قناع السُلطة وحقيقة الناس لبنان – الحراك الشعبي واللاعودة

قناع السلطة

احتقان الناس في لبنان بسبب فساد السُلطة الحاكمة سياديّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً انفجر. لطالما راهنت السُلطة
الحاكمة على أنها قادرة على ابتِداع ديناميّاتٍ لتطويع الناس وتخديرهم واستقطابهم وتهدئتهم، غير أنّ ما جرى
الأسبوع الفائت من انتفاضة يحلو للبعض توصيفها بالعفويّة، هي نتيجة تراكمات بنيويّة في سوء الإدارة، والدّجل
والماكياج والترقيع، ويؤكد على انتهاء فاعلية وصلاحية هذه الديناميّات الوهميّة من ناحية، واستعادة الناس زمام
مبادرة التغيير من ناحية أخرى.
من المفيد الاعتراف بأن الشعب اللبناني بمختلف مكوّناته الطائفيّة والمجتمعيّة وحتى بعض الحزبيّة منها، كسر
أولاً تابوهات الخوف والتردّد وأسقط رهان السُلطة على الاستمرار بتمنينه بما يستحقه أصلاً. وتجاوز ثانياً
المساحات التي فصلته عن بعضه البعض بتمايزاتٍ تبيّن أنها مفتعلة، يأخذ فيها البعد الطائفي والمذهبي
والتسييسي السِّمة الأقوى. هذان الأمران يدفعان الى البحث المعمَّق في مسبّبات هذه الانتفاضة وتنسُّم مراحل
ترجمتها العملانيّة وتشخيص محاذير فشلها أو إجهاضها، وصولاً الى آفاق نجاحها في بناء بُنية تحتيّة لتغيير
حقيقي باتجاه استعادة لبنان ممَّن خطفه سياسيّاً وسياديّاً وإداريّاً، وعممّ اللّاحوكمة على قاعدة استشراء نظام
زبائني خبيث وعفِن.

اقرأ أيضاً: ملاحظات أساسية حول التظاهرات في لبنان

1- الانتفاضة – الحراك الشعبي: الرغيف والحريّات العامة!
الأوضاع المعيشيّة قصمت ظهر بعير العلاقة المتوتّرة أساساً بين اللّاحزبييّن والسُلطة. الإشارة الى اللّاحزبيّين
أساسيّة، إذ بحسب بعض المشاهدات، فغالبية من تحرّكوا في الشارع بعيدون عن الاستقطابات السياسية، وهم
مصنّفون ضمن الكتلة الصامتة، وهذا مؤشّر الى انسداد أفُق الأحزاب التقليديّة في بناءِ مشروعيّتها على أرجحيّة
تهميش الكتلة الصامتة لحساب محازبيها من ناحية، وتحويل هؤلاء الى حاشية خاضعة من ناحيةٍ أخرى. الرغيف بدا
محرِّكاً للاّحزبيّين، لكن أيضاً لحزبيّين فهِموا أنّ من أخضعهم لمصالحه من باب تأمينٍ محدودٍ لمصالحهم يؤدّي أدواراً غير مسبوقة في الاعتداء على الخير العام الذي يشاطرونه شركاءَهم في المواطنة. من هنا حداثة هذا التلاقي على رفض التمنين بالرغيف أو حجبه، وفي هذا شرارة رفض مركب سيكولوجيا وسوسيولوجيا.

وتبرز مع الرغيف الحريّات العامة عنصراً مؤسِّساً في تزخيم الانتفاضة. ما جرى في الأشهر الأخيرة من محاولاتٍ
حثيثة مباشرة وغير مباشرة لكَمِّ الأفواه، أشّر إلى عدم فَهم السُلطة أنّ الناس، ومنذ العام 2005 ، قادرون على
وقفِ أيّ مسارٍ يوقعهم مجدّداً في دولة بوليسيّة، رغم انعدام موازين القِوى سياديّاً. كذا حتّم الناس مقولة:
“يمكن لكم كتحالف سلطوي أن تخضعوا لإملاءات الأقوى، لكن ثِقوا أننا لن نخضع لكم ولن نكون معكم، وفي
اللحظة المؤاتية سنعيد نحن صناعة التوازن السياديّ المفقود، وحينها عليكم أن ترحلوا”.
2- الانتفاضة – الحراك الشعبي: الترجمة العملانيّة
من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب تلاقوا. إفترشوا الأرض بتوزّعٍ جغرافي ذكيّ، إذ لا يمكن للعابثين إجهاض
حراك لامركزي. تلاقوا مطالبين برحيل السُلطة الحاكمة وتسليم دفّة الحُكم الى أخصّائيّين، أو الى مرحلة انتقاليّة
إعداداً لانتخابات نيابية مبكرة، والتأكيد على محاسبة الفاسدين وإعادة المال المنهوب.
الترجمة العملانيّة المبدئيّة للحراك قائمة في وضوح العناوين، أو تبلور وضوحها تدريجيّاً. أمّا الترجمة العملانيّة
المفصليّة فتستوجب بتكوين قيادةٍ جماعيّة رشيقة غير هرميّة من اختصاصيّين، بما يقدِّم نموذجاً جديّاً عن كيف
يمكن للاختصاصيّين أنّ يلاقوا الناس في خياراتهم بالاستناد الى أجندة جليّة المعالِم توصِل الحراك الى مآلاتٍ
فاعلة ومستدامة، وهذا يتطلّب خطواتٍ مرحلية دقيقة تصاعديّة مع رصد محاذير محاولات إفشال الحراك أو
احتوائه، ورسم سيناريوات مواجهتها.
3- الانتفاضة – الحراك الشعبي: محاذير الفشل والإجهاض!
تملِك السُلطة الحاكمة أوراقاً متعدّدة لإجهاض الحراك من تحويله شغباً عبر مجموعاتٍ منظّمة، الى استعمال الحق
الدستوري بإعلان حالة طوارئ، الى فرض مسارٍ صامِت بفائض قوّة انقلابي.
وفي الحراك نفسه خطر أن يُجهِض نفسه إن لم تتلاق من خلاله مجموعة من قطاعاتٍ مختلفة بمبادرة متكاملة
تكون بوصلة لتحقيق الأهداف بأنماط مختلفة، بالإضافة الى صمود الشارع.
لا وصفات جاهزة في هذا السياق، بل الإصغاء الى نبض الناس بمعنى المطالب، وصوغ خطوات تصاعدية أساسها
مواجهة التهويل والاستعلاء والتلويح بأوراق مدمّرة على قاعدة: “عليّ وعلى الناس”، وهذا ما قد تلجأ إليه
السُلطة الحاكمة.
وبالإضافة الى هذه المحاذير، يجب التنبّه الى إمكان أخذ الحِراك الى قبول منطق: “إمّا نحن وإمّا الفوضى”، وهذا
ما عبّر عنه أقلّه من يعتقد أنه أمسك البلد بقبضة حديديّة، وهنا للنخب الأكاديميّة والإعلام دورٌ مؤسِّس في تمتين
مناعة الانتفاضة – الحراك.
كما أن مكافحة الفساد من دون استعادة السيادة دوّامة عبثيّة، فأساس السيادة دولة واحدة وقرار واحد وحوكمة
سياديّة، ومن دون ذلك سيستمِر الفساد.
4- الانتفاضة – الحراك الشعبي: الآفاق
لبنان أمام فرصة تاريخيّة مع إنتهاء أسطورة النظام التّافه الأقوى من الدولة والمستبيح لكرامة المواطنين. وعلى
الرغم من صعوبة توقع دقيق لنتائج هذه الانتفاضة، فهي حسمت عددا من الوقائع:
أولها، يدفعنا الى الاعتذار من اللبنانيين، إذ كنّا نعتقد أن نخبة لبنانية فقط تجاوزت الانتماء الطائفي فيما الأغلبية
ما تزال غارقة فيها. ما شهدناه في الأيام الماضية أثبت أننّا كنّا على خطأ. ونعتذر أيضاً، لأننّا اعتقدنا أن ما كان
يقال عن قدرة اللبنانيين على التكييف والصمود ما هو إلا عذراً لعدم الحراك وتحمل مسؤولية المشاركة في إدارة البلاد كما يتوجب على المواطنين فعله.
ثانيها، أكّدت الانتفاضة من جهة أنّ الطائفة الشيعية هي فعلاً مخطوفة من حزب لله وأن الثنائيّة الشيعيّة لا
تمثّل غالبية الشيعة، وما شهدناه في صور والنبطية وغيرها من المناطق دلّ على أن ثلاثين سنة من سطوة حزب
لله وإيران عليها لم تعبث بلبنانيّة ووطنيّة هذا المكون اللبناني الرئيس، وأن ثقافة الحياة ما تزال أقوى من
ثقافة الموت العبثية. وأظهرت الانتفاضة من جهة ثانية أن الطائفة السنيّة ليست مكوناً صامتاً بل هي ناشطة
وفاعلة ومؤثرة، ولا نبالغ إذ نقول إن المكوّن اللبناني المسلم بشقيه السنيّ والشيعيّ هما عماد هذه الانتفاضة
الى جانب المسيحيين.
ثالثهاً أسقطت الانتفاضة سقوطاً مدوياً ادعاء فريق مسيحيّ أنّه يمثّل غالبيّة المسيحيين، فجاءت النقمة عليه
على قدر الأوهام التي باعها للناس.
رابعاّ على الرغم من محاولة توصيف هذه الانتفاضة بأنها مطلبيّة، وعلى أهمية الجانب المعيشي في تحريكها،
أظهرت قناعة اللبنانيين بأن جوهر أزمة بلادهم ليس حسابيّاً أو تقنيناً وليس موازنة وضرائب ولا يمكن تجاوزها
بمجرد أوراق اقتصاديّة وحلول إصلاحيّة. الناس مقتنعون أن الأزمة هي أزمة بنيويّة وسياسيّة وسياديّة، سببها
هيمنة حزب لله وحلفائه من كل الطوائف والأحزاب على القرار السياسي والأمني وبمحاولات هذا الفريق جرّ لبنان
إلى محور يخالف تاريخه.

مهما يكن، ما جرى شكلّ بكل المعايير مفاجأة وصحوة، والفراغ الذي يحذّر البعض منه نتيجة لهذا الحراك كنا
نعيش فيه. فالفراغ ليس مجرد عدم وجود حكومة أو رئيس أو مجلس نيابي، إنما هو عدم الإدارة، وهذه السلطة
لم تكن تدير البلاد إنما تدير مصالحها. يبقى الخوف من شبح السلاح غير الشرعي والخشية الرئيسية أن يعمد حزب
لله جراء مصالح خارجية على خطوات لا تأخذ في الاعتبار المصلحة اللبنانية وهنا مكمن الخطر.

السابق
بعد الاعتداء على المحتجين..أمل تحاول التقرب من ثوّار المدينة
التالي
ضحية اعتداءات ««الثنائي الشيعي» يخرج من المستشفى الى ساحة الاعتصام في النبطية!