حقيقةٌ .. تُغضِبُ اللبنانيين !!

هلا رشيد أمون
انفجرت عاصفة النقد الجارح على مواقع التواصل الاجتماعي، رداً على ما صرّحت به زوجة رئيس الوزراء حسان دياب، فيما يخصّ دعوتها الشباب والنساء الى مزاولة أعمالٍ لطالما كانت حكراً على العمال الاجانب، مثل العمالة المنزلية للنساء، والعمالة على محطات الوقود للرجال.

لا يخفى على احد، ان جزءاً من عاصفة الردود الاستنكارية تلك، كانت تحمل بصمات سياسية وحزبية، وبعضها كان متسرعاً، ومجرد انسياق مع الموجة العاتية، على تصريحٍ لا تحمل صاحبته أي صفة رسمية، وعلى رأي في قضية عامة يلزمها شخصياً .
كان الجامع المشترك في الردود العنيفة، أن هذه المرأة تريد من ابنائنا وبناتنا الذين يحملون شهادات جامعية، ان يعملوا “خَدَماً” في بيوت الأثرياء الذين نهبوا البلد !! وبالطبع هي لم تقل ذلك، وإنما قصدت الشباب والشابات الذين لا يحملون أي شهادة جامعية، ولا يملكون أي خبرات أو كفاءات مهنية تؤهّلهم لشغل مناصب معينة . لقد قالت لهم : زعماؤكم الطائفيون الذين تعبدون، يكذبون عليكم ويسرقونكم منذ عقود، وقد آن الأوان كي تدفعوا غالياً ثمن تصديقكم وتبعيتكم العمياء لهم !

تجنّبتُ التعليق على هذا الموضوع الذي تحوّل الى سيلٍ انجرف فيه الكثير من الناس دون وعي، لدرجةٍ انهم نسوا مآسي الكورونا والفقر والغلاء والحجر المنزلي ونفطنا وطحيننا المهربين الى سوريا واموالنا المنهوبة وساستنا اللصوص وزعمائنا الحرامية وبطانتهم الفاسدين المفسدين، وحمّلوا تلك المرأة مسؤولية حرق روما منذ أكثر من الفي سنة .

لتهدئة روع الغاضبين، وضعتُ بوست ذكّرتُ فيه ان “هند رفيق الحريري” قد تزوجت بشابٍ كان “سائقها” الذي يحمل شهادة عليا في إداره الاعمال، فتراوحت التعليقات بين الاستغراب والصدمة والارباك وعدم فهم المغزى من مضمون هذا البوست وتوقيته. ولكن الأغلبية باركت ذلك الحب والزواج الذي حصل بين إبنة أثرى رجل في لبنان وسائقها. لم يستنكر احد ان يعمل حاملُ شهادةٍ جامعية عليا، “سائقاً” عند الأثرياء، باعتبارها مهنةٍ تمسّ بكرامته وبمستواه العلمي، أو تجعلنا نتأسف على الأموال الطائلة التي دفعها والداه على تعليمه الجامعي، لينتهى به المطاف، بأن يكون سائقاً ومرافقاً لأبناء وبنات الأغنياء. ببساطة، الأغلبيه نظرت الى الموضوع من زاوية سياسية، هدفها الدفاع عن خيارات إبنة الزعيم التي فاز بقلبها “سائقها” المتعلم الذي لم يخجل بأن يضع شهاداته في الدرج، وفضّل أن يمارس عملاً شريفاً يؤمّن له راتباً شهرياً بعرق جبينه، بدل ان يهاجر او يتسول مصروفه من ذويه أو يقتل اوقاته في المقاهي يدخّن الاركيلة متذرعاً بعدم وجود وظائف تليق بشهادته !

يوجد في منطقتي الضم والفرز والمعرض في طرابلس، مئات المباني التي يشغل سوريون وظيفة “ناطور” فيها . وهذا الناطور يتقاضى الحد الأدنى للأجور، ويعيش بمفرده او مع عائلته، في منزل دون ان يدفع اجاراً شهرياً او ثمن الماء والكهرباء والرسوم البلدية او أي مصاريف أخرى، بل يمكنه أن يجني بعض المال الاضافي نتيجة خدمات يقدمها للسكان . ولطالما سألتُ عن سبب زهد ابناء طرابلس (الفقراء وغير المتعلمين والعاطلين من العمل ..) بهذه الوظيفة، وهم احوج الناس الى الوظائف ؟!! ويوجد في طرابلس العشرات من محطات الوقود التي يعمل فيها عدد كبير من العمال الاجانب (باكستاني، هندي، مصري ..الخ) فلماذا فرّط ابناء المدينة بهذه الوظائف ايضاً؟ اليس العمل – ولو برواتب منخفضة – افضل من البطالة أو الحاجة الى الآخرين أو العمل على البسطات الثابتة والمتحركة او التسكع في المقاهي أو على اعتاب الزعيم أملاً بورود اسماء العاطلين من العمل على ال ” payroll” ؟!

الحقيقة أن ردود الافعال على كلام السيدة مولوي، لم تفعل سوى ترسيخ بعض المفاهيم والافكار الخاطئة والمتخلفة السائدة عند بعض اللبنانيين، بحقارةِ بعض المهن، ورفعةِ بعضها الآخر، وهذا بالطبع من حُسن حظ السوريين والباكستانيين والهنود والمصريين الذين يعملون لارسال بعض الدولارات الى ذويهم، تماماً مثل اللبنانيين الذين يكدّون في العمل في المهاجر لإرسال بعض الدولارات الى ذويهم في لبنان، ولا يخجلون من مزاولة أي عمل، طالما انه شريف ويكفيهم شرور السؤال والحاجة والعوز .

6 مليار دولار هو حجم الاموال التي يرسلها العمال الاجانب ( العاملات المنزليات، عمّال النظافة، عمّال محطات الوقود، عمّال البناء .. ) سنوياً الى بلدانهم ، و 8 مليار دولار هو حجم الاموال التي كان يرسلها اللبنانيون سنوياً الى ذويهم الفقراء والمحتاجين والعاطلين من العمل في لبنان !!!

اعتقد ان المثقفين في طرابلس يجب ان ينأوا بأنفسهم عن تلك التصنيفات التي تقسم الاعمال الى شريفة وحقيرة، ولاسيما في افقر مدينة على الحوض المتوسط ، التي من المستغرب ان يكون فيها عامل اجنبي واحد، فيما 85% من ابنائها يعيشون تحت خط الفقر !

أقوال وأمثال وحِكم كثيرة قيلت في مدح العمل ، ومنها ان “العمل عبادة”، أو “أحبّ ما تعمل، حتى تعمل ما تحب” ؛ او ما قاله عمر بن الخطاب: “إن كان الشغل مجهدة، فإنّ الفراغ مفسدة” . نعم .. الشغل مش عيب. العيب ان يكون المرء قادراً على العمل، ولا يعمل، بحجة ان الأجنبي ما خلاه يشتغل . العيب على اصحاب المصالح الذين يستقدمون العمالة الرخيصة طمعاً ببعض الربح، فيما أبناء وطنهم يئنّون من الجوع والعطالة ويحلمون بالهجرة من هذه البلد التي ظلمها ونهبها زعماؤها الذين ما زال البعض يصفق لهم ويدافع عنهم .

السابق
الكاظمي بداية تغيير في العراق… لكن حذارِ من إيران!
التالي
اسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الاثنين في 18 ايار 2020