شعار «سلمية سلمية» أكثر «ثورية» بأشواط من «العنف الثوري»

غسان صليبي

مناسبة كتابة هذا النص هو ما حصل ليل 14 كانون الثاني في شارع الحمراء، من مواجهات وأعمال عنف بين المتظاهرين وقوى الأمن، ومن تكسير لواجهات بعض المصارف. وإذا كانت هذه الممارسات العنيفة ليست الأولى من نوعها منذ بدء الإنتفاضة، إلاّ انها طرحت بحدّتها وإتساع رقعتها تساؤلاً حول سلمية الإنتفاضة اللبنانيّة. وقد ترافق هذا التساؤل مع تزايد الكلام على ما يسمّى “العنف الثوري”، كخيار وكأسلوب مغاير للأسلوب السلمي الذي طبع الإنتفاضة اللبنانيّة.

هذا النص ليس نقاشًا لنظرية “العنف الثوري” بحد ذاتها، ولا مقارنة بينها وبين التغيير الثوري السلمي.

إقرأ أيضاً: بعد إعتداء ليل أمس..صحافيون يقطعون طريق الصنائع بالكاميرات!

انه دعوة إلى نقاش منطق “العنف الثوري” وموقعه داخل الإنتفاضة اللبنانيّة, وفي هذا الإطار أطرح الملاحظات الآتية:

  1. اتّصفت الإنتفاضة اللبنانيّة بسلميتها وبهتافاتها “سلمية سلمية” وبإصرار المنتفضين في كل المناطق على الحفاظ على هذه الصفة في وجه أشكال متعدّدة من العنف الرسمي وغير الرسمي الذي تعرّضت له. في هذا المعنى يأتي منطق “العنف الثوري” مخالفًا للرأي العام السائد داخل الإنتفاضة. وهو رأي عام لم يتشكّل من خلال مقارنة بين فعاليّة الأسلوب السلمي والأسلوب العنفي، بقدر ما تشكّل من خلال موقف أخلاقي مبدئي، ربما رسّخته معاناة اللبنانيين الطويلة مع العنف وتفاديهم لكل ما يمكن ان يعيدهم الى ظروف الحروب الأهلية أو غيرها. فهل يريد مناصرو “العنف الثوري” ان يخرجوا عن هذا التوافق العام داخل الإنتفاضة، وهل يحق لهم ذلك ديموقراطيًّا، إذا صحّ التعبير؟
  2. – ليس “العنف الثوري” عنفًا لذاته وليس إعتناقًا مطلقًا للعنف. مثله مثل أي عنف يحتاج دائمًا الى تبرير، الى إيديولوجيا تعطيه صدقيّة عند مناصريه وإعدائه على حدّ سواء. إيديولوجيا “العنف الثوري” هي وظيفته “الثورية” أي قدرته على تحقيق أهداف الثورة، في إطار “نظرية ثورية” متّفق عليها أو تجري بلورتها من خلال الممارسة. نحن في الإنتفاضة بعيدون كل البعد عن توفّر هذه الشروط التي تجعل عنف المنتفضين عنفًا ثوريًّا. على العكس من ذلك. فالإنتفاضة تفتقر الى خطة عمل بشكل عام، وكذلك مناصرو “العنف الثوري”. وهذا ما جعلها تنكفئ في الأسابيع الأخيرة. وقد جاء “العنف الثوري” في شارع الحمراء في 14 كانون الثاني، في سياق الغضب المتجدّد عند المنتفضين وليس في سياق تنفيذ خطّة تغيير جرى الإتفاق عليها. في هذا المعنى يصبح “العنف الثوري” ذا وظيفة عكسيّة أشبه “بالتنفيس” عن الغضب، على اهميته على المستوى الشخصي.
  3. من خصائص هذا “العنف الثوري” انه موجّه ضدّ القوى الأمنية وضدّ المصارف والمصرف المركزي بشكل خاص. في حين انه سلمي تماماً مع أركان السلطة السياسية أو مع اتباعها الذين اعتدوا على المنتفضين وساحاتهم في مناسبات عدّة. يجري عمليًّا توجيه “العنف الثوري” في إتجاه بعض مسبّبات الأزمة، من مثل المصارف والمصرف المركزي، أو في إتجاه المكلّفين من السلطة السياسيّة الحفاظ على الأمن. هذا العنف لا يطال مركز القرار السياسي الذي من مسؤوليته لجم سياسة المصارف ومصرف لبنان، أو ضبط قمع القوى الأمنية. في هذا السلوك تعديل جوهري في مسار الإنتفاضة وإبتعاد جذري عن مقولة “كلن يعني كلن” من خلال تحييد السلطة السياسيّة. هنا أيضًا مخالفة صريحة للرأي العام السائد داخل الإنتفاضة اللبنانيّة. الأخطر من ذلك انه يتقاطع ولو من دون قصد، مع التوجّه السياسي للأكثرية النيابيّة التي عارضت صراحةً التوجهات السياسيّة للإنتفاضة اللبنانيّة الموجّهة ضدّها، وحاولت منذ البدء توجيهها نحو المصارف والمصرف المركزي. كما ان توقيت مماسة “العنف الثوري” في 14 كانون الثاني، وبمشاركة علنية من أتباع القوى السياسيّة، تزامن مع حاجة هذه القوى للضغط على الرئيس المكلّف، حسان دياب، اما لإقصائه وإما لجعله يخضع لشروطها.
  4. هذا التحييد للسلطة السياسية عن “مرمى العنف الثوري”، يمكن تلمّسه بسهولة في ما جاء في جريدة “الأخبار” المؤيّدة لـ”حزب الله”، في اليوم التالي من احداث 14 كانون الثاني: “المنتفضون يرون في مصرف لبنان أصل البلاء الحالي الواقع عليهم. سياسات “النظام” الذي نفّذها حاكمه رياض سلامة أوصلت معظم السكان الى حدود الإفلاس. ولأجل ذلك لا يمكن تنفيذ أي حل لا يكون على رأس بنوده رحيل رياض سلامة ومحاكمته ومعه جمعية المصارف بأعضائها كافة”. اللافت في هذا النص انه يقرّ بأن المصرف المركزي “ينفّذ” سياسات النظام، لكنّه يصّر مع ذلك على تحميل الحاكم المسؤولية القضائية والقانونية! انه تغاضٍ مفضوح عن مسؤولية السلطة السياسيّة والتفتيش عن “كبش محرقة” من خارجها.
  5. لا يمكن “العنف الثوري” ان يحيّد السلطة السياسيّة، فهدفه الأسمى هو الإستيلاء على السلطة بالقوة اذا لزم الأمر. المنتفضون يعرفون، ومناصرو “العنف الثوري” يعرفون أكثر منهم، ان ذلك يتطلّب مواجهة عنف السلطة، أي قواها العسكرية الرسمية من جهة، وقواها العسكرية غير الرسمية من جهة ثانية، وتحديدًا “حزب الله”. وهذا، على ما اعتقد، لا يفكر فيه أحد من المنتفضين أو من مناصري “العنف الثوري”. عمليًّا اذاً، يجري إستخدام “العنف الثوري” بدون أفق ثوري. وهذا جل ما تتمناه السلطة السياسيّة. بحيث يصبح إستخدام المحتجّين للعنف حجة قوية لقمع الإنتفاضة، والقضاء عليها.

من هذا المنظور يبدو شعار “سلمية سلمية” أكثر “ثورية” بأشواط من “العنف الثوري”.

ركاكة منطق “العنف الثوري” داخل الإنتفاضة اللبنانيّة، وفي إطار الظروف المحليّة والاقليمية غير المساعدة، لا يبرّر على الإطلاق العنف الذي تمارسه القوى الأمنية ضد المحتجين، ولا العنف الأشرس والأذلال الذي تمارسه المصارف على المودعين. لكن هذين النوعين من العنف يحتاجان الى أساليب في المواجهة لا تدخل في نطاق “العنف الثوري” بل في نطاق “النضال اللاعنفي”. فالدفاع عن النفس قضية اساسيّة، يجب على الإنتفاضة تكريس مبدئها وتطوير أدواتها. الا اذا أدى التطور العام للاوضاع الى تغليب منطق “العنف الثوري” داخل الانتفاضة، واكتسابه بعدا سياسيا ثوريا.

السابق
بالفيديو.. تحطيم واجهات المصارف في الحمرا!
التالي
مرشح «أمل» لوزارة المال.. من هو الدكتور غازي وزني؟