مينسك.. ضائقة الكرملين

الكرملين

على أبواب الخريف، ترتسم معالم شتاء سياسي قارص في سماء الكرملين، فخريف نظام لوكاشنكو تتساقط أوراقه، ويُنذر بـغيوم ملبدة بالمفاجآت في الفضاء السوفياتي السابق، الذي يصر الكرملين على اعتباره مجالا حيويا لروسيا غير قابل للتغيير أو التعديل، وهذا ما يثير حفيظة مؤسسة الأمن القومي الروسي أو مجموعة القوة المعروفة (بالسيلافيكي)، خصوصاً عندما يصل التهديد إلى مستوى الجغرافيا السياسية والاستراتيجية لروسيا.

في الحالتين السياسية والاستراتيجية، تمثل بيلاروسيا خطرا داخليا على الجغرافيا الروسية، فالعقيدة الأوروآسياوية مهددة بخسارة حيّز جديد محاذ للمركز بعد خسارة الحيّز الأوكراني باعتبارهما المتسع الأوروبي لروسيا، فيما الشق الآسيوي يعاني من أثقال الصين ومعها تركيا في إعاقة النفوذ الروسي في الفضاء الإسلامي جنوبها أو في ما تعتبره بكين امتدادها الطبيعي في حواضر سهول منشوريا التاريخية.

ربيع منسك أو خريف لوكاشينكو، يكشف عن ذروة الارتباك الروسي في التعامل مع من يمكن وصفهم بالأخوة الأعداء، وهي ليست المرة الأولى التي يقع فيها الكرملين في سوء التقدير والابتزاز، فالمعاناة الاستراتيجية من مخاطر تموضع بيلاروسي ولو محدود، يعيد إلى ذهن صُناع القرار في موسكو إخفاقات سابقة في كيفية التعامل مع الرئيس الأوكراني ليونيد كوتشما (1994- 2015) والجورجي إدوارد شيفرنادزة (1995-2015)، وما أصاب العلاقات الروسية مع أوكرانيا وجورجيا وسقوط أنظمتهما على يد ثورات ملونة تؤرق مصالح روسيا الإقليمية والدولية.

اقرأ أيضاً: أنقرة بين الكرملين والبيت الأبيض

في المعضلة البيلاروسية لا يختلف لوكاشينكو في سنوات حكمه الأخيرة وتعامله مع موسكو عن تعامل نظرائه في جورجيا وأوكرانيا، فهما انشغلا واشتغلا في مراوغة موسكو ومقايضتها مقابل عدم تموضعهما غربا، فشيفرنادزة وكوتشما، عمدا إلى لعب ورقة الناتو والتهديد بفتح بلديهما ليكونا قاعدة متقدمة لواشطن أو أوروبا، بهدف خلق توازن استراتيجي جديد من البحر الأسود إلى البلطيق والتأثير على ممرات الطاقة شرقا وغربا، وبالرغم من كيديتهم السياسية فإن موسكو تواجه نفس المعاناة مع لوكاشينكو، فبقائه ضعيفا ومحاصرا في السلطة أقل ضررا من خروجه، بالرغم من أن هذه المعادلة فشلت سابقا في إنقاذ شيفرنادزة وكوتشما أو حتى على فرض بدائل غير معادية.

في اعتبارات الجغرافيا، تشكل بيلاروسيا ليس تهديدا للأمن القومي الروسي ومصالحه الجيوسياسية بل تهديدا للأمن الوطني الروسي واستقرار نظامه السياسي، فمعضلة موسكو أنها لا يمكن أن تراهن على انقسامات قومية ومجتمعية كما حدث مع أوكرانيا، ولا على فرض استقلال أقاليم الحكم الذاتي في جورجيا وسلخها عن تبليسي، لذلك هي أمام خيارات ضيقة تفرض عليها التدخل، ومنع المعارضة من بلورة قيادة جديدة تقود بيلاروسيا والاستعجال إما بدعم لوكاشينكو أو فرض بديلها حتى لا تكرر تجارب سابقة عندما تدخلت بعد فوات الأوان.

الجوار البيلاروسي يفرض على موسكو التحرك، حتى لو من خلال تغطية تدابير لوكاشنكو العنيفة، لكن يبدو أنها مرتابة من موقف الجيش البيلاروسي وحياده وتتزايد التكهنات عن عصيان للأوامر بالقمع إذا صدرت، فورقة الجيوش في بدودابست 1956 براغ 1968  طويت صفحتها، كما أن الطبيعة السياسية للكرملين لا تشبه مرحلة الغورباتشوفية عندما رفض الكرملين سنة 1989 تدخل الجيش السوفياتي تحت غطاء حلف وارسو لإنهاء التظاهرات الضخمة في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا. فشفافية (الغلاسنتست) غرباتشوف تقابلها استبدادية بوتين الملزم بالتدخل قبل انتقال عدوى التظاهرات إلى ساحات موسكو.

في تقريره الأخير حول الأحداث في بيلاروسيا يقول مدير معهد كارنيغي في موسكو ديمتري ترينين أن الموقع الاستراتيجي الذي تحتله بيلاروسيا على المحور المركزي بين الاتحاد الأوروبي وروسيا يجعل خلافة الشخص الذي يحكم البلاد بقبضة من حديد لمدة 26 عاما في غاية الأهمية، لكل من موسكو والغرب، الكرملين ليس مرتبطا بلوكشينكو، لقد سئم منه ومع ذلك لا يمكن أن تسمح لبيلاروسيا باتباع مسار أوكرانيا وأن تصبح حصنا آخر مناهضا لروسيا ويميل للناتو على حدودها ويقترب كثيرا من موسكو، ولا يمكنها أن تسمح بتمرد يؤدي إلى حمام دم.

الأشد حذرا للكرملين برغم مما يظهره من ترو وهدوء أن الانتفاضة في بيلاروسيا ستؤثر مباشرة على استقرار نظام بوتين الممدد له حتى 2036  فمشهد التظاهرات وبروز وجوه وشخصيات من خارج تركيبة السلطة والمعارضة والالتفاف حول المنافسة في السباق الرئاسي سفيتلانا تيخانوسكايا التي دعت إلى “مسيرة الحرية” في العاصمة  مينسك، وقد نجحت في حشد الجماهير بعد أن حلت مكان زوجها الذي يعتبر من أهم المدونين البيلاروسيين وأكثرهم تأثيرا وقد تم اعتقاله في مايو الفائت بعد تصاعد شعبيته واتساعها، يفتح السؤال حول ما جرى للمدون الروسي نيفالني والحديث عن تعرضه إلى تسمم قد لا ينجو منه.

السابق
جريمة كفتون تابع.. مطلوب يُفجر نفسه خلال مداهمة لشعبة المعلومات!؟ (فيديو)
التالي
قماطي ينفي حصول «إقتتال شيعي-شيعي».. و«حزب الله» لا يمكنه ارتكاب خطأ المرفأ!