ملحم خلف: نحذّر من السقوط في الدولة الفاشلة وهذه خريطة الطريق

نقيب المحامين ملحم خلف

“أنا لا أتفاءل أو أتشاءم. أنا أعمل كي نتفاءل كلنا”. هذا ما يقوله نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف. وقد حاوره موقع “الجنوب” في القضاء وأحواله وبناء الدولة ودور النقابة والشباب والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت وحقوق الناس. وقدّم، من جهته، خريطة طريق للخروج من الأزمة نحو إعادة تشكيل السلطة وبناء الدولة وتوفير العدالة ووصول المواطنين إلى حقوقهم وطمأنتهم.

هنا، إجابات مقتضبة من حوار أجراه حسان الزين وهشام مروة:

تقوم الديمقراطية على ثلاثة مبادئ وقواعد أساسية، وهي: فصل السلطات، تداول السلطة، والمساءلة.

لكننا في لبنان أسقطنا الديمقراطية.

أسقطناها بإسقاط رقابة مجلس النواب على الحكومة (السلطة التنفيذية).

وبإسقاط الرقابة القضائية، حين وضع السياسيّون أيديهم على القضاء.

وأسقطنا الديمقراطية عندما أخضعنا الحكومة للمحاصصة وأصبح هناك فيتوات متقابلة.

هذه الأمور أسقطت الديمقراطية وأصبحنا في ما يشبه الديكتاتوريّات.

عندما نقول إن حجر الزاوية هو السلطة القضائية، يعني أننا نريد سلطة قضائية فاعلة ومنتجة ومحاسِبة ومحاسَبة. وعندما نتكلم عن سلطة قضائية مستقلة نقصد ما هو أبعد من الكلام، لأن لغياب هذه السلطة تبعات وتداعيات.

حجر الزاوية في الديمقراطيات والدول كلها هو القضاء، لكونه يطمئن الإنسان. فإذا كان لدينا قضاء نبني دولة، وغياب القضاء غياب الدولة.

ولكي يكون القضاء مستقلاً يجب أن نرفع أيدي السياسيين عنه، يجب أن نرفع أيدي القضاة عن بعضهم البعض، ويجب أن نرفع يد أي صداقة تطاول القاضي، حتى المحامي يجب ألا يتخطى الحدود التي تهدد استقلالية القضاء والقضاة.

إلى هذا، نطالب بأن تكون التشكيلات القضائية موضوعية وليست محكومة بالمحسوبية وعلاقة هذا القاضي أو ذاك بالقوى السياسية.

نعم، علينا أن نعترف أن القضاء ليس بخير. لكن هذا لا يكفي. على القضاة أن يتحرّروا من هذا ويؤمِنوا بأنفسهم ويستعيدوا الثقة بذاتهم ليعطوا الثقة للمواطنين.

لم نفقد الأمل. عندما نقول إن هناك قضاة نزيهين نعطي فرصة للهمم كي تنهض. لا نقول ذلك لبث الحماسة لدى القضاة، إنما لأن هذه حقيقة، ويجب أن تبرز، ويجب معها كفّ أيدي السياسيين عن القضاء.

النقابة ودورها

نحن، النقابة، نطمح إلى العدالة. العدالة ليست مهمة القضاء وحده. هناك ثلاثة أعمدة للعدالة: القضاة، المحامون، والمساعدون القضائيّون. ولا تكتمل العدالة من دون واحد من هذه الأسس.

وللمحامي أن يعرف دوره. لدينا رسالة، هي كينونة حياة ومعناها، وهي رفع الظلامة عن الناس.

عمرُ نقابة المحامين في بيروت مئة سنة. ومنذ تأسست لها دور وطني. هي حصن الحريّات ورافعة حقوق الإنسان. هي ضمير حقوقي داخل المجتمع، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا كانت إلى جانب الناس وخصوصاً الأكثر تهميشاً ووجعاً. وهي تحمل همَّ قيام الدولة ومؤسّساتها.

لقد تأسست النقابة قبل إعلان دولة لبنان الكبير بسنة، أي في 1919. ولهذا دلالات ومعانٍ، منها أن المؤسّسين كانوا يبحثون عمّن يحمل الدولة.

واليوم، في مطلع المئوية الثانية للبنان، للنقابة دور كبير في مشروع بناء الدولة وحماية المجتمع. والمحامون اليوم يقدّمون صورة أنّنا قادرون على التغيير. فالنقابة مشروع وطني وليس مشروع سلطة. وهذا المعيار البسيط يُظهر على المستوى الوطني موقعها كمرجعيّة.

لقد أعدنا، على مستوى نقابات المهن الحرّة، تشكيل قوّة مجتمعيّة. نلتقي دوريّاً وننظم نشاطات وتحرّكات مشتركة. وهذه القوة التي اكتسبت ثقة رؤساء الجامعات منفتحة على القوى الحيّة والقطاع الخاص. هذه الطاقة تتكوّن تدريجاً لتأخذ دورها وسط الناس.

وفيما مسؤوليّة النقابة هي تسليط الضوء على الحقوق وحماية الحريّات العامة، علينا دور داخلي يتمثّل في مساعدة المحامين. فالمحامون جزء من هذا المجتمع الذي يعيش المأساة.

الثقة بالشباب

دور الشباب هو الأساس. ونقابة المحامين أثبتت وأظهرت لنا مدى اندفاع الشباب وطاقاتهم. وقد تغيّر وجه النقابة لأن هناك شباباً معطاء فتحت لهم النقابة المجال ووضعت ثقتها بهم ونظمت إطارهم وأعطتهم الإمكانات.

عملنا عدداً هائلاً من المبادرات اللافتة، بينها ما قمنا به في السجون، إنّما هناك غيرها. بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت أنشأنا لجنة تضم نحو أربعمئة محام، نزلوا على الأرض في سبعة مراكز، ساعدوا المتضررين. وأطلقنا خدمة المستوصف القانوني، ليس لإعطاء استشارات فحسب، إنّما لتوجيه الناس كلّ بحسب حالته.

وفتحت خلية الأزمة خطاً ساخناً، وصل إليها 5300 طلب، ونظمت 1150 ملفّاً.

ونساعد الآن محكمة السير، لتسهيل عملية محاضر الضبط والغرامات، والتخفيف من الضغط على المواطنين ومن عنائهم في المحاكم.

ماذا نطلب من التحقيق؟

نحن مواكبون للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت. لكن التسريبات أمر خطير، وتجعلني أخشى من أن لا يكون القضاء هو من يدير التحقيقات، إنما الضابطة العدلية هي التي تدير القضاء. نرفض هذا. وإذا ما كان حقيقيّاً سيسمعون صوتنا. لا مقاربة ممالئة في هذا الموضوع. القضاء هو من يدير الضابطة العدلية وليس العكس. التسريبات لا تطمئن. إذا كانت آتية من القضاء فهذه مشكلة، ولا أعتقد ذلك. وإذا كانت آتية من الأجهزة أو الضابطة العدلية فستكون مشكلة كبيرة.

سريّة التحقيق ضرورية، إنّما نطلب من القضاء أن يكون هناك ناطق باسمه، يوضح للناس ما يجري. ولا نقصد ما يجري في التحقيقات، وماذا قال هذا أو ذاك، إنّما مسار التحقيق. المواطنون ينتظرون وبحاجة إلى من يطمئنهم ولا يمكن أن يُتركوا تحت رحمة التسريبات ولا أحد ينفيها أو يؤكدها. ما نتوقف عنده هو مضمون التسريبات. كيف يُعرف ما يدور فيها. هذه مشكلة. وتُكتب تناقضات ما بين الإفادات. ما هذا الكلام؟ فنحن داخل هذا الملف ولا نصل إلى هذه الأمور. ونطالب بضبط واقع التحقيق. نطالب بأن يكون التحقيق منفتحاً على كل السيناريوهات لا أن يكتفي ويُنتج سيناريو واحداً ينتهي بـ”تلحيمة صغيرة”، فيما هناك قنبلة نووية انفجرت وقتلت نحو مئتي إنسان وألحقت الأضرار بالعاصمة.

وقد تقدّمنا بمذكّرة إلى المحقّق العدلي للاستماع إلى المسؤولين، بمن فيهم الوزراء. لا يمكن التغاضي عن ذلك. نطالب بأن يستمع إليهم ويتابع معهم. هذا الأمر واضح جداً.

ونطالب بثلاثة أمور، هي: الاستقلاليّة، الشفافيّة، والسرعة في البت.

ونحن كنقابة مستعدّون للمساعدة، ولا يمكن أن نكون مشاهدين فحسب من دون تدخّل. سنتدخّل ونطالب بهذه الأمور.

وهذه مسؤوليّة القضاء. فهو أمام امتحان، عليه أن يؤكّد استعادة الثقة به ويغتنم الفرصة.

وقد قلنا، نحن كنقابة، إذا ما تعثّر القضاء سنكون أمام مفهوم قانوني هو الدولة الفاشلة. ولهذا تبعات لا أريد أن أتصوّر أنّنا سنصل إليها.

حقوق الناس وأزمة أخلاق

هناك عناوين عدة، في ما يخص حقوق الناس، نحن حسّاسون تجاهها، في مقدمها حقوق الموقوفين. وهناك حقّ الوصول إلى القضاء. ويجب أن نساعد الناس كي يطالبوا بحقوقهم. واليوم، نشهد إسرافاً في استعمال القوة وإطلاق النار. هذه أمور أساسية ننبّه لها بشكل واضح. يجب ألا نسقط في مفهوم الدولة البوليسية. هذا الأمر خطير، لا نحتمله. ولبنان في تاريخه لم يُوصف بهذا.

وننبّه إلى أن الفترة الاستثنائية التي نمر بها، لا تسمح لنا بأن ندير ظهورنا بعضنا إلى بعض، ولا أن نتعاطى بعضنا مع بعضنا كأننا أخصام. هذا البلد يتّسع لنا جميعاً. ولا يُبنى بتمييز أو إقصاء، إنّما بالحق والعدالة وحماية الحقوق والحريّات. هذه هي الدولة التي نطمح إليها وتحافظ على المؤسّسات.

ونحن ننسى أننا في مشكلة، في أزمة اقتصادية ومالية ومصرفية ومعيشية. وهو ما يجب ألا ننساه. نحن في أزمة سياسيّة، لكن نحن في أزمة أخلاق. وتحتاج المرحلة إلى تعاضد واستعادة القيم في الشأن العام. تحتاج إلى أن نمارس الشأن العام قيميّاً. الخدمة ليست أن أنظر إلى المواطن كصوت انتخابي، إنما كيف أخدمه دون مقابل. وهو يقيّم إذا ما كنت أنتخبه جيداً أم لا. وإذا كان انفجار مرفأ بيروت قوّة سلبية مأسوية ضجّ بها العالم، إلا أن في المقابل انفجرت قوّة إيجابيّة لبنانيّة إنسانيّة شبابيّة.

أمّا السياسيّون فقد عملوا حرباً ولم يرتاحوا، عملوا وصاية ولم يرتاحوا، جرّبوا إدارة بلد وفشلوا ولم يرتاحوا. أنا أخجل من نفسي حين يأتي شخص من الخارج ويقول للطبقة السياسيّة ما عليها أن تفعل وكيف تتصرّف. الشعب اللبناني ليس قطعاناً. ولا يمكن الاستمرار بهذه السياسة التي فشلت وأغرقتنا. علينا إعادة القيمة للمواطن والإنسان والمواطنة.

خريطة طريق

الوضع مأزوم. السياسيون مأزومون. كيف نخرج من الأزمة؟

لدينا خريطة طريق، علينا مقاربتها بعقلانية. وهي، أولاً، الإصلاحات الضروريّة لأنّها مرتبطة بحياة الناس؛ وثانياً، إعادة تكوين السلطة. نحن في مشكلة سلطة، فالسلطة عندنا قانونيّة لكنّها غير مشروعة. ولا يمكن تكوين السلطة إلا من خلال انتخابات مبكرة. وإذا ما عدنا إلى أي قانون بقيد طائفي سنقع مجدداً ونثير الغرائز والتخويف. فماذا نفعل قبل ذلك؟ سهلة. حكومة بصلاحيّات تشريعية محدودة، وقيام مجلس شيوخ يؤمّن خصوصية الطوائف ويحافظ عليها. يجب أن نحافظ عليها لأن مجتمعنا هكذا، ولكي نريح الناس. ثمّ، نعد قانوناً انتخابيّاً خارج القيد الطائفي. نتفق على أي قانون: دائرة واحدة، صوت واحد، قانون لجنة فؤاد بطرس… الخ، كلها للنقاش. لكن، مع مجلس شيوخ تريح الناس وتطمئنهم. وبهذا تعيد تكوين السلطة.

بعد انتخاب مجلس شيوخ ومجلس نواب، تأتي حكومة جديدة تشرع بتطبيق اللامركزية الإدارية مع صندوق تعاضدي تعاوني بين المناطق. لا يمكن أن نذهب إلى اللامركزية الإدارية من دون صندوق تعاضدي تعاوني. فمن دونه نذهب إلى مكان لا يربطنا ببعض.

ثم نفتح المجال لقانون مدني موحّد للبنانيين، داخله تُفتح الخيارات على مصراعيها. فليرتح الناس. مئة سنة من عمر البلد كانت حياتنا العامّة فيها قائمة على الخوف والتخويف. فلنفكّر، في بداية المئوية الثانية، بانطلاقة تُبنى فيها الحياة العامة على الثقة والطمأنينة.

السابق
لستم أسياد الشعب بل خُدّامه
التالي
كمائن لمهربي المحروقات.. اليكم تفاصيل ما اعلن عنه مُحافظ بعلبك