وذكّرهم في كلمةً “بإعلان المجموعة في آخر اجتماع لها بباريس في 11 ك1 2019، استعداد المجتمع الدولي لدعم لبنان في تخطي أزمته المالية شرط قيام حكومة قادرة على مكافحة الفساد وتنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية (…) وقد تشكّلت الحكومة المرجوة، وتعهّدت اطلاق خطة طوارئ إنقاذية تصحح الاختلالات العميقة في الاقتصاد الناتجة عن ثلاثين سنة من السياسات الاقتصادية الخاطئة ومن شأنها رفع لبنان من الهاوية. ونظرا إلى الآثار الاقتصادية السلبية على اللبنانيين والنازحين، نعوِّل في دعم قطاعاتنا الحيوية من مياه وكهرباء وبنوك ونقل… في شكل كبير على الـ11 مليار دولار التي تم التعهد بها في مؤتمر “سيدر”.

أما الرئيس دياب، فعرض أمام اللجنة تعزيز لبنان موقفه التفاوضي أمام البنك الدولي التي كانت جارية في ذلك الوقت، وتفاصيل خطة حكومته الإنقاذية المتمثلة بإعادة هيكلة دين لبنان بالدولار والليرة واعادة تشكيل القطاع المصرفي واجراء تدقيق في حسابات المصرف المركزي، “وقد شكلنا فرق متابعة مشتركة مع البنك الدولي لدراسة آليات فرض قيود على السحوبات (كابيتال كونترول)، ونطلب من نظرائنا المتعددي الاطراف إبداء آرائهم في خطة لبنان بهدف ردم الهوة بين مواقفنا. ستصبح خطة حكومتي متوفرة قريبا، ونأمل بأن تدعمونا من التمويلات الخارجية على رغم الاوضاع الدولية الصعبة. لقد ابدينا جدية ووضوحًا كبيرين في تقييم وضعنا في مؤتمر المستثمرين الذي عقدته وزارة المال، ونعول على دعمكم في مسعانا لاسترداد اصول لبنان. ومن أصل الاصلاحات التي تعهدت حكومتي اجراءها خلال المئة يوم الاولى، هناك 57 في المئة جاهزة للتصويت في مجلس النواب”.

المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش، اعتبر الكلمات التي سمعها “تساعدنا في فهم التحديات التي تعترض الحكومة لإيجاد مخرج من الأزمات غير المسبوقة وذات التداعيات السلبية إذا لم يتم التعامل معها بسرعة، وفهم الأولوية التي يحتاج إليها لبنان”. وأضاف: “لقد عبَّر أعضاء المجموعة عن موقفهم في بيان اجتماع باريس والبيانات اللاحقة، ولكن طرأ بعدها وباء كورونا ليضيف أزمة جديدة إلى أزمات لبنان، التي تتضمن الخلل في الاقتصاد، ونقص السيولة، وتضاؤل القدرة على تحمل عبء الديون، والفساد، وانعدام الشفافية والمساءلة، وأزمة اقتصادية واجتماعية ومالية هي الأعمق في تاريخه الحديث، وزيادة نسب البطالة، وزيادة الفقر.. لقد حان الوقت للتعامل الجماعي المنسق”.

الثوار و”جمعية المصارف” يرفضان الخطة

رفض المتظاهرون خطة حكومة دياب الإنقاذية، وتجمعوا بالمئات خارج البنك المركزي في بيروت وفي جميع أنحاء البلاد، وكذلك فعلت البنوك وجمعية مصارف لبنان، التي طالبت أعضاء مجلس النواب برفض الخطة، أنها تتعدى على حقوق الملكية الخاصة، وليس لها وقت محدد للتنفيذ، وتفتقد القدرة على تقديم حلول لمعدل التضخم المرتفع، وقد تؤدي بالعكس إلى تضخم مفرط.

توقيف شخصية مهمة في مصرف لبنان وتخليتها

في 14 أيار/ مايو، صدر أمر عن المدعي المالي اللبناني علي إبراهيم بتوقيف مدير العمليات النقدية في البنك المركزي مازن حمدان ومساعده وسام سويدان بجرائم مخالفة قانون الصيرفة والمس بهيبة الدولة المالية وتبييض الاموال وللاشتباه في تورط حمدان في التلاعب بالعملة. وفي 20 منه وافق قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل أبو سمرا، على تخلية سبيله لقاء كفالة مالية. في 22 منه صادقت الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو على قرار أبو سمرا بالتخلية بكفالة 300 مليون ليرة لحمدان، و100 مليون ليرة لسويدان ومنعهما من السفر لمدة أربعة أشهر. وكان التحقيق المطول مع حمدان أفضى الى الكشف عن بيعه 12 مليون دولار للصرافين من فئة أ وب ولكنه لم يكشف تورط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

3 استقالات توجّه صفعة للمحادثات مع الصندوق

ضربتان ماليتان توالتا على رؤوس القيّمين على النظام في لبنان ووُجِّهتا إلى جهود الحكومة اللبنانية لاستجلاب مساعدة صندوق النقد الدولي. الضربة الأولى كانت في 18 حزيران/ يونيو 2020، مع استقالة كبير مستشاري وزير المالية غازي وزني في مفاوضات صندوق النقد الدولي، هنري شاول، الذي نشر عبر حسابه على “تويتر” بياناً ذكر فيه أن أحد أهم أسباب الاستقالة هو “غياب الإرادة الحقيقية في تنفيذ الإصلاحات أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومن ضمنه البنك المركزي”، متهمًا القوى السياسية والجهات النقدية والمالية في لبنان بـ”تعمُّد صرف الأنظار عن حجم الخسائر الحقيقي والشروع في أجندة شعبوية”، وأضاف: “من دون إصلاحات جدية ومؤلمة سنصل إلى مكانٍ خطيرٍ جداً”. وشدد شاوول في بيانه على أنه قدم استقالته “لأنني لا أريد أن أكون بمثابة شاهد على التقاعس الكامل عن إيجاد حلّ جذري للمشكلة”.
ورغم تأكيد المتحدث باسم الصندوق جيري رايس استمرار نقاشات الصندوق مع لبنان بشأن ترتيبات تمويل محتملة، تبددت الآمال في صفقة إنقاذ سريعة للاقتصاد اللبناني، بسبب الخلاف بين الحكومة والمصرف المركزي على تحديد أرقام الخسائر وحجمها في النظام المالي، وهو ما دفع لجنة المال والموازنة النيابية إلى تكثيف اجتماعاتها للوصول إلى توحيد هذه الأرقام والتي كانت تتم بحضور وزير المال ومندوبين عن مصرف لبنان وجمعية المصارف وعدد من النواب والمسؤولين المصرفيين، وأعد رئيس اللجنة إبراهيم كنعان خلاصة لتقديمها إلى صندوق النقد تم فيها تحديد أرقام تقريبية بمشاركة وزارة المال ومصرف لبنان وجمعية المصارف، على أن تترجم هذه الشروحات في تقرير مفصّل يرفعه كنعان إلى الرئيس نبيه بري لإجراء المقتضى.

بعد استقالة شاول بـ11 يومًا، في 29 يونيو، جاءت الصفعة التالية عبر استقالة المدير العام لوزارة المالية والمفاوض مع صندوق النقد الدولي آلان بيفاني، الذي أشار في مؤتمر صحفي إلى أن أسباب الاستقالة كانت “الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات ومستوى المخاطرة الذي لم يعد بالإمكان الصمت عنه”، متهمًا من سمّها “قوى الظلام والطغيان” بالاجتماع لعرقلة ما فعلناه”. وفي مقابلة هاتفية مع قناة إخبارية حكومية فرنسية شهيرة، اتهم بيفاني “مجموعات المصالح الخاصة” بالسماح للمفاوضات بالوصول إلى طريق مسدود، قائلاً: “النخب السياسية ذات المصالح الخاصة، والبنوك، والمودعون الكبار الذين لدى أي منهم أكثر من 10 ملايين دولار، لا يريدون المساهمة في حل عادل، وهذه واحدة من الحالات النادرة التي يُنظر فيها وكأن صندوق النقد إلى جانب العدالة الاجتماعية ضد هذه النخب”.

أما الضربة الثالثة السياسية، فكانت في 3 آب/ أغسطس باستقالة وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتي، الذي قال إن وراءها خوفه من تحول البلاد إلى دولة فاشلة بسبب عجز الحكومة عن إجراء الإصلاحات التي طلبها المانحون الدوليون.

انفجار مرفأ بيروت

مع الانفجار الزالزالي غير المسبوق في مرفأ العاصمة بيروت الذي وقع في 4 آب 2020 وأودى بحياة 220 شخصاً على الأقل وإصابة أكثر من 6000، وصل إيمانويل ماكرون إلى بيروت. وكان أول رئيس دولة أجنبي يفعل ذلك منذ الانفجار، ووعد بأن تتبرع فرنسا لجهود الإغاثة وحثّ قادة لبنان على تنفيذ الإصلاحات. واندلعت بعد الانفجار احتجاجات تحولت إلى أعمال عنف اقتحم خلالها المحتجون وزارات الخارجية والاقتصاد والبيئة والإسكان والنقل في 8 آب، لكن قوات الأمن أخلت في وقت لاحق المحتجين من داخلها. وأجرت “هيومن رايتس ووتش” تحقيقًا أوردت فيه صورًا مروّعة حول استخدام قوات الأمن الكريات المعدنية في حالات متعددة ضد المتظاهرين في 8 أغسطس.
الصور من 18 إلى 25 هنا

الاستقالات الممهِّدة لسقوط الحكومة

ومنذ انفجار المرفأ وتصاعد المطالب باستقالة الحكومة شهد لبنان سلسلة استقالات متدرجة لوزراء فيها إلى حل اليوم الذي أعلن فيه الرئيس حسان دياب استقالة الحكومة وانتقالها إلى تصريف الأعمال، فمن وزيرة الإعلام منال عبد الصمد التي قدمت في 9 آب استقالتها “بعد هول كارثة بيروت” كما قالت في بيان الاستقالة، مقدمة “اعتذارها” من اللبنانيين “لعدم تلبية طموحاتهم”، إلى وزير البيئة دميانوس قطار، الذي أعلن بعد ساعات من اليوم ذاته استقالته من الحكومة في وقت كان حزب الله ورئاسة الجمهورية يضغطان باتجاه عدم إسقاط الحكومة. وقال قطار: “تأتي الاستقاله في ظلّ آليات نظام عقيم ومترهّل أضاع العديد من الفرص، وتجاوباً مع قناعاتي وضميري”، ثم إلى وزيرة العدل ماري كلود نجم التي قدمت استقالة خطية إلى دياب في اليوم التالي، 10 آب جاء فيها أنه “امام هول الفاجعة التي اصابت الوطن وامام آلام اللبنانيين واضطرابات الشوارع التي جاءت لتؤكد أن لبنان دخل مرحلة العناية الفائقة اتقدم باستقالتي”، مضيفة: “ازمة الوطن العميقة تفرض الاحتكام الى ارادة الشعب وعلى هذا الأساس كنت اطلقت مشروع قانون تقصير مدة ولاية مجلس النواب و الدعوة الى انتخابات مبكرة”.

وأخيرًا… وفي يوم 10 آب نفسه… أطيح بالحكومة الثانية في عهد الثورة، حكومة حسان دياب الذي فال في بيان الاستقالة إنها نتيجة “هول المأساة التي ضربت اللبنانيين وحصلت بسبب الفساد المزمن في الإدارة”، متهمًا السياسيين بأنهم “لم يقرأوا جيدا ثورة 17 تشرين وظنوا أنهم يستطيعون تمييع مطالب اللبنانيين في التغيير”. ورغم تنحي حكومة دياب، أكد المتظاهرون أنهم لن يوقفوا التظاهر حتى إسقاط الطبقة الحاكمة.

نحو قصر العهد

في 12 سبتمبر 2020، اشتبك جنود الجيش اللبناني مع متظاهرين مناهضين للسلطة بالقرب من قصر بعبدا الرئاسي. وفي محاولة لفض تجمعهم، وأطلقوا الرصاص المطاطي والذخيرة الحية في الهواء لمنع المتظاهرين من التقدم نحو القصر. كما اشتبك المتظاهرون مع محتجين مؤيدين للرئيس ميشال عون.

تعيين مصطفى أديب وإفشاله

في 31 أغسطس، كُلِّف سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب بـ90 صوتًا بتشكيل حكومة جديدة بدعم من الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون، لكنه لم يستطع التشكيل في الوقت المتفق عليه حتى بعد أن مدّده قليلًا فاعتذر عن إكمال مشوار التشكيل في 26 أيلول/ سبتمبر، بسبب نقض القوى السياسية العهد الذي أعطته للرئيس ماكرون في قصر الصنوبر بأن يكون أعضاء الحكومة من غير الحزبيين، حيث أصر رئيس المجلس النيابي نبيه بري على الاحتفاظ بوزارة المال وتسمية وزيرها بنفسه، وكذلك فعل حزب الله الذي اشترط على أديب تسمية وزرائه.

وبعد استقالة أديب، ألقى ماكرون باللوم على قادة لبنان ووصف فشلهم بأنه خيانة. وأضاف أنه أُحرِج من القادة السياسيين اللبنانيين خلال مؤتمره الصحفي في باريس، فهم لا يأبهون بالالتزامات التي أعطوها لفرنسا وللمجتمع الدولي بأسره. ومنبِّهًا حزب الله الشيعية من أنه “لا يجب يبالغ في تقدير سلطاته، مستبعدًا فرض عقوبات فرنسية عليه، وممهلًا الطبقة السياسية من 4 إلى 6 أسابيع إضافية لتنفيذ خطط فرنسا للإصلاح الاقتصادي والسياسي في لبنان.

السابق
بعد مقاطعة.. باسيل يلتقي الحريري وهذا ما قاله
التالي
نصيحة من «حزب الله» للحريري.. هذا ما كشفه رعد عن شكل الحكومة!