رسالة إلى الرئيس بري

نبيه بري

رسالتي ليست موجهة إلى شخصك ، بل لما تمثله من أعلى موقع تشريعي في البلاد، وما ترمزه من حركة سياسية عريقة، انبثقت من ألم الناس وفقرهم وتهميشهم، وسعت جاهدة عبر مؤسسها الإمام موسى الصدر، إلى تحقيق مواطنة شاملة وحاضنة تتوزع مسؤولياتها كما منافعها على جميع اللبنانيين بالتساوي.

إقرأ أيضاً: متى ستفتح المصارف اللبنانية أبوابها؟

دولة الرئيس،

لم يكن الحرمان أو الإقصاء المتعمد الذي لحق بشيعة لبنان، ذريعة لدى مؤسس حركة المحرومين، لاستثمار نقمة الناس وتعبئة المحرومين لمجافاة الوطن والتمرد على الدولة، أو لتعميم أيديولجيات تعوض الشعور بالضعف أو الاستضعاف لكنها بالمقابل تسوغ التبعية والولاء لبلد آخر. بل استطاع الإمام الصدر تحويل الحرمان إلى طاقةِ إيجاب لا سلب، دافعِ ولاءٍ للوطن لا الاغتراب عنه، مسعى لتصحيح الخلل الداخلي وإطلاق حملة إصلاح شاملة للنظام لا تدميره أو تسخير مقدراته، إصرارٍ على الاندماج في النسيج المجتمعي لا تضخيم هوية ترتاب بكل من حولها.

دولة الرئيس،

لم تغب المقاومة يوماً عن وجدان الإمام الصدر، ولا عن التزاماتك المبدئية، لكنها كانت ضمن مشروع هادف إلى إنضاج مشروع الدولة القادرة حصراً على حماية مواطنيها ضد أي اعتداء. لذلك قاوم الإمام الصدر مثلما قاومتم أنتم (وكان ذلك مكلفاً لكما للغاية) كل المحاولات في جعل عنوان المقاومة واجهة لمشاريع مغامرة مرتجلة أو مرتهنة. وما رَفْضُ الإمام الصدر تحويلَ الجنوب ثكنة عسكرية إضافة إلى مطالبته بنشر الجيش على الحدود إلا بمثابة موقف مبدئي ورمزي بأن تكون الدولة سنداً لأي فعل مقاوم، وللتأكيد على أن المقاومة ليست بديلاً عن الدولة بل هي لسد فراغاتها وتعثراتها وتدعيم حضورها وإعادة بعثها من جديد.

دولة الرئيس،

أيدتم ودعمتم الثورة الإسلامية في إيران، مثلما فعل كل إنسان شريف وتواق للحرية. لكنكم كنتم صارمين في التصدي لمحاولات التلاعب الإيراني بمكون شيعة لبنان الثقافي ومصيره السياسي وسلخه عن عمقه العربي ، واستثمار هذه الثورة ظروفَ الاحتلال القاسية في لبنان، بجعل المقاومة وسيلة لخدمة استراتيجيات ومعارك كونية وحتى مذهبية، تبين لاحقاً باعتراف ضمني من أحد رموزها في لبنان، أنها كانت صبيانية ومتهورة. لا ننسى أن تصديكم هذا جعلكم هدفاً لهذه الثورة وعلى لائحتها السوداء، زُهق بإزائه مئات الضحايا.

دولة الرئيس،

نتفهم من دون أن نكون مقتنعين، تحالفكم الإنتخابي مع حزب الله، وحرصكم على تخفيض سقف الاختلاف السياسي معه إلى المستويات الدنيا، لغرض درء الفتنة بين الشيعة التي تظهر بوجوه متعددة، وربما لحماية ظهر المقاومة. لنتذكر أن التخويف من الفتنة كان ركيزة الاستبداد الأولى في التاريخ العربي: “سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم” (مقولة لعمرو بن العاص)، إضافة إلى أنه يعطل الحيوية المجتمعية داخل المكون الشيعي في ممارسة الاختلاف ويلغي خياراته ويصادر إرادته الفعلية في اختيار ناخبيه.

ولعل الحرص المبالغ على حماية المقاومة أدى إلى إساءة استعمال هذا العنوان، سواء أكان في الداخل بإلغاء الحياة الديمقراطية وتخريب الحياة السياسية وتعطيل المجلس النيابي لأكثر من عامين لفرض رئيس غارق في نرجسيته الذاتية المنفصمة عن الواقع، إضافة إلى اعتماد عنوان المقاومة مادة تأليه للأشخاص وأداة استبداد لقمع كل مخالف وتخوين كل حريص على تصويب وجهة وخيارات المقاومة، أم كان في الخارج بزج هذا العنوان في معارك تناقض مبدأ المقاومة، وتخريب علاقة لبنان وشيعته بالمجتمع الدولي ومحيطه العربي الذي حرصتم مثلما حرص سلفكم الإمام الصدر على اعتباره بعداً جوهرياً للهوية الشيعية نفسها ومدى مصالح حيوي للبنان. لنتذكر أن المقاومة مثل محبة جبران، لا تُمتلك، ولا تحصر بتنظيم خاص، ولا تُفوِّضُ أحداً التحدث بإسمها أو تقرير مصيرها. هي أكبر من حزب وحق عام لكل أبناء الوطن.

دولة الرئيس،

ندرك تماماً تخوفكم من الفراغ السياسي أو الدستوري الذي قد تتسبب به الأحداث. لكن الفراغ لعبة يجيد لاعبوها ابتزاز الحريصين على تجنب البلاد من الدخول في الفوضى بحكم أنهم يفكرون بذهنية: “من بعدي الطوفان”. أليست المخالفة الفاضحة والدائمة للدستور، وتعطيل الحياة السياسية، والتلويح الضمني حيناً والمباشر حيناً آخر باستعمال فائض القوة في الداخل، وتجاهل أصوات المحتجين على العهد الفاسد والذين هم الشريحة الأكبر من الشعب اللباني، ويتم تخوينهم واتهامهم بالعمالة الأجنبية، أليس كل هذا فراغاً فعلياً وفوضى متحققة، هما أخطر بكثير من الفراغ الشكلي المنصوص عليه في الدستور. بل ألسنا أمام دستور آخر فعلي وغير منصوص عليه، تحدد قواعده ومباحاته ومحذوراته قوى الأمر الواقع، حيث بتنا أمام دستور بديل عن الدستور الرسمي المنتهك في أكثر بنوده.

دولة الرئيس،

تمت فبركة عهد حالي، بطريقة مخالفة لأكثر الأصول الدستورية سواء أكان بفرض رئيس للجمهورية، أم حياكة قانون انتخاب على قياس مُشرِّعيه، أم تأليف حكومة هجينة ومتناقضة، ما دفع البلاد إلى الهاوية القاتلة. كنتم من المعترضين على هذا العهد، لكن الحذر من مآلات الأمور، ومن باب سد الذرائع، قبلتم به على مضض. لكن ألم تصل الأمور إلى ما هو أبعد وأخطر بكثير مما كنتم تتخوفون وتحذرون منه. فالعبرة بما هو متحقق وفعلي ومتيقن الوقوع لا بما تنص عليه البنود والأصول. أليس صراخ الناس في الشارع وألمهم ووجعهم وفاقتهم وانسداد أفق شبابنا وخوفهم على المصير وازدياد نسبة البطالة وأعداد المهاجرين بشكل مخيف، هذا فضلاً عن هاوية الانهيار الاقتصادي الذي سقطنا فيه بالفعل إلى القاع. أليس كل ذلك أدلة قاطعة، لا مجرد مؤشرات، على فشل هذا العهد، وسقوط مشروعيته، وضرورة معالجة الأزمة الحالية من الجذور، حيث الخطوات تؤخذ بما يناسب قوة الأزمة، باقتلاع أسبابها وأصولها، لا بطريقة الترميم والتلميع، والتي مع حسن الظن بها، استغباء للناس واحتقارهم وازدرائهم.

دولة الرئيس، ما يحصل الآن في الشارع أصيل وحقيقي، ويختزن روحاً جديدة ومشرقة، عابرة للطوائف، جاهزة للخروج من طائفيتها، وصنع مصيرها، وإنتاج ديمقراطية حقيقية لم نشهد منها سابقاً سوى هزليات انتخابية ركيكة. روحاً تعبر بنا إلى هويات جديدة وصور علاقات مبتكرة، ومؤهلة لإبداع قيمها. حراك، لا أقول عنه ثورة، كي لا أقع في فخ الأدلجة، لكن أقول أنه بداية فعلية، في خط مسار طويل، لانبثاق جمهورية ثالثة، تؤسس لعقد اجتماعي جديد، لا على أساس الماضي، بل على أساس المستقبل، يكون فيها الإنسان الحر والكريم محور فلسفته وأساس أية مشروعية وصلاحية أي فعل.

التهم والإساءات التي توجه إلى هذا الحراك، ليست فقط جريمة بحق الوطن، بل خيانة لشعب يصر على الحياة ولو بالموت وقوفاً. هي تهمٌ باتت بضاعة رديئة يروجها كل مستبد نرجسي، تعوَّد أن يحشد الناس كالقطعان لتهتف بحياته.

دولة الرئيس،

ما يحصل الآن يضعنا أمام مفترق طرق: إما إبقاء قواعد اللعبة التي قد تغير الأشخاص، لكن تعيد إنتاج نفس السلطة، بآلياتها ومنطقها ومحاصصاتها، وتسهم كل مرة في إحداث كوارث لا حصر لها في البلاد. وإما العبور إلى أفق جديد بذهنية مبتكرة، لابداع واقع جديد، بقواعد لعبة جديدة، قائمة على مشروعية شعب لا طوائف، خيارات فردية حرة وتضامنات طوعية واختيارية لا تضامنات عصبية أقرب إلى القبائل البدائية. هو أفق يشكل الحراك بدايته ويوفر دينامية مجتمعية وجاهزية جلية للعبور إلى الحياة الجديدة.

لم تعد القضية قضية من يؤيد المقاومة ومن يعارضها، بل السؤال موجه إلى المقاومين أنفسهم: أين تضع “المقاومة” ويضع المقاومون أنفسهم إزاء الحراك الشعبي الكاسح؟ هل باتت “المقاومة” شبكة مصالح ومكاسب وولاءات خارجية تدافع عنها بشراسة وضراوة ضد الغير حتى لو كان هذا الغير هو الشعب اللبناني نفسه.

ولم تعد القضية قضية خيار بين مشروع الدولة ومشروع اللادولة، بل قضية أية دولة نريد، وأي نظام نرتضي، بعدما تبين أن أكثر (كي لا نظلم في التعميم) حاملي مشروع الدولة لم يكونوا أقل هتكاً للدولة أو أقل فساداً من غيرهم.

كذلك لم تعد القضية قضية الاختيار بين المحاور الدولية، بين محور ممانعة أو المحور الأمريكي، بل قضية ماذا يريد الشعب اللبناني؟ ونوعية الحياة التي نريد أن نعيشها معاً؟

دولة الرئيس،

لو كان الإمام الصدر بيننا لتخيلته في مقدمة حشود هذا الحراك، ولسمعته يردد بأن ما يحصل هو ما كان يتمناه ويخطط له ويهدف إليه. لم يكن غرض الإمام الصدر مجرد تحصيل مكاسب للطائفة الشيعية، بل كان منطلقه الأساسي إنسانياً بالكامل، بدأ مع المحروم والمتألم والمهمش والمنبوذ والجائع والمريض، ليقول للجميع أن لا قيمة لوطن من دون هؤلاء، ولا شرعية لدولة نسيتهم. وهو منطلق تجده متدفقاً وبكامل زخمه في كل حناجر ووجوه هذا الحراك.

دولة الرئيس، لا تحرم هذا الحراك من جمهور حركة المحرومين، فهذا الحراك يعبر عن هواجس وتطلعات ساكنة وحية في قلوب كل واحد من هذا الجمهور. ولا تحرم هذا الجمهور من هذا الحراك، لأن مكانه الطبيعي معهم وبينهم وفي مقدمتهم.

السابق
قائد الجيش: إقفال الطرق ممنوع.. وقضية أبو فخر بيد القضاء!
التالي
تظاهرة في الضاحية.. لإقرار العفو العام!