قصة صغيرة: رئيس الجمهورية اللبنانية

ميشال عون

طلب مني صديقي أن أرافقه في زيارة تفقدية لأحد معارفه، فوافقت.

على الطريق، شرح لي أن الشخص الذي نقصده، يعيش في ظروف صعبة للغاية، فليس معه ما يكفي لإعالة زوجته وأولاده الأربعة، وأنه يتردد عليه مرة في الشهر ليقف على بعض حاجاته الملحة.

استفسرت منه عن عمل هذا الشخص، فقال لي إنه كان أمين صندوق في أحد المصارف، قبل أن يطرد بسبب أحد أبنائه الذي اصطحبه معه مرة إلى العمل، فسرق بغفلة منه مبلغا عجز الوالد عن تسديده، وتحمّل هو المسؤولية خوفا من أن تبلغ إدارة المصرف الشرطة، فتلقي القبض على ابنه.

وسرد لي أن هذا الشخص، وبسبب “سوء السمعة” التي اكتسبها لم يستطع أن يجد عملا ثابتا جديدا، فحرم من الضمانات الصحية والطبية، في وقت تكاثرت أمراضه وأمراض عائلته.

حل مشكلتك وإن بدا معقدا فهو سهل. أنت بالنتيجة لست فقيراً بل ضعيف

ولكن ما لفت انتباهي في شرح صديقي أن الشخص الذي نقصده ينتمي إلى عائلة ميسورة وأن أهله وأقاربه وأنسباءه يتمتعون بحياة هانئة ومستقرة.

متأثرا بهذه المفارقة، سألت صديقي بحدة “محبي العدالة الاجتماعية”:

– هل هؤلاء وحوش؟ لماذا لا يقفون معه ويساعدونه؟ لماذا أقله لا يجدون له عملا يكفيه الحاجة ويسد العوز؟

أجابني صديقي، وضحكة صفراء ترتسم على شفتيه:

– في البداية حاولوا، لكن زوجته بعدما راحت تحرّض أبناءها على أقاربهم، بدأت علنا تسيء إلى سمعة هؤلاء وإلى شرف زوجاتهم، وراحت أبعد من ذلك، إذ أنها انضمت إلى جماعة لا عمل لها سوى أذية أهل زوجها وأقاربه. وعلى الرغم من التحذيرات التي انهالت عليه، من كل حدب وصوب، عجز صديقي عن ردع زوجته وعن تهدئة أبنائه، وعندما اشتد عليه الضغط، أبلغهم أنه أضعف من زوجته وأنه إن ضغط أكثر من ذلك فهذا يعني أنه سيخرب منزله.

جوابه هذا ـ تابع صديقي كلامه ـ أغضب أهله وأقاربه منه، فأوقفوا كل علاقاتهم معه وقالوا له بالحرف: “عندما تصبح قادرا على إدارة بيتك عد إلينا، ولكن حتى تلك الساعة تدبر أمرك بنفسك. أهلا بك بيننا، عندما تشتاق إلى رؤيتنا، ولكن ممنوع عليك أن تصطحب زوجتك المؤذية معك، وعليك ألا تمنّن النفس بأي مساعدة منا، لأنها بالنتيجة ستقوي زوجتك لتستقوي أكثر علينا”.

وتابعت “استجوابي”.

– لا يمكن لعاقل أن يتصرف مع من هو بحاجة إليهم بهذه الطريقة، ولذلك يفترض أن تكون لديه مدخرات كافية يخفيها عن الجميع.

انتفض صديقي على “خيالي الواسع”، وأجابني بحدة:

– أي مدخرات هذه؟ عليه ديون يعجز عن تسديدها. قد يطرد من منزله، بعدما كان قد رهنه ليستدين، وهو الآن عاجز عن تسديد السندات. اثنان من أولاده تركا الجامعة، ونتاج عملهما لا يسدد إلا بعض الحاجيات الملحة جدا.

وصلنا. انقطع الحوار. دخلنا إلى بيت “مريع”: غبار وأوساخ. مراهقان يتضاربان ويتشاجران. امرأة تشاهد التلفزيون وتدخن، وأمامها “منفضة” تفيض أعقاب سجائر ورمادا. الزوج رجل جميل وممشوق، ولكنه شاحب جدا. أنيق ولكن ثيابه التي كان يرتديها في وظيفته المصرفية بدأت تفقد ألوانها. يتحدث بفصاحة ممزوجة بكلمات تقنية أجنبية تؤشر إلى مستوى ثقافي مميّز.

لم يغيّر دخولنا إلى المنزل سلوك الزوجة والولدين، بل العكس صحيح. الزوجة رفعت صوت التلفزيون، كما ضاعفت وتيرة التدخين. الولدان غيّرا موضوع الشجار، فراح واحد يشتمنا ويعتبر أننا رسولان للـ”عقارب”، في إشارة إلى أقارب والدهما، وراح الثاني يبرئنا من هذه التهمة، ويجزم بأننا صديقان حقيقيان لوالدهما.

كنا ننوي أن نطيل الزيارة، ولكن كان ذلك من باب المستحيلات، بسبب صوت التلفزيون المرتفع، وصخب الولدين، ورائحة المنزل الموبوءة، وانزعاج الزوجة التي لم تتحرك من مكانها، وارتباك الزوج، وهو يحاول أن يبرر وضع منزله وسلوك عائلته.

وبعد محاولات متعددة من صديقي تمكنا من أن “نسحب” الرجل من منزله، بعد “تشاور” طويل مع زوجته.

في المطعم الذي قصدناه، حاورته مطوّلا عن وضعه وظروفه، وفي ضوء ذلك قدمت له خطة انقاذية، غير آبه بغضبه أو بانزعاجه، لأنه بالنتيجة لا تربطني به لا مصلحة خاصة ولا عاطفة غير تلك التي تربط الناس بعضهم بالبعض الآخر.

قلت له:

– يا سيّدي، حل مشكلتك وإن بدا معقدا فهو سهل. أنت بالنتيجة لست فقيرا بل ضعيف. والوضع الذي أنت فيه بقدر ما هو مخيف بمأساويته بقدر ما هو واعد بمعطياته. ما كنت تخشى منه على التسبب بـ”خراب بيتك” قد حصل. ما كان نقطة ضعفك الأساسية لم يعد كذلك. الآن “بيتك مخروب” وبات عليك إنقاذه.

بلهفة، لفتت انتباه صديقي، سألني:

– كيف يمكنني ذلك؟ ماذا عليّ أن أفعل؟

بصدق ومسؤولية أجبته:

– عندما يعود ولداك من عملهما، اخرج معهما وتفاهما على ضبط الإنفاق المنزلي، وهذا ممكن جدا، فقد لاحظت أن الكهرباء تضيء كل أرجاء منزلك، من دون حاجة، ووفق حساباتي، فزوجتك تستهلك أربع علب دخان يوميا على الأقل، وبيتك ممتلئ بالأوساخ التي تتسبب بالأمراض وتاليا ترهق ميزانيك طبابة واستشفاء، ومن الواضح أنكم لا تأكلون مما تطهون، وأن ولديك اللذين في المنزل يعانيان صعوبات كبيرة في الدرس وتاليا فنتائجهما المدرسية متدنية جدا وتتسبب برسوبهما، وأنت استسلمت لسوء السمعة التي لحقت بك، وعليك أن تعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، فولدك حين سرق كان قاصرا، وعلى مدير المصرف أن يعرف أنك بريء من ذلك، أقله حتى تنظف سجلك.

توقفت عن الكلام لأشرب مياها، فتدخل وقال لي، وهو مصاب بالإحباط من نصيحتي:

– ولكن ذلك لا يكفي، فأنا عاجز عن تسديد ديوني وطردي من منزلي قد لا يتأخر.

استعدت نشاطي الكلامي وأجبته:

– أعرف ذلك، فمشكلتك ثلاثية الأضلاع. ما سبق وقلته لك هو “الضلع الأول”، وهو مسؤوليتك العاجلة جدا. وهناك الضلعان الآخران: نحن نتولى الأول وأنت تتولى الثاني.

استعاد حيوتيه، وحدّق بي منصتا، فشرحت كلامي، قائلا:

– سوف أذهب وصديقك ـ صديقي إلى كبير عائلتك، ونتعهد له بأنك تغيّرت وبأنك سوف تتحمّل مسؤوليتك تجاه سلوك زوجتك وتضبط أبناءك. وبناء عليه، سنطلب منه أن يتولى وسائر أهلك أن يوفر ما يكفي من ضمانات لك، من أجل إعادة برمجة ديونك، على أن يساعدوك بسدادها، في حال التزمت بموجباتك.

اقرأ أيضاً: التعيينات القضائية تغضب فريق العهد.. استقالة الحسيني وغادة عون: تشكيلات انتقامية!

إن نجح في ما تعهّد به، يجب أن نستفيد من تجربته وننتخبه رئيساً للجمهورية اللبنانية

الآن، سوف نطلب موعدا من كبير عائلتك لنتفاهم معه على كل ذلك، فيما أنت تتوجه إلى المنزل وتتفاهم مع زوجتك على أن تكف خيرها وشرها عن أهلك وأقاربك. لا أحد يطلب منها أن تحبهم. كل المطلوب منها أن تمتنع عن التدخل بشؤونهم وشجونهم. إن لم تفعل، تبلغ أولادك بأن جزءا كبيرا من المصيبة التي أنتم فيها سببه سلوك والدتهم، وعليهم أن يختاروا إما الهبوط إلى درك جديد من الجحيم بسلوك طريق الثرثرة والنميمة والتدخل في ما لا يعنيهم، وإما الخروج من المأزق بتسكين غضب من يملك القدرة على مساعدتهم.

باهتمام علّق”

– سوف تدافع زوجتي بحدة عن نفسها وتلقي، كما هي عادتها، المسؤولية على عاتقي، فتشوّه سمعتي أمام أولادي.

ضحكت وأجبت:

– عليك أن تتحمل تبعة ضعفك ورضوخك واستسهال سبل العيش، ولكن الخوف من تبعات ذلك لا يعفيك من موجباتك الملحة، إنقاذا لأسرتك التي يتهددها الجوع والحرمان والمرض والتشرد، فـ”رب المنزل”، حتى يستحق لقبه، يجب أن يكون مسؤولا، لا أن يكون خانعا وضعيفا ومهزوما وشاكيا وباكيا ومستسلما وثرثارا.

بالكاد أكملتُ عبارتي، حتى نهض عن كرسيه، ونزع ربطة عنقه، وقال لنا، بحزم وهدوء:

– إلى العمل!

ذهب الرجل. وضع صديقي يده على كتفي، وقال لي ضاحكا:

– إن نجح في ما تعهّد به، يجب أن نستفيد من تجربته وننتخبه رئيسا للجمهورية اللبنانية.

السابق
بعد مسؤولي النظام الإيراني..«كورونا» يفتك بالجسم الطبي وتلويح بإستعمال القوة!
التالي
بعد تراجعه من 2700 الى 2300 ..الدولار فوق «تسعيرة» سلامة!