سلطة بلا دولة

 دخل الحراك في لبنان طوراً جديداً، طور المواجهة العنيفة مع السلطة. مرحلة لم يخترها الثوار ولم يريدوها، بقدر ما كانت عاقبة طبيعية ونتيجة متوقعة لسلطة تصرفت أو تظاهرت من اليوم الأول بأن لا شيء جدياً يستحق الانتباه أو التقدير أو مراجعة الحسابات، حتى لو كان ذلك تعبيراً عن فقر أو ألم أو وجع أو جوع منتشر بين أكثر فئات الشعب اللبناني، أو حتى مع خراب وشيك وانهيار مرجح فيما لو استمرت الأمور على عبثيتها الراهنة.   

أصر الحراك على سلميته منذ اليوم الأول، لأنه افترض مسبقاً أن لدى أهل السلطة: حساً عاماً يترفع على الحسابات الشخصية، ومسؤولة وطنية تقيس النجاح بدرجة تحقيق الرخاء والأمن، وحساسية أخلاقية مرهفة لكل فاقة وعوز.  والأهم من ذلك، أن الحراك افترض قاعدة اتصال ديمقراطي ذات طبيعة عقدية بينه وبين السلطة، تتقوم بحق السلطة بتشريع وتنفيذ القوانين مقابل مراعاتها لمصالح أفراد المجتمع وانصياعها الكامل لرغبته ومطالبه واحتجاجاته.  هي افتراضات استغرقت الحراك ثلاثة أشهر، ليدرك أن الصورة الأدبية للواقع السياسي في لبنان لم تكن سوى طوباويات أيديولوجية وأوهام خُلُقِيَّة وفانتازيا سياسية. 

اقرأ أيضاً: السلطة تستدرج العنف والصدأ يطال سلاح حزب          

ومثلما كشف الحراك عن نزعة الشعب اللبناني للحرية وتوقه العميق لحياة كريمة، فإنه كشف عن كارثة نظام تنتفي فيه قنوات التواصل التفاعلي والإيجابي بين السلطة من جهة ومكونات المجتمع من جهة اخرى، وتغيب فيه آليات فعلية لمحاسبة قوى السلطة، وتنتفي الضوابط التي تحد من تضخمها. تبين أن لدينا سلطة تقصد ذاتها لذاتها، وينصب جهدها على تأمين كل مقومات بقائها واستمرارها، وتأمين قواعد أمان قانوني ودستوري لها، إضافة إلى مسعى جدي ومكثف من السلطة لتعميم وعي مجتمعي يتهيب من المساءلة والنقد ويتردد في المخالفة والاعتراض ويحسب الخروج من القطيع رِدة والتحرر من سطوة الزعيم خيانة.

ما فعله اتفاق الطائف أنه أسكت المدفع، لكنه لم ينه ذهنية وثقافة الحرب. فلا المجتمع اللبناني خرج منذ ذلك الحين من تشظيه وتفككه ومسلكيات الريبة والخوف المتبادل بين مكوناته، ولا تداول السلطة وممارستها تحررا من ذهنية الغلبة والأثرة، ولا التضامنات السياسية من أحزاب وجمعيات استطاعت الانعتاق من العلاقات البدئية: علاقات الدم والطائفة. ولعل أخطر ما حصل في اتفاق الطائف وما بعده، أنه عمَّق الهوة بين السلطة والمجتمع، فلم يعد هنالك ما يسمى بالمجال العام يكون فيه الشأن العام من صلب اهتمامات المجتمع ونشاطه وأساس انتظامه، ويكون فيه المجتمع مرجعية أي فعل أو قرار سياسي، تجعله شريكاً للسلطة في صناعة القرار السياسي. 

غياب المجال السياسي، والهوة العميقة الحاصلة بين السلطة والمجتمع، أديا إلى حصر إدارة الشأن العام بنخبة قليلة من رموز السلطة الذي حولته إلى حق شخصي لها وملك يُورَّث، وإلى انقطاع شبه تام لقنوات الاتصال والتواصل بين السلطة وأفراد المجتمع خارج علاقات الزبائنية،  فلا المجتمع قادر على إيصال مطلبه إلى صانعي القرار، ولا السلطة معنية بمشاكل المجتمع وهمومه بقدر انشغالها بتوزيع فيء الدولة ووضع اليد على مغانمها. وهي وضعية ستؤدي حتماً إلى ضمور الخطاب السياسي المعقلن، وانكفاء السلوك السلمي في معالجة الأزمات وإدارتها. ما يجعل القمع والاستبداد وسيلة حصرية للسلطة، ومظاهر الهياج الشعبي ومسلك العصيان العنفي خيارات طبيعية وعفوية للمجتمع في التعبير والتغيير. 

ما يحصل الآن من مظاهر توتر وعنف، ليس انسداداً لأفق الحراك، وليس تجليات لنوايا خبيثة، بل شكل جديد وشفاف في المواجهة، فرضته ترتيبات ما بعد الحرب الأهلية، التي رسخت شكلا سلطانياً للسلطة ومنطق علاقة زبائنية بينها وبين أفراد المجتمع.     

بعد ما يقارب المئة يوم على بداية الحراك في لبنان، يكتشف اللبنانيون أنهم محكومون لسلطة قوضت ما تبقى من مؤسسات الدولة وامتصت كامل قدراتها ولا تبالي بانكشاف فشلها أو تتهيب من عواقب فسادها. لم نعد أمام نخبة تسيء استعمال السلطة فحسب، بل أمام سلطة بلا دولة. 

السابق
قوى الأمن تتوجه للمتظاهرين: لوقف الاعتداءات على العناصر وعدم الإقتراب من السياج الشائك!
التالي
بالفيديو.. اتساع دائرة المواجهات نحو شوارع الداخلية من أسواق بيروت وحالات اغماء في صفوف المتظاهرين!