بيروت التراثيّة في قبضة توقيع ميشيل ‏إدّه

الكاتب جهاد الزين

عندما صعد ميشيل إدّه وحيدًا إلى سيّارته، وكان وزيرًا لشؤون الثقافة والتعليم العالي في حكومة رفيق الحريري، أشار إلى سائقه أن ينطلق برويّة في شوارع بيروت من رأس بيروت إلى الأشرفيّة، سأله السائق على عادته إلى أين نذهب معالي الوزير فأجابه إلى لا مكان سنتجوّل فقط، وعندما أطلب إليك أن تتوقّف أمام بناية توقّفْ وحاولْ ألّا تلفت الكثير من الأنظار. أخذ ميشيل أدّه يقف أمام كل بناية تراثية تلفت، سواءٌ من عهد الانتداب الفرنسي أم من العهد العثماني. وكانت حصيلة الجولة أنّه سجّل بقلمه عناوين ومواقع ثمانمائة بناية وبيت تراثيّة في بيروت. ربما استغرق ذلك عدة جولات وربما ساهم في الوصول إلى هذا الرقم ( ال800)اقتراحات من بعض أصدقائه. فبعد هذا السجل لم يعد ممكنا لأي رخصة بناء يسبقها هدم القديم أن تحصل من دون إذن وزارة الثقافة.

اقرأ أيضاً: ثورة لبنان تدخل التاريخ

لا أعرف الآن كم بقي من هذه البنايات الثمانمائة الموصوفة تراثيّة. جرت مياه كثيرة في مكاتب الوزراء وبينهم بعض وزراء الثقافة، فأُلغي التصنيف عن عدد كبير من البنايات، كي يتاح قيام إنشاء بنايات جديدة مع ما رافق ذلك من شبهات فساد ورشوة.
كان ميشيل إده وكأنّه يمسك بكفّيه بقايا بيروت التراثيّة، وعاش طويلًا ليشهد كيف ضُرب مشروعه. النقطة الجوهرية هي أنّ التوصيف من قبل وزارة الثقافة يعني وضع عائق أساسي لمنع تهديم البناية التراثيّة.

كم هُدمت بيوت وبنايات في العقود الأخيرة كان البيارتة يشتهون المرور قربها، وكم ماتت معها حكايات شيّقة لشخصيّات وعائلات عايشت صعود المدينة في أوائل القرن التاسع عشر، من مدينة صغيرة على الشاطىء السوري، أو على “بحر الروم”، إلى مدينة رئيسيّة على البحر الذي سيصبح الأبيض المتوسّط.
أخبرني مؤرّخ بيروت عبد اللطيف فاخوري أنّ التدمير الذي طال المقبرة السنتيّة، ألغى مقابر كبارٍ عثمانيّين دُفِنوا فيها.

ربّما ماتت بيروت ميشيل إدّة عدّة مراتٍ خلال حياته بسبب ما شهدته هذه المدينة “المنكوبة” من حروب أهليّة، عاش ميشيل إدّه اثنتين منها، ولكنّه خسر في السلم الأهلي، بسبب فجاجة الثقافة الاجتماعيّة العامّة والفساد، ربما ذروة بيروتاته وهي بيروت الثمانمائة بناية.
‎إنّ ابن البرجوازيّة اللبنانيّة الذي كانه ميشيل إدّه وكان معه مهمومًا بالنشاط العام السياسي والثقافي، وختم حياته كأحد أكبر الأثرياء الموارنة المتبرّعين لمؤسّسات مختلفة، ولاسيما المارونيّة منها، يستحقّ أن يقام باسمه صرح ثقافي متعدّد الأنشطة في أحد تلك البيوت التراثية المتبقّية في بيروت، قبل أن يلتهمها اللوبي العقاري الشهير في المدينة بشراهته التي لا تُحتمل.

مات ميشيل إدّه وما زال ما تبقّى من بيروت التراثيّة في قبضة توقيعه حتّى بعد وفاته. لسنا أكيدين أنّ اللوبي العقاري سيُهزم أمام ذلك التوقيع، فهذا واحد من أنظف وأقوى التواقيع التي شهدها تاريخ لبنان الحديث، لكنّ المؤامرة عليه مستمرّة بنايةً بناية، وبيتًا بيتًا.

ميشيل إدّه أتخيّله الآن يقاتل بسلاحه الأبيض ونُكاتِه الشهيرة، وأتخيّل بعض خلفائه في المجتمع المدني يتابعون هذه المعركة، رغم أنّ العديد من جمعيات الحفاظ على البيئة والتراث، ظهرت صرخاتهم جعجعة فارغة، إمّا بسبب ارتباطهم هم أنفسهم بشبكات فساد، وإمّا أنّهم مجرّد أسماء بلا أجسام حقيقيّة ينقصها وزن ميشال إدّه وإيمانه العميق كمسيحي وكلبناني.

السابق
«وصية».. إقامة حدّ العمر!
التالي
بعد دعوى بري.. مراسلا «الجديد» يلتزمان الصمت امام القاضي!