روسيا وأوروبا وبيلاروسيا..استعصاء الحلّ

بوتين ولوكاشينكو

مما لا شك فيه أن أزمة بيلاروسيا ستفاقم قلق موسكو ومخاوفها الأوروبية، وتعيد إلى الواجهة أزمة الهوية وربطها بالمكان والعقيدة وتحدياتهما، فليس بقدرة حاكم الكرملين مهما كانت انتماءاته أن يتعايش مع أوروبا محاذية لحدوده الوطنية، فمنذ مئتي سنة تخوض روسيا القيصرية أو السوفياتية أو البوتينية معركة الدفاع عن الهوية الوطنية الخاصة والمتمايزة في جوارها عن أوروبا، وتتذرع بمؤامرة كبرى تهدف إلى تدميرها.

ففي الوعي الجماعي الروسي لم يكن نابليون وهتلر وحلف الناتو حاليا إلا مثالا حيّا على هذا المؤامرة، كما تحول بطرس الأكبر وكاترينا الثانية والاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو إلى نماذج لردع الخطر الأوروبي وحماية الهوية الروسية. هذه الذاكرة المقيمة في العقل الجماعي الروسي، تستغلها النخبة السياسية والأمنية في إعادة تأسيس السلطة على قاعدة العداء للخارج الذي تحمله مسؤولية كل ما يحدث لروسيا وذلك بهدف تبرئة الداخل من أي مسؤولياته.

لكن في الأزمة البيلاروسية لم يعد الداخل قادرا على التذرع بالخارج، بعدما بات على حدوده، وهو مجبر على القيام بخطوات عملية جريئة وأكثر صرامة من تلك التي اتخذها في معالجة أزمات جيوسياسية في أوكرانيا وجورجيا وأرمينيا، وذلك لتعقيدات تجعل أزمة بيلاروسيا مختلفة في تداعياتها وتحدياتها عن باقي الأزمات السابقة، كما أن الواقع الروسي الداخلي يعاني من أزمات عديدة أبرزها اقتصادية تؤثر على عملية استقرار السلطة.

التدخل العسكري في بلاروسيا هو مغامرة استراتيجية لن تستطيع موسكو تبريرها ولا تغطية كلفتها

حجم تأثير بيلاروسيا على الداخل الروسي يظهر جليا بما أصاب المعارض الروسي الشهير أليكسي نافالني، وبغض النظر عما إذا كان قرار التسميم قد اتخذ في فترة سابقة، وحتى لو تزامن تنفيذه مع أحداث الثورة البيلاروسية، إلا أن فك الارتباط بين واقعة التسميم وما يجري في منسك شبه مستحيل، خصوصا أن طبيعة العقل الأمني الاستراتيجي لا تترد في القيام بضربتها الاستباقية في مثل هذه الحالات، فهي تتحرك تحت مفهوم قطع الطريق على انتقال عدوى التظاهرات التي قد تعيد إنعاش الشارع الروسي المعارض، في الوقت الذي تشدد موسكو على ضرورة توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة يبدو أنها ستكون مكلفة.

من تسميم نافالني إلى المواجهة البيلاروسية، تستعد موسكو لتلقي حزمة عقوبات جديدة مرتبطة بقرار الاتهام المباشر باستخدام سلاح كيماوي لتصفية معارض سياسي، وفي ردة فعل الأوروبيين والناتو على ما سيُقدم عليه الكرملين في القريب العاجل من أجل حماية نظام ألكسندر لوكاشينكو.

إقرأ أيضاً: «الإنفجارات الغامضة» في إيران تتواصل..«تفجير كلوري» يجرح العشرات!

الخطوط الحمراء الجديدة التي سيرسمها الكرملين للدفاع عن مصالح روسيا الاستراتيجية في بيلاروسيا، في جوهرها هي في مواجهة أوروبا ومنعها من الحصول على موطئ قدم في بيلاروسيا، وهذا ما بدى واضحا في لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتلفز نهاية الشهر الفائت الذي اعتبر فيه “أن شرعية أي نظام أجنبي لا تُحسب من خلال شفافية الإجراءات أو شعبية الزعيم، ولكن من خلال الحفاظ على المسافة السابقة بين ذلك البلد والغرب، إذا كان الأمر كذلك، فهذا النظام شرعي، إذا تم تقليل تلك المسافة، فإن شرعية النظام موضع شك”.

خيار التدخل المباشر يتبلور وفقا لما تشهده تطورات الشارع وقدرة نظام لوكاشينكو على المواجهة

ربط موسكو شرعية السلطة في بيلاروسيا بمدى قربها أو بعدها عن الغرب، تعزز الاعتقاد بأن موسكو حسمت أمرها بعدم السماح للمعارضة بامتلاك أي شرعية، خصوصا أن جزءا منها سيأتي من الغرب. 

لذلك، من المُرجح أن يشهد الصراع على بيلاروسيا اندفاعة روسية تشبه إلى حد بعيد ما جرى مع شبه جزيرة القُرم، فخيار التدخل المباشر يتبلور وفقا لما تشهده تطورات الشارع وقدرة نظام لوكاشينكو على المواجهة، حيث تراقب موسكو عن كثب حجم تماسك القوات المسلحة، والذي قد يشكل عامل طمأنينة مؤقت لها، تعفيها من التدخل الحاسم. خصوصا أن التدخل العسكري في بلاروسيا هو مغامرة استراتيجية لن تستطيع موسكو تبريرها ولا تغطية كلفتها، إذ أن أي عملية قمع داخل أوروبا على الطريقة السورية ستكون مؤلمة لروسيا مستقبلا، كما أن مبرراتها الداخلية للروس الذين يدفعون حتى اليوم ثمن مغامرات القُرم ستكون صعبة، والأكثر حساسية في مستويات هذا الصراع هو كيف سيتقبل الشارع البيلاروسي فكرة التعايش مع نظامي بوتين ولوكاشينكو تحت القمع.

السابق
الأرقام القياسية «الكورونية» مستمرة..4 وفيات و531 إصابة جديدة!
التالي
الكاظمي يستهدف إرث عبد المهدي.. والمليشيات تتلقى الضربات «تحت الحزام»!