الدين والأوبئة: الهوس الجماعي من فايروس كورونا

فيروس كورونا

في الوقت الذي ينكب فيه عدد كبير من العلماء في مختبراتهم، وفي سباق مع الزمن، لقراءة الخارطة الوراثية للفايروس المستجد (كوفيد – ١٩) من أجل تطوير لقاح وقائي مناسب، أو علاج ناجع للحد من اثاره المميتة.. في هذا الوقت، وفي أماكن مختلفة من العالم، يتوسل العديد من الناس وسائل ما قبل علمية، دينية وسحرية على وجه التحديد، لمنع وصول الوباء إليهم، وهذا أمر طبيعي، فإن عصر التفوق العلمي الذي نعيشه لا يمثل حدودًا راسخة مع ما قبله، فالإنسان الذي يحتاج الى لقاح يحصنه بيولوجيًا ضد الأوبئة، هو بحاجة إلى قوة معنوية يركن إليها لمجابهة الأخطار التي تتربص بوجوده. وفي مثل هذه الأزمنة، تتجدد المعارك بين المتطرفين دينيا مع أولئك الذين علمهم العالم الحديث؛ أن العلم هو الوسيلة الوحيدة للسيطرة على الطبيعة ومفاجآتها.

يذكر الدكتور علي الوردي، في الجزء الأول من كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، أن الوالي العثماني داود باشا اتخذ قرارا بتطبيق الحجر الصحي في مواجهة موجة الطاعون القادمة حينها من الجزيرة العربية، لكن قراره هذا، تمت مواجهته بفتوى من رجال الدين المتطرفين، الذين افتوا بحرمة الإجراء غير المتطابق مع الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم، وبذلك، وحسب أرقام غير مؤكدة بالطبع، فقد مات ثلثا سكان بغداد.

اليوم، ولحسن الحظ، فإن رجال الدين عندنا، استسلموا منذ وقت طويل للطب الحديث، بل أسهموا بأنفسهم في تبني مشاريع صحية حديثة، كما يحصل مع مستشفى الكفيل في النجف، الذي ترعاه أهم مؤسسة دينية. ولحسن الحظ أيضا، فإن هذا المشروع يدر عوائد مالية كبيرة، تضاف الى ما يطلق عليه “بيبر بورديو” باقتصاد النذور.

إقرأ أيضاً: مستشار ظريف يلتحق بقافلة المُصابين بالكورونا!

المشكلة إذن، لا تتعلق بموقف الدين من العلم، فهذه أضحت شيئًا من الماضي وبشكل كبير، المشكلة مع الايديولوجيات الدوغمائية التي ولدت من رحم الدين، واستغرقت في هوسها الطائفي حد تحدي الوباء حفاظا على كرامة المجموعة المذهبية ورموزها المقدسة. فهي لا تسمح باسم الضرورات العلمية أن نطالبها بغلق الحدود مع الشركاء في المذهب، حتى لو تفشى الوباء في أكثر الأماكن قدسية، ونال في أول جولة له من سكان المدن ذات الرمزية المقدسة، ووصل بدوره إلى أقدس الأماكن في العراق، لأن الحديث عن غلق الحدود بات يحمل معنى سياسيا وطائفيا خطيرا.

وهذا يحصل بشكل مباشر في العراق ولبنان، حيث يتواصل العناد من أجل عدم إهانة المشاعر المشتركة مع إيران حتى لو دفع البلدان أثمانًا غالية من صحة مواطنيهما وحياتهم.

الكوارث لا تستثني المقدس

نتذكر في هذا الشأن الزلزال العظيم الذي وقع في مدينة لشبونة عام ١٧٥٥ والذي صادف يوم عيد كل القديسين، وخلف ذلك الجدل الشجاع بين “فولتير” من جهة و”روسو” ومؤيدي تفاؤلية “لايبنتز” من جهة أخرى.. “لايبنتز” الذي كان يقول إن الله خلق لنا أفضل العوالم الممكنة.

كتب فولتير قصيدته الشهيرة (مأساة لشبونة) ثم تناول الحادثة في روايته الخالدة (كانديد) التي سخرت من “لايبنتز” وطروحاته ذات المنحى الايماني.

الدرس المهم من زلزال لشبونة، هو ليس كونه ظاهرة جيولوجية تحدث في كل مكان وزمان، الدرس المهم انه حدث في مناسبة دينية ذات أثر قدسي كبير، حيث عيد كل القديسين وتجمع المؤمنين في كاتدرائية لشبونة صباحا. فمن هذه الحادثة المؤسفة، ومن مصادفة توقيتها، تعلمت أوروبا تجربة جديدة في الفصل بين المقدس وضرورات الطبيعة، فاينما قرأت عن عصر الأنوار ستجد زلزال لشبونة يحتل مكانه في التفسير والتأويل والمحاججة.

اليوم، ونحن نعيش الهوس العالمي بفايروس كورونا، نضع دائرة حمراء حول حركة الوباء في منطقتنا، والأماكن التي ينطلق منها ويتحرك فيها، علينا أن نتعلم الدرس أيضا، وأن نفصل بين المقدس والمضادات الحيوية.. بين هواء الأضرحة الروحي، وبين البيئة الطبيعية، التي لا تميزها الفايروسات عن سواها. وقبل كل ذلك، علينا أن نفصل بين كرامتنا المذهبية والحدود السيادية لبلدنا.

إن إيران تقترب من أن تكون أمة منكوبة، ويجب أن نشعر بشديد الحزن من أجل شعبها، وهذا لا يعني، وفي كل الأحوال، ان نسمح لكوفيد- ١٩ أن يعاملنا وإيران كدولة واحدة.

السابق
سفينة إنزال روسية في طريقها إلى سوريا!
التالي
بنت الجيران في «لهون وبس».. موسيقى المهرجانات وصلت بيروت!