طرابلس أيقونة الثورة: خرجت الى النور من ساحة النور

طرابلس
على مدى سنوات طويلة، قام الاعلام اللبناني بتكريس صورة سيئة وظالمة لمدينة طرابلس، خلاصتها انها مدينة أصولية ومنغلقة ومتشددة وكئيبة ينتمي اهلها الى القرون الوسطى. وقد ساهمت طبقتها السياسية الفاشلة في تعزيز خطف المدينة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وفي تحويلها الى صندوق بريد لإرسال الرسائل الدموية التي دفع اهلها ثمناً غالياً من دمائهم واقتصادهم.

قد يكون من نافل القول التذكير ان طرابلس قد صُنّفت على انها افقر مدينةٍ على حوض البحر الابيض المتوسط، وأن نسبة الفقر في بعض أحيائها قد بلغ 85 %، وأن كل مرافقها الحيوية (مرفأ، محطة قطار، مطار، مصفاة، ملعب اولمبي، معرض يعتبر تحفة معمارية صممه أشهر معماريي العالم في القرن العشرين البرازيلي “أوسكار نيماير”)
معطلة عن سابق تصور وتصميم من زعمائها ومسؤوليها الذين يستلذون بفقرها وتهميشها باعتباره طريقهم الأضمن لتجديد سلطتهم بثمنٍ بخس في زمن الانتخابات .

إقرأ أيضاً: السلسلة البشرية انطلقت.. لبنان «موحد» بأيدي أبنائه

ولكن ما ان اندلعت الثورة في 17 تشرين الاول، حتى خطفت طرابلس الأضواء بفضل ثورتها التي اتخذت من ساحة النور مركز تجمعٍ لكل الموجوعين والمتألمين والمنسيين والعاطلين من العمل. وفجأة اصبحت هذه المدينة التي تمّ العمل على إلصاق كل التهم فيها لتبرير معاقبتها وتشويه سمعتها وعزلها عن بقية الوطن، أيقونةً للثورة الشعبية اللبنانية، تتهافت اليها وسائل الإعلام، بعدما كسرت الصورة النمطية المكرسة عنها ، وحطمت بطريقة راقية وحضارية، الافكار المسبقة الظالمة والقوالب الضيقة التي حًشرت فيها لدهور من الزمن، واظهرت كم ان اهلها توّاقون للاحتفال بالحياة، وكم يليق بهم الفرح .

ولكن، كم هو مؤلم ان يقرأ اهل طرابلس ما كتبه اليوم الاستاذ “سمير عطالله” من أنه ” في 17 تشرين الأول2019، وليس في 22 تشرين الثاني 1943، أعلنت طرابلس انضمامها إلى الجمهورية اللبنانية، وأرسلت التحيات إلى صور والنبطية وبعلبك وسائر المناطق الشيعية، وهتفت للجيش اللبناني، وأظهرت كل ما يؤكد انضواءها إلى البلد” !!

لا اعرف إن كان الاستاذ عطاالله قد تنبه الى أنه في معرض دفاعه عن طرابلس، قد ذمّها وشكك في هُويتها وانتمائها الوطني على مدى عشرات السنين الماضية. فطرابلس لم تغادر الجمهورية اللبنانية، بل هذه الأخيرة هي مَن ظلمها ونفاها وعزلها وغادرها منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا. ولا بد من تذكيره بأنه في واحدة من جولات العنف بين باب التبانة وجبل محسن ، حيث كانت المدافع تدكّ المدينة، ورائحة الموت تنتشر في أرجائها، ولا صوت يعلو فوق صوت الفتنة والتحريض المذهبي، رفع اهلُ طرابلس شعار ” يا دولتنا العليّة .. طرابلس لبنانية”، كصرخة غضبٍ واحتجاجٍ على شيطنة طرابلس وعزلها وكأنها وباء معدٍ ، وعلى ترك أبنائها يواجهون بمفردهم مصيرهم المأسوي، ويدفعون الفواتير الغالية ثمن حروب الآخرين على ارضهم، وتصفيتهم لحساباتهم الاقليمية، فيما كانت كل المناطق اللبنانية تعيش حياتها الطبيعية بتفاصيلها الروتينية المملة، وكأن مَن يموت في طرابلس ليسوا لبنانيين. العاصمة الثانية لم تنسلخ عن الوطن، بل الوطن هو من سلخها عنه، وهي لم تتوقف عن المطالبة بعودة الوطن اليها، ولكنه لم يحضر إلا ببزته العسكرية لتأديبها .

نعم .. ثورة طرابلس الحالية هي على هذه الدولة الظالمة وطبقتها السياسية الفاسدة، ولكنها في الدرجه الاولى، هي ثورة غضبٍ عارم على مرجعياتها السياسية. وهي عندما مزقت صُوَر سياسيها المعلقه على أعمده الكهرباء والجدران، إنما كانت تعلن تبرؤها منهم . كانت تثأر لنفسها من كل مَن ورطها في 20 جولة عنف دامية، وتركها محطمة ومنكوبة ومنهوكة؛ ومن كل مَن اراد لها ان تكون صندوق بريد، وتركها تغرق في دماء ابنائها .

طرابلس رقصت في ساحة النور، تماماً كما يرقص الطائر المذبوح من شدة الالم. ورغم صوت الأغاني والاناشيد الثورية الصاخبة التي تصدح يومياً في الساحة التي تحولت ساحةً جامعة لكل اللبنانيين،، إلا انه لا صوت يعلو على صوت الغضب والتنديد بالتهميش والظلم والإفقار المتعمد، والنقمة من إِبَر مورفين الوعود الكاذبة التي حقنها ساستها على مدى عقود، في شرايين حواضنهم الشعبية، كي يتحملوا بؤسهم ويتعايشوا مع شقائهم ويقتنعوا بأن التعاسة والحرمان والفقر هي قدر محتوم مكتوب على جباههم، لا رادّ له. وهكذا نجحوا في جعلهم يستمرئون ويتقبلون لقب “أُمّ الفقير” لمدينةٍ تكتنز كل ما يتطلبه النهوض والازدهار والتنمية من شروط ومقومات اقتصادية وسياحية وبشرية .

طرابلس لم تكن يوماً متطرفة، بل هناك مَن اراد لها ان تكون كذلك. وطرابلس لم تخرج الى النور، إلا حين عزلت زعماءها، ووجهت اليهم اصابع الإدانه والاتهام. ولم تشرق صورتها التي ادهشت العالم، إلا حين حبست نوابها ووزراءها في منازلهم ومنعتهم من الكلام . وهي حين تهتف: ” كلن يعني كلن” ، إنما تقصد زعماءها الذين طوقوها بالفقر والجوع والحاجة والأمية والزبائنية السياسية وكرتونة الإعاشة، والذين بسبب غربتهم عنها ، تشعر المدينة باليُتم والنفي والإغتراب. وطرابلس حين تهتف: ” الشعب يريد إسقاط النظام”، إنما تريد اسقاطهم هم أولاً ، لأنهم إن اختلفوا أحرقوها ومزقوها، وإن تصالحوا خنقوها وأذلوها، يعني في الحالين، هم سبب أغلب ابتلاءاتها.

لقد عبَرت طرابلس (والشمال) “الروبيكون” ، وهي اليوم تنفجر غضباً وسخطاً في وجه جلاديها من السلطة الحاكمة، قائلةً لهم مع كل اللبنانيين: لقد طفح الكيل من عنجهيتكم وغطرستكم وتحجر مشاعركم تجاه وجع الناس، لذا اجمعوا أشياءكم وانصرفوا ، اخرجوا من دمنا وخبزنا وجُرحنا … لقد آنَ لكم ان تنصرفوا .

لقد انتزعت طرابلس بجدارةٍ لقب “أيقونة الثورة اللبنانية”. وعلى أمل أن يكون “ربيعها” قد بدأ بثورة لبنان “الخريفية”. 

السابق
وقائع برسم حزب الله و ذاكرته «المثقوبة»!
التالي
بالفيديو.. هكذا بدَت صور مع قدوم مارسيل خليفة