روسيا في ليبيا.. حيرة الطاقة والجغرافيا

قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر

لم يستطع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر حسم معركته العسكرية بالسرعة المطلوبة. غلبه عامل الوقت، الذي استثمرت في مختلف الأطراف المعنية، وعلى أبواب العاصمة طرابلس، أعادت القوى المتصارعة خلط الأوراق الإقليمية والدولية المتبعثرة فوق الرمال الليبية بهدف إعادة ترتيبها.

أعاد الصراع ما بين بنغازي وطرابلس، وعليهما، تموضع خارطة التحالفات الإقليمية والدولية، وفرض على واشنطن المنسحبة من ليبيا بعد حادثة قتل سفيرها في بنغازي إلى الحذر من شهية روسية تستغل غيابها لملء الفراغ في مناطق حيوية تؤثر على استقرار منطقة شمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط.

فالماكينة الدبلوماسية الروسية تعمل بكل قوتها من أجل فرض مصالحها، مستفيدة من عدة عوامل أتاحتها صراعات الأطراف الإقليمية وتراجع الدور الأميركي والارتباك والانقسام بين الأوروبيين حول شكل الحل في ليبيا.

تقبض أنقرة على الجرح الروسي، الذي ينزف استراتيجيا في سوريا ولو تدريجيا منذ 2015

وتحاول الدبلوماسية الروسية توظيف هذه العوامل لمصلحتها بالرغم من خارطة حلفائها المعقدة، التي إما أن تتيح لها إمكانية التحكم بالنسبة الأكبر من الورقة الليبية أو أن تضطرها إلى الانحياز بشكل أكبر لأحد الأطراف، وخسارة امتيازها ونقطة قوتها في ليبيا المتمثلة بقدرتها على التواصل مع كافة الأطراف المعنية.

هذا التواصل الروسي مع كافة الأطراف هو ذو وجهين؛ الأول إمكانية موسكو جمع كافة أطراف الأزمة على طاولة واحدة في موسكو (بالرغم من فشلها في التوصل إلى نتيجة ممكنة تساعد بالوصول إلى حل سلمي)؛ أما الثاني اعتقادها أنها قادرة على إرضاء كافة الأطراف المتناقضة، ما قد يؤدي إلى تراجع مكانتها وقدرتها على الإقناع نتيجة لموقفها غير الواضح من الدور التركي.

وهنا في التحديد، أي الموقف الروسي من الدور التركي، شعرت عدة جهات إقليمية بالقلق. فهذا الأمر يثير اعتبارات استراتيجية لدى هذه الجهات المعنية مباشرة بالأمن القومي لدول شمال أفريقيا، ويثير ارتياب هذه الأطراف أيضا من مداراة موسكو للحسابات التركية في لبيبا، واعتبارها جزءا من الحل وشرعنة تدخلها، ما سيتسبب بخلل في توازنات المصالح بين الأطراف الفاعلة، ويعزز شرعية حكومة الوفاق من خلال فرضها طرفا أساسيا في الحل، وهذا سيؤدي حتما إلى اعتبار الاتفاقيات التي أنجزتها مع أنقرة شرعية ورسمية وخصوصا في ما يتعلق في شؤون الطاقة.

من البوابة الليبية، أقحمت موسكو نفسها أكثر في الصراعات على حوض البحر المتوسط وثرواته. وهذا الصراع سينتج أزمات فرعية شديدة التعقيد، خصوصا في علاقة روسيا التقليدية مع دول مثل اليونان ومصر، خصوصا وأن موسكو تعمل على استعادة دورها السوفياتي في هذه المنطقة، حيث يدخل العامل الديني والثقافي في العلاقة مع اليونان وقبرص، الذي فرض انحيازا إلى جانب أثينا في مواجهتها مع أنقرة في نهاية التسعينيات، واستعداد موسكو تسليمها منظومة دفاع جوي متقدمة.

كذلك تنشط موسكو، منذ خلع نظام حسني مبارك وحتى وصول السيسي إلى السلطة، بهدف إحياء صلاتها وعلاقتها الاستراتيجية السابقة مع القاهرة التي تلقت دعما روسيا واضحا بعد سقوط نظام محمد مرسي، مقابل موقف واشنطن المتذبذب من تلك الأزمة.

عمليا تجتمع اليونان ومصر، ومعهما إسرائيل وقبرص في تحالف اقتصادي حول استثمار الثروات الطبيعية في البحر المتوسط، وكيفية نقلها إلى الأسواق العالمية عبر اليونان. ومن أجل حماية هذا التحالف وقفت أثينا بشدة بوجه الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية بين أنقرة وطرابلس نهاية عام 2019 التي أتاحت لأنقرة الاستثمار المشترك مع طرابلس في المياه الإقليمية الليبية التي حددت بمسافة 370 كلم، وهو ما أثار حفيظة عدد من دول البحر المتوسط، وما تعتبره اليونان عامل ضغط إضافي من أنقرة على مصالحها الاقتصادية، كما تربطه بقرار تركيا التنقيب عن الطاقة في المياه الإقليمية لجمهورية قبرص التركية غير المعترف بها دولياً.

اقرأ أيضاً: تنسحب أمريكا.. تسيطر روسيا والأسد يتفرج!

من البوابة الليبية، أقحمت موسكو نفسها أكثر في الصراعات على حوض البحر المتوسط وثرواته

وعليه تقبض أنقرة على الجرح الروسي، الذي ينزف استراتيجيا في سوريا ولو تدريجيا منذ 2015، واقتصاديا في أوكرانيا منذ العقوبات الأميركية والأوروبية نتيجة احتلال القرم 2014، ما أجبر الطرفان على جملة تفاهمات وخلق ديناميكية جديدة في التعامل بينهما، تقوم أساسا على حماية مصالحهما الاقتصادية المشتركة والوصول إلى تسويات مرضية في القضايا السياسية.

وتضغط موسكو في إدلب من أجل التوصل إلى حلّ كامل في سوريا، لكن الحل أصبح محكوما بالشروط التركية، التي تستخدم ورقة إدلب لمقايضتها وربطها بخط السيل التركي، الذي أصبح أحد أهم المنافذ الأساسية للغاز الروسي نحو الأسواق العالمية، بعد أن فرضت واشنطن عقوبات على خط السيل الشمالي 2 الذي يمر من تحت بحر البلطيق وإلى غرب أوروبا وتستفيد منه برلين بشكل أساسي.

بين الطاقة والجغرافيا، تسقط موسكو مجددا في حيرة الاختيار، وهي أسيرة عُقد الماضي التوسعية وإمكانياتها المحدودة على التوسع مجددا، فتقع مجددا رهينة في شباك طامعين كثر، يأخذون بشمالهم ما يعطونها بيمينهم، ولكن يبقى السؤال هل ستعوض في برلين ما خسرته في موسكو، أم أنها ستسقط في مواجهة شيطان التفاصيل، فتصبح نتائج اتفاق برلين شبيهة بنتائج اتفاق أستانة الذي عزز الدور التركي بدلا من إضعافه.

السابق
حكومة الجبنة وثورة الجياع!
التالي
ماذا وراء تأجيل فرنجية لمؤتمره الصحافي اليوم؟