العَوْنيّةُ فاشيّةٌ مَخْصِيَّةٌ

التيار الوطني الحر

تُثير العَوْنِيَّةُ دهشةَ الكثيرِ مِن خصومها وكارهيها. فعلى سبيل المثال، إذا ما تباهى جبران باسيل بأنّه عنصريٌّ بلبنانيّته، أو تفاخَر بأنّ انتماءَه اللبنانيَّ لَهُوَ انتماءٌ جينيّ، تجحظ العيونُ مذهولةً وتأبى الآذانُ تصديقَ ما سَمِعَت. ولعلّ هذه الدهشةَ المفرطة أحدُ أسبابِ عجز كثيرين عن فهم ما هي العونيّة، عجز يحمل البعض على اعتبارِ أنّ كلَّ مَن ناصر هذا التيّار مِن عامّة الناس إنّما هو مُصابٌ باضطرابٍ نفسيّ.

في واقع الأمر، ما مِن شيءٍ عجيب في العونيّة. أو الأحرى أنّ ما قد يُثير العجب فيها ليس خاصّاً بها بل يتعدّاها. فالعونيّة هي، ببساطة، مجرّد تيارٍ فاشيّ؛ ومَن يَقِفُ مَشْدوهاً أمامها، فاغراً فاه، إنّما يقف مذهولاً، مِن دون درايةٍ، أمام ما أسماه أمبرتو إيكو بـ«الفاشيّة الأزليّة» في مُحاضرةٍ ألقاها في جامعة كولومبيا عام 1995 (ونُشِرت لاحقاً ضمن كتابٍ عنوانه «دروس في الأخلاق»).

اقرأ أيضاً: ما بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» كأن عون عاد إلى المنفى؟

والعونيّةُ أنموذجيّةٌ في فاشيَّتِها إلى حدِّ أنّ أغلبَ ما جاء في تلك المُحاضرة ينطبق عليها بحذافيره. مُتسائلاً عن سببِ رواجِ مُفْرَدةِ «فاشيّة»، وليس «نازيّة»، لوصف بعض الأنظمة والتيارات السياسيّة المُعاصرة، اليمينيّة السلطويّة والمُتطرِّفة في قوميَّتها، يخلص أمبرتو إيكو إلى أنّ الحزب النازيّ كان يمتلك عقيدةً وبرنامجاً سياسيَّيْن واضحَيْن ومُتماسكَيْن، فيما لم يكن للحزب الوطني الفاشي، وخلافاً للاعتقاد الشائع، أيّة فلسفةٍ خاصّة به. يقول إيكو: لم يكن لموسوليني أيّة فلسفة: لم يكن يملك سوى خَطابيّة. ثمّ يُضيف: لم يكن للفاشيّة أيّ لُبٍّ ولا حتّى مُجرّد جوهرٍ. الفاشيّةُ هي توتاليتاريّةٌ ضبابيّة. بمعنى آخر، هي مُكوَّنة مِن أفكارٍ فلسفيّة وسياسيّة مُختلفة وغير مُتناسقة، غالباً ما تكون متناقضة في ما بينها. لذلك، راج استخدامُ مُفردةِ «فاشيّة» لوصف الكثير مِن التيّارات والأنظمة اليمينيّة المُتطرّفة التي، وعلى عكس الحزب النازي، لا تمتلك سوى أيديولوجيا هلاميّة وغير مُتماسكة. وهنا، لا مفرّ مِن الإشارة إلى أنّ الهلاميّة، وغياب اللُّبِ أو الجوهر، هما مِن المميِّزات الأساسيّة للحالة العونيّة. فقد بات معلوماً للجميع أنّ التيار الوطني الحر، على الصعيد العقائدي، هو لا شيء، أيّ مجرّد خليطٍ فوضوي لأنصاف أفكارٍ يُتيح للعونيّ فعل الشيء ونقيضه، مثل مَقْت الفلسطينيّ وارتداء الكوفيّة في آنٍ واحد.

بَيْد أنّ الضبابيّة أو الهلاميّة الفكريّة لا تلغي، بالنسبة لإيكو، واقع أنّ للفاشيّة سِماتٍ نمطيّة يمكن تحديدُها ثمّ، بعد تحديدِها، الاستعانةُ بها لتمييز التيارات الفاشيّة عن غيرها. ليست هذه السِّمات أفكاراً تنتظم في عقيدة، إذ هي أقرب إلى مُرَكَّبات عاطفيّة ونفسيّة قد تتناقض في ما بينها فلا تُشكِّل، تالياً، منظومةً مُتناسقة. لكن، يكفي وجود واحدةٍ منها لكي تتخثَّر حولها غمامة فاشيّة. ومِن السِّمات التي يعدِّدها إيكو، كثيرةٌ هي التي تنطبق على العونيّة:

عبادة التقاليد لأنّها تحتوي على حقيقة أصليّة ورسالة غامضة ينبغي العمل على تأويلهما. وفي ترجمةٍ عونيّةٍ، إنّ هذه الحقيقة الأصليّة هي ما يسمّيه جبران باسيل «الفكرة اللبنانيّة» (Lebanity)، والتي يمكن أن نُعرِّفها بأنها جوهرٌ أزليٌّ وغامضٌ فيه يَكْمُنُ كلُّ شيءٍ خَيِّر.

السعي إلى تحقيق الإجماع مِن خلال تأجيج الخوف مِن الاختلاف ومِن الدُخلاء (أي الفلسطيني والسوري في حالةِ العونيّة).

استمالةُ الطبقاتِ المتوسّطة المُحبَطة جرّاء أزمةٍ اقتصاديّة أو مهانةٍ سياسيّة (استعادة حقوق المسيحيّين الذين يتملَّكهم شعورٌ بالهزيمة منذ انتهاء الحرب الأهليّة).

الانتماء الوطنيّ كمُحدِّدٍ أَوْحَد للهويّة (تقتصر هويّة العوني على حُبّه لعَوْن وللبنان).

النُخبويّة الشعبيّة، أيّ أنّ الانتماء لشعبٍ مُعيَّن كافٍ لوَسْم الفرد بالعظمة (يا شعب لبنان العظيم).

الذكوريّة الفائضة (لا داعٍ لبرهنة أنّها في صلب العونيّة).

تلك بعضٌ مِن سمات «الفاشيّة الأزليّة» التي تنطبق بحذافيرها على العونيّة. ولا يمكن البدء بفهم أسباب شعبيّة هذا التيار السياسي في البيئة المسيحيّة اللبنانيّة إلّا انطلاقاً من كونه تيّاراً فاشيّاً بكلّ ما للكلمة من معنى.

يبقى أنّ هناك صفةً يتّسم بها معظم المسؤولين في التيار الوطني الحرّ، قد لا يُمكن تفسيرها بفاشيّة هذا التيار، ألا وهي حساسيَّتهم المفرطة تجاه أيّ نوع من الانتقاد، ولو كان طفيفاً. لعلّ مردَّ ذلك إدراكُ العونيّين أنّ سلطتَهم في الدولة لا تصدر عنهم، بل هي مُستعارة برمّتها مِن فريق آخر يفوقهم قوّةً بأشواط، وهو حزب الله. العونيّ يُغالي بفحولته على الدوام لأنّه يعلم أنّه لا يمتلك الفحولة، وإنّما يستمدّها مِن غيره. العونيُّ جريحُ الكبرياء، أي أنّه مَخْصِيٌّ رمزيّاً، كما أنّ العونيّةَ هي فاشيّةٌ مَخْصِيّة.

السابق
الصين تقترب من القضاء على «كورونا».. حقيقة أم دعاية؟!
التالي
تناقض أميركي في أسباب قرار إغتيال سليماني.. قتلناه بسبب هجمات سابقة!