تأملات «كورونية» لمحجور عليه!

كورونا حجر منزلي

أنا في “الإقامة الجبرية”.

في مساء قلِق بتوالي أخبار الموت والمرض، أسقطت السلطات الفرنسية هذا الحكم عليّ، لتمنعني من ارتكاب جريمة قتل محتملة. وحتى تحميني من أن يرتكب أي كان جرما مماثلا بحقي، فرضت الإقامة نفسها على غيري أيضا.

في الساعات الأولى لصدور هذا الحكم، لم أجرؤ على النظر في المرآة. خفت أن أرى الشر يتطاير من عينيّ، وابتسامة باردة ترتسم على شفتيّ. خشيت أن أغمض عينيّ، حتى لا أكتشف “المخططات الشريرة” التي أضمرها، من دون وعي، ضد كل من أعرف وأصادق وأحب.

تجنّبت أن أنظر إلى الواقفين على شرفات منازلهم والجالسين أمام التلفزيون على أرائكهم، حتى لا أكرههم وهم المتهمون أيضا بالتخطيط لقتلي وعائلتي. حاولت أن أنسى أسماء من لم تكن تحلو لي الحياة إن لم ألتق بهم على فنجان قهوة أو كوب شاي، في غداء أو عشاء، لأناقش معهم شؤون الحياة الشخصية أو السياسية أو الأمنية أو القضائية أو الاقتصادية أو المالية أو الحياتية أو الثقافية أو الفنية. هؤلاء، أصبحوا، بالنتيجة، ضحايا محتملين لي كما أصبحت أنا ضحية محتملة لهم.

الحكّام الذين أتعبهم الناس في طموحاتهم التغييرية، قد أراحهم هذا الفيروس

ولكنّ “الخطب” الوطنية التي برّرت إعلان الحرب على غزو جيش “كوفيد-19” المنتمي إلى فصيلة الأعداء المسمّاة “فيروس كورونا”، أفهمتني أنه جرى تجنيدي في المقاومة العالمية، وجرى ضمّي إلى ألوية “البقاء في البيت”.

في هذه الحرب، جلّ ما عليّ أن أفعله لأنتصر وأنصر بني جلدتي، هو أن أبقى في البيت، هو أن أنفصل عن الآخرين. هو أن أطلّ عند الثامنة مساء على الشرفة وأصفّق للطواقم الطبية التي ستعتني بي، إن تمكّن العدو منّي. هو ألا أفكّر بمن بيته مجرد أمتار مربعة قليلة. بمن لا شرفة لديه تطل عليها الشمس. بمن لا بيت أصلا لديه. بمن لا معين له. بخمسين مليون شخص يموتون سنويا، بتلوّث الهواء (9 ملايين) وبالتدخين (7ملايين ونصف المليون) وبالكحول (3 ملايين) وبسوء التغذية (3 مليون ومائة ألف) وبتضخم الوزن (3 مليون) وبأسباب أخرى متعددة.

إنّ هذه الحرب التي جرى تجنيدي فيها، قلبت رأسا على عقب سلّم القيم الذي أرهقنا أنفسنا ونحن نتوسله في صعودنا إلى “الفردوس الموعود”. كل الفضائل التي تربينا عليها جرى محوها وتمّ فرض نقيضها علينا: الوحيد اتركه لوحدته، السجين دعه ليأسه، المريض إياك أن تعوده، وأجسادنا، بعدما كانت هياكل للروح القدس، أصبحت، فجأة، هياكل لـ”كوفيد-19″.

ما سرّ هذا الفيروس الذي يصفه العلماء بأنه، في آن، كائن حي وغير حي؟

الأطباء الاختصاصيون وعلماء “علم الأحياء” يبلغوننا، كل يوم، بما يكتشفونه من مزاياه البيولوجية، وسلوكياته الحياتية، ومساكنه الفضلى التي هي “أنبل” خلايانا الجسمانية. يعلّموننا كيف نحمي أنفسنا منه بانعزالنا عن الآخرين، بعدما كانوا، منذ عصر التنوير، يجزمون لنا بأنّ ما يميّزنا عن سائر الحيوانات يكمن في أننا كائنات اجتماعية.

ولكن التفسير الطبي لوحده لا يكفي، لأن هذا الكائن “العجيب” الذي يتربع على عرش منه وفيه، يحكمنا من دون أن يراه أحد منّا بالعين المجردة، ويفرض علينا سلوكا فرديا وجماعيا من دون أن يلقي أي خطبة أو يحتمي بأي جيش أو يستعمل أي سلاح. هذه المهارة، ربّما تعود إلى ما يتمتع به من عراقة تاريخية، قلّ نظيرها، على اعتبار أنه يتحدّر من أجداد أعمارهم تفوق مليارين و45 مليون سنة، أي أنهم كانوا قبل أن يكون آدمنا وتكون حواؤنا.

إن حاجتنا كبيرة إلى تفسير أبعد من البيولوجيا، لأن هذا الفيروس إن كان عدوا فيجب أن نعرف عدونا، وإن كان صديقا فعلينا ألا نخطئ في تقييمه، وإن كان عامل تغيير فيفترض بنا أن نحسن التفاعل معه.

كل الفضائل التي تربينا عليها جرى محوها وتمّ فرض نقيضها علينا

كيف لا نندفع إلى طلب تفسير من نوع آخر، وهناك علماء يجزمون لنا بأن هذا الفيروس، بالمحصلة، لا مصلحة له في قتلنا، لأنه بموتنا يموت؟ فهل هو كائن يهوى الانتحار؟ هل هو شمشون جديد يدمّر الهيكل على رأسه وعلى رؤوسنا؟ أم أنه هنا لأسباب أخرى، أبعد وأهم من كل ذلك؟

وهذه المهمة الاستكشافية يستحيل تركها للأطباء فقط، حتى ولو كانوا بعرف الخائفين على حياتهم، هم الأبطال وهم الملائكة وفي أياديهم يكمن رجاء النجاة.

إذن، ما هو هذا الذي سميناه “كوفيد-19″؟

نحن، وبصفتنا، أجيال نهج الاستدلال إلى حقيقة الآخرين من خلال الركون إلى أفعالهم، بدأنا نتلمّس نتاجات هذا الفيروس.

على صغر المدة التي عرّفنا بها على نفسه، بدا لنا أنه مرآة تعكس طموحاتنا، وآلية تحفّز أهدافنا. إن جولة صغيرة على أصحاب التطلعات كافية لتكشف ذلك.

“البيئيون” يهتمون بتأثيراته الحميدة على كوكب الأرض، فما أرهقوا أنفسهم في طلبه لجهة وضع حدّ للتلوث التدميري، بدأ يتحقق، والأدلة التي كانوا يتطلعون إليها تتراكم.

والحكّام الذين أتعبهم الناس في طموحاتهم التغييرية، قد أراحهم هذا الفيروس، من الثورات ومن الاحتجاجات، ويكاد يريحهم حتى من الديمقراطية نفسها.

والمعارضون للنظام الدولي الحالي وجدوا ضالتهم، فالعالم لم يعد قرية واحدة، بل أصبح مجرد أحياء منفصلة، ونظام التجمعات الإقليمية الذي ألغى الحدود الوطنية، انهار، فكما انزوى الناس فرادى في منازلهم، كذلك انزوت الدول ضمن حدودها التاريخية.

والاقتصاديون الذين يحاربون العولمة وسقوط الحدود الجمركية وسيطرة رؤوس الأموال، والتوزيع غير العادل للثروة، يعِدون أنفسهم بغد على مقاس تطلعاتهم.

و”الأخلاقيون” رأوا في هذا الفيروس دروسا كثيرة لا بد من بدء تعميمها فورا على كل أوجه الحياة. هو مثله مثل الشمس، فكما هي تشرق على الجميع من دون تفرقة كذلك هو يستهدف الجميع من دون تفرقة. لا يميّز بين حاكم ومحكوم، وبين ظالم ومظلوم، وبين غني وفقير.

بالنسبة لهم فإن “كوفيد-19” يكسر الكبرياء، ويطيح الطبقية، ويسخر من الثروة، ويعيد الاعتبار للفقراء.

والعبثيون وجدوا في الأنانيات المتنامية على ضفاف الخوف من هذا الفيروس “بيت القصيد”. يشيرون بالبنان إلى رفوف المتاجر الفارغة، وإلى المنافسة للحصول على كمامات ومطهرات الأيادي، وإلى اعتبار “سعلة” كل من “تشردق” من أحط الأعمال الإرهابية، وإلى “التنمّر” ممّن ينتسبون عرقيا إلى دول “موبوءة”، وإلى خوف الأجداد ممّن كانوا “أعز من الأولاد”.

وأنا في “إقامتي الإجبارية” لا أشذ عن القاعدة. فهذا الفيروس فعل فعله في عقلي ووجداني وخيالي.

لقد ألغى الحدود التي كانت تفصلني عن التاريخ. كأنني اليوم، وأنا في باريس، أعيش في أثينا سنة 431 قبل الميلاد. يومها اعتبر السكان الطاعون الذي استهدفهم أنه نتاج مؤامرة حيكت في ليلة ليلاء جرى خلالها تسميم كل آبار المياه. واليوم كذلك يحدثونك، ليلا نهارا، عن “مؤامرة” أنتجت “كوفيد-19”.

اقرأ أيضاً: 5 أطعمة لتقوية الجهاز المنا عي لمكافحة فيروس كورونا!

السعي إلى إقامة دولة قوية في بلادنا، ليس ترفا سياسيا، بل هو شرط البقاء

هذا ينسبها الى الصين وذاك إلى الولايات المتحدة الأميركية وذيّاك إلى فرنسا. وكأنني، اليوم، في القرن الخامس عشر، في بلاد حضارة الإنكا التي سيطر عليها مئة وثمانون “فاتحا” إسبانيا، بعدما انتشر وباء الجدري، فقضى على الملك ومن ثم على خليفته كما قضى على الكثير من المحاربين، مما مهّد للقضاء أيضا، على هذه الإمبراطورية القوية والشاسعة والثرية، وعلى لغتها، وديانتها، وثقافتها، وعلى اسمها الذي أضحى، أميركا الجنوبية.

وقرّبني هذا “التاجي” من رومانسية جان جاك روسو، فبدأت أختبر “الحجر” الذي عاشه وحيدا، في جنوى الإيطالية، بسبب الوباء، كما أدخلني إلى عوالم “طاعون” ألبير كامو، بشقه الوبائي كما برمزيته السياسية عن انتشار “الوباء” النازي-الهتلري الذي لدينا، في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، مثيل له، ولو كان، بالمقارنة، مجرد مثيل كاريكاتوري.

أقنعني هذا الفيروس بأن ما يتمنّاه المرء، في لحظات الرخاء، يتحقق، ولكن بنتائج عكسية، وكأنّ أسطورة “إيكار” المنجذب إلى الشمس التي أذابت الشمع المصنّع لجناحيه، تتكرر.

وبهذا المعنى، فقد شكت حكومات كثيرة، في السنوات الأخيرة، من تكلفة المتقاعدين، ومن عبء الضمان الصحي والطبي، فجاءها هذا الفيروس ليستهدف كبار السن ومن يعاني من أمراض مزمنة، لكنها وجدت نفسها تنفق أضعاف ما كانت تطمح، في تدابيرها الضرائبية، إلى توفيره.

وبهذا المعنى أيضا، لم تتوقف الشركات، على مختلف أحجامها، عن التذمر من تكلفة الضمانات المطلوبة لعمالها، وها هي، بضربة “فيروس” تكتشف أن اضطرار عمالها على “البقاء في البيت”، ألحق بها خسائر فادحة وبدأ يتسبب بإفلاس كثير منها.

وأدّبني “كوفيد-19”. جعلني أتألم من تململي على ما كنت أعيشه حتى عشية حلوله علينا. أفهمني القيمة الكبرى لأن يكون لي أهل وأحبة وأصدقاء منعت عنهم منعا، حتى إشعار آخر، ولا يمكنني الالتقاء بهم إلا باستحضارهم ذهنيا إلى تمنياتي في أن تمر عليهم الأزمة وهم بصحة وعافية.

وعظّم في نظري ما كنت أحسبه سخيفا، كالخروج ساعة أشاء إلى حيث أشاء، والعمل مع الزملاء، وزيارة المنازل، واستقبال الأصدقاء، ومواعدة المعارف، وجلسة مقهى، وندامة مطعم، و”قعدة” سينما، و”تفقد” أحدث المنشورات في مكتبة.

في هذه الحرب، جلّ ما عليّ أن أفعله لأنتصر وأنصر بني جلدتي، هو أن أبقى في البيت

ورسّخ قناعاتي السياسية، فالسعي إلى إقامة دولة قوية في بلادنا، ليس ترفا سياسيا، بل هو شرط البقاء. أقارن حاليا بين ما يعانيه لبنان، مثلا، في ظل هذه الأزمة الوبائية، وما تعانيه فرنسا. “بلاد الغول” ستخرج، عند إعلان السيطرة على “كوفيد-19″، مجرّحة، ولكنها ستكون قادرة على استنهاض نفسها. الأموال التي استطاعت تحريرها لضمان اقتصادها وشعبها، يضاف إليها خطة البنك الأوروبي، كفيلة بذلك.

بينما “بلاد الأرز”، التي كانت قد أصيبت بوباء الفشل والميليشيات والدويلة والفساد والكسل والطمع والتلوث والاستتباع والفقر، لا يستطيع أحد مسبقا أن يحدد حجم الكارثة التي سيصيبها بها هذا الفيروس. هذا الترقب الأبوكليبسي للآتي، يجعلك تستخف، على الرغم من واجبات الكتابة السياسية، بفائض الاهتمام بتفاصيل كثيرة يعتبرها البعض عظيمة، وتجدها أنت، بالمقارنة مع المرتقب، في غاية التفاهة.

كل هذا يشكل المعنى الحقيقي لـ”كوفيد-19″. كثيرون، وهذا حقهم، ينظرون إليه من زاوية “غريزة البقاء”. أنا، من مقر “إقامتي الجبرية”، أنظر إليه من زاوية “معنى الحياة”.

لو كنا نعيش في أزمنة الوثنية، لكان بعض منا قد أقام له تمثالا ومعبدا وطقوس ليتورجية. لكنّنا في أزمنة أخرى، حيث يكفينا أن نعتبره درسا كبيرا للإنسانية.

السابق
نصرالله يُنبّه حلفاءه المشككين..وشينكر: لا صفقة في قضية الفاخوري!
التالي
القوى الشيعية تفشل في التوافق حول إلغاء تكليف الزرفي