ثورة تأخذ الحرية بجدية

الاحتجاجات في لبنان

ثمة وجهتان في تفسير وفهم الحراك الحالي في لبنان. هما وجهتان لا تختلفان في منهجية التفكير فحسب،  بل تختلفان في المسلمات ومنطلقات التفكير، وحتى في معنى الوطن والدولة والشعب والولاء وحتى الهوية.

لنبتعد من محاكمة النوايا، أي توصيف أيٍّ من أصحاب الوجهتين بالخبث أو الطيبة، بالضلال أو الهداية، بالذكاء أو السذاجة، بالوطنية أو العمالة، ولننظر في دلالة ومؤدى كل من الوجهتين.   

إقرأ أيضاً: صرخة الراعي ضدّ التأخير الحكومي على طريقة « كلن يعني كلن» !

الوجهة الأولى ترى أن الحراك هو مبادرة مجتمعية أصيلة، وحالة وعي متقدم، بخاصة لدى جيل الشباب، في التصدي لطبقة سياسية حاكمة  أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية بل ألقته بعقل لا مبال وثقة متهورة إلى الهاوية. حراك بدأ احتجاجياً، لكنه ولد فرصة لمكونات المجتمع اللبناني بالتعرف إلى بعضهم في الساحات، ويلمسوا أن ألمهم ومعاناتهم وآمالهم وتطلعاتهم هي واحدة ومتطابقة. حراك نبههم إلى مجال وجود وحياة رحب أوسع من خصوص المكان والقرية والعائلة والطائفة، وكشف لهم حجم اللصوصية الذي يمارس بحقهم لا للمال العام فحسب، بل لوطنهم وهويتهم ومصائرهم. وكأن المجتمع اللبناني يكتشف نفسه من جديد، ويتعرف إلى إمكاناته الهائلة بعد تقطيعه أشلاء طائفية  وإرباً حزبية.  

لا شيء كان مخططاً من قبل، لكن الحراك ولَّد ديناميته الذاتية ومجال تواصل مجتمعي مبتكر وجدليات فكر ووعي حية، جعلت من الحراك ظاهرة أكبر من رغبة بتحسين الوضع المعيشي، إلى عزيمة بخلق شروط حياة مختلفة. أي انتقلت من الاحتجاج إلى المطلب السياسي لتغيير ترتيبات الحاضر الصنمية، وإلى رؤية تنصب على صناعة قيم جديدة وقواعد انتظام عام تنشيء لأول مرة علاقة سوية بين الدولة والمواطن.

تفسير الحراك إنطلاقاً من التفاعلات الداخلية، يعني أن هنالك إرادات حرة ووازعاً باطنياً ووعياً ذاتياً تشكل جميعها دافعاً وخلفية لأي نشاط أو مطلب أو تضامن.  يعني أن الأحداث الداخلية محكومة لشبكة مصالح وخريطة توزيع قوة وقواعد لعبة سياسية ومبادئ مشروعية وأسس ولاء تشكل بمجموعها محدداً وضابطاً للسلوك السياسي وخطاب السلطة وممارسات المعارضة. يعني أن هنالك ذهنيات وثقافة ومستقرات وعي وبنى علاقات بعضها تقليدي وبعضها الآخر مستحدث هي بمثابة فاعليات خلفية وبواعث ضمنية لما يطفو على السطح من أحداث وتدافع وغلبة وهزائم وانتصارات. يعني أن هنالك منظومة قيم ومعنى وفهم للحياة والوجود والعالم هي بمثابة الشروط العميقة والدفينة لكل مجال وواقع وانتظام عام.

جميع هذه العناصر والمكونات هي أمور  بنيوية للكيان اللبناني وتكوينية لمجتمعه، لكل منها نمط حضور منفرد وطبيعة متميزة ومُخرجات مختلفة وتموضع كامن، تفعل فعلها ويترتب عليها آثارها، تصنع بمجموعها الواقع القائم، سواء أكان في منطقه الداخلي وشبكة علاقاته وموازين القوى فيه وسياق أحداثه.

أهمية هذه المقاربة، أنها تعطي للمعطى الداخلي، الظاهر والخفي والكامن فيه، أساساً لفهم وتفسير ما يجري من أحداث، وبالتالي التمكن من تحديد مواضع العطب أو الصحة، مكامن القوة والضعف. هي منهجية تساعد على تعميق فهم الذات، الفردية والجمعية، والتعرف إلى مسلكيات جلية، ونشاطات خفية تعمل وراء المشهد لا يقل أثرها وخطورتها عما يطوف على السطح.

أهم شيء هذه المقاربة، أنها تصوب عملية التغيير والإصلاح، باتجاه إعادة بناء الداخل، والسعي إلى محاصرة أو اقتلاع مكامن العطب الذاتي، واعتبار وجهة التغيير داخلية ونحو إعادة بناء الذات، وتصوير النهضة والإنقاذ بأنها عملية خلق مقومات قوة وفاعلية وحيوية في جوف الواقع المعيش.  هي مقاربة لا تقتصر على توفير أدوات فهم وتشخيص، بل تصوب وجهة الأداء وتسدد منطلقات التغيير والإصلاح وحتى الثورة المحتملة.

بل يمكن القول أن نقطة ارتكاز هذه المقاربة، أنها تقوم على أصالة الإرادة والخيار الحر والواعي في تحريك الواقع وتغييره وإعادة بناءه.  بالتالي لا يعود الواقع محكوماً لحتميات وقدريات صلبة، بل تعتبر الإرادات المتآزرة طاقة كسر لأية حتمية أو قدر مصطنع.  

هذه المقاربة لا تغفل المؤثرات الخارجية، لكنها تعتبر أن التأثير الخارجي يحصل  على أسس داخلية، وبناء على مدى مناعة أو هشاشة الداخل في الاستجابة للتوجيه أو التآمر الخارجي. وتكون بالتالي مواجهة العنصر الخارجي أو استدعائه، بناء على توفر قابليات أو أطر وعي ومستقرات ثقافة تحجب وتصد النفوذ الخارجي أو تسهل سطوته في الداخل.  

أما الوجهة الثانية، فإنها تفسر الأحداث الداخلية وتفاعلاتها ومحركاتها إنطلاقاً من موازين القوى الإقليمية والدولية وتموضعات الداخل أزاء المحاور والاصطفافات الخارجية.  بالتالي، يصبح الداخل بكل مكوناته ومحدداته الظاهرة والعميقة، عناصر هامشية وسطحية وفاقدة لأي قيمة وسببية في صناعة الواقع وتغييره. هي عناصر تابعة وثانوية وهشة، تتكيف مع أي وضع وتموضع خارجي، وبحسب النفوذ الخارجي الذي يملي إرادته وينشر سلطته في مفاصل الحياة العامة.

هي وجهة ترى الداخل يتلون بلون من يسطو عليه، ولا تقيم اعتباراً للإرادات الحرة الواعية. فالأفراد والجماعات مجرد دمى، وكائنات مجوفة وفارغة، قد نحسن الظن بنواياها، لكنها لا تعي فعلها ولا تدرك خطورته ولا تقدر آثار آفعالها ولا تتوقع نتائجه. 

لهذا السبب، بحسب هذه الوجهة، لا وجود لرأي عام، ولا قيمة لأي نقاش داخلي أو إجماع أو إرادة عامة، ولا معنى لأي فكر أو رؤى داخلية، فهي مجرد أدوات لتسويغ أو معارضة نفوذ دولة خارجية، لفضح أو تغطية أية عمالة داخلية. 

وفق هذه الوجهة، لا وجود لمجتمع، بل قطعان وحشود تائهة تحتاج إلى قائد يسوقها، وزعيم يفكر عنها ويقرر مصيرها، ويحدد مصلحتها. بالتالي فإن الساحة الداخلية هي ساعة صراع قوى خارجية على ساحة داخلية، هي ساحة صراع أيديولوجيات ورؤى صُنِّعت وعُلِّبَت في الخارج، ويتم تسويقها في الداخل.

وفق هذه الوجهة، لا معنى للحوار والتواصل والنقاش العام والتكامل المجتمعي، بل هنالك عدو وصديق، منهزم ومنتصر، غالب ومغلوب عميل وأصيل، وطني وخائن. أي وجهة لا ترى التنوع غنى بل لعنة، وتنظر إلى الساحة السياسية على أنها لعبة مصير إما النصر أو الموت المشرّف، وإلى الاختلاف فعل تآمر ومحاولة انقلاب على ترتيب سياسي ومكاسب محققة للإتيان بمنظومة مصالح ومكاسب بديلة.

وجهة ترى التبعية أصل، والعمالة ممدوحة في مكان ومذمومة في مكان آخر، والصراع أساس قواعد أية لعبة، والحياة السياسية قواعد تحريك دمى بشرية خاوية، وعناصر الداخل أدوات تستعمل وتستغل وتُوظف. 

بين الوجهتين فارق جوهري، لا يقتصر على الإختلاف في وجهة النظر، بل على منطلقات صناعة الواقع، وقيمة الحياة ومعنى الإنسان وحقيقة الوجود.

إنه الفارق بين وجهة تأخذ الحرية الإنسانية بجدية، وترى فيها بداية وغاية الحياة، ووجهة تقايض هذه الحرية بفائض القوة. 

السابق
صرخة الراعي ضدّ التأخير الحكومي على طريقة « كلن يعني كلن» !
التالي
من نقابة أطباء الأسنان.. إنجاز جديد للثورة!