الحب عند هاني فحص.. مثل الشعر…

هاني فحص

تقول لي ديمة (ابنة أختي) وهي مغادرة إلى لندن للدراسات العليا: “أفتقد “جدو”، لا أحد مثله، يفرح لنا، لو أنه هنا، لكان جعل من هذه المناسبة مهرجانا”، أجيبها: “هو هنا بالتأكيد، وهو يحكي الآن لمعشر الملائكة هناك، عن حفيدته “الشاطرة” التي حصلت بكفاءتها، على منحة دراسية، صدقيني سوف “يطوشهم” بك، كعادته حين يتحدث عن أحفاده”.
حين صرت أما، حاولت أن أكون أما كأبي، أمتهن الصبر والحب والتقبيل والعناق والعطاء بلا شرط الأخذ، وأتعامل مع أطفالي كأنهم مخلوقات فريدة رغم عاديتهم، كما كان يفعل، لم أنجح… ظننت أن المسألة مجرد سلوك أو تقنيات أحيانا، لكن تبين لي أنها مسألة كثيرة التعقيد، لها علاقة بتركبية القلب والروح والفطرة، وأدركت مع الأيام، أنها أسرار إلهية، وضعها الله في خاصة مخلوقاته.

اقرأ أيضاً: لم أكن أعلم أنني سأحمل جثمانك وأطوف به وقد اعتلته عمامتك فوق تراب جبشيت

وحين رزقت بحفيدتي الأولى، حاولت أن أكون جدّة كأبي، وأعترف أني فشلت أيضا، لم أستطع حتى الآن، رغم أني أقلّده في حماسته ودهشته، في علاقتي بحفيدتي، أن أفكك هذا اللغز الجميل الغريب، الذي اسمه الحب، كيف كان أبي، ينسجه ويغزله ويربط به أحفاده، وفي الوقت ذاته، يحررهم به، من التكلّف والتصنّع وأوهام العلاقة التراتبية.
هذا النص، حديث دار بينه وبين الأحفاد، في عيد الفطر، قبل عشرين سنة، الحفيد الوحيد هو عاصم (ابني) والحفيدات هنّ: نوار وعزة (ابنتاي) عدن وديمة (ابنتا اختي)…
سلام عليك، في ذكرى رحيلك الخامسة، يا جد: نوار وعزة وعاصم وعدن وديمة ودانة وإياد ومهيار وعلي وكندة وناديا وآلما ومنى، ستظل عيدهم الحقيقي اليومي…
سؤال صعب عن الجبّة والحبّ
أنهى الأحفاد «ورديتهم» الطويلة في شقاوات العيد، فرقعة وصياحاً وعراكاً، ثم أخذت السماء تسح، فدخلوا دفعة واحدة وبصيحة واحدة: هذا عيد حقيقي، لأن «جدو» لم يتدخل…
عجزاً والله، وخوفاً من المعارضة الواسعة، التي يأخذها العاقل في اعتباره، فلا يتشبث بموقع سلطوي ضعيف، ويظهر على مضض، ميلاً إلى الديموقراطية لحفظ رأسه، ريثما يحسن وضعه، إن لم يكن الأوان قد فات، أو يختم عهده بكرامة…
أحاطوا بي ليكملوا اللعب معي مكافأة لي على غض النظر…وحاصروني، أي الأحفاد، وهم أربع حفيدات وحفيد واحد، ولكن يجوز في اللغة العربية، التغليب، ومن هنا انتقلت العدوى إلى العقل العربي، أو لعل الأصوب هو أن العدوى انتقلت من العقل العربي إلى اللغة العربية، فجاز تغليب الأقوى على الأضعف. والذكر هو الأقوى، فيجوز أن تقول: الأحفاد، جمعاً مذكراً مكسّراً، كما تقول: القمران للشمس والقمر، رغم أن الشمس أكبر وأهم، ورغم أن القمر يعيش على ضوئها، ولكنها أنثى!
حاصرني الأحفاد إذا، وسألوني: جدو هل أحببت؟ فأجبتهم بلسان عربي فصيح، مع شك في براءة السؤال: نعم، وأكدت لهم بما لا يقبل الشك أن الأصل عندي هو الحب، وأن عدمه يحتاج إلى دليل غير متيسر، كما يحتاج إلى مجاهدة مني، أما نقيضه وهو الكره أو البغض أو الشنآن، فهو أمر شاق جداً، ويحتاج إلى تمحل لتسويغه ونفي قبحه، وهذا ما جعلني أدفع أثماناً باهظة، منذ أحببت الوطن إلىأن أحببت السياسة والنضال من أجل الوطن والمواطن، ولكن خيبات الأمل المرة، لم تدفعني إلى الندم على الحب، وما زلت أكره إساءاتي إلى الآخرين وأستحي منها، وتجرحني إساءة الآخرين إلي، ولكني مصر على عدم الشك في قيمي وأنتظر فائدة عظيمة وغلة وافرة لن تظهر إلا في آخر العمر «ومن وثق بماء لم يظمأ».
قاطعوني ألف مرة، ملوا من جوابي المسهب، والمخلّ بالمعنى حسب قواعد البلاغة والأدب، وقهقهوا، اتهموني بالمراوغة وقالوا: لا. لا.. نحن نسألك عن الحب الحب، أي الحب، فاستوضحتهم فقالوا: هل أحببت فتاة أو فتيات قبل زواجك من «تاتا؟» ومن هن؟ هل كن جميلات؟ حدثنا عنهن وعن حبك لهن وحبهن لك، وبماذا كنت تحدثهن ويحدثنك؟ وقلت محاولاً العودة إلى سلطتي المنتقصة: من علمكم هذا الكلام؟ قالوا: لا أحد.. قلت أبداً…التلفزيون، التلفزيون.. قالوا أو قلن: أنت لم تقتنِ التلفزيون إلا قبل سنوات، كما قالت لنا التاتا، يعني أنك عندما كنت طفلاً صغيراً لم تكن ترى الأفلام، ألم تحب في ذلك العمر؟
تذكرت بسرعة خاطفة، ابتلعت ريقي وغيظي وسألتهم: هذا يعني أنكم تحبون! قال الحفيد: أنا أحببت فلانة منذ سنتين (أي في الثامنة من عمره) ثم أحببت فلانة بعد سنة، وقبل أن يأخذ بسرد قصة حبه، التفت إلى الباقين، وظهرت في عينيه رغبة في الوشاية والنميمة على قلوبهم… ابتسمت أمه بحياد، وأنا امتعضت فامتنع.. وأدركني شعور بالحسد أو الغيرة. فهذا الطفل مسموح له بالتحدث عن كوامن قلبه، عن حبه بذلك المعنى الدقيق والأصلي والطبيعي، أما أنا فملزم بالإصغاء من دون الإفضاء، وآخرون، مثلي ومختلفون، يطنبون في الحديث عن براءاتهم الجميلة، وبعضهم يقول كلاماً طويلاً وتفاصيل مملّة، وبلغة مباشرة عارية وخالية من أي بعد جمالي، جثمانية وبيولوجية خالصة، يتحدثون عما يتجاوز الحب الحب أو يتخطاه أو لا يمر به، ويعافون الكلام عن الحب الحب، ويصادرونه ويؤاخذون عليه ويعاقبون…
وحسناً فعل الخطاب المسيحي عندما جعل لفظة المحبة للحب العام، والحب للحب الحب، فصار بإمكان أي كاهن أن يتحدث عن المحبة من دون أن يقع في الالتباس أو المفارقة. أليس من هنا اضطر صلاح عبد الصبور لأن يمهد للحديث عن الحب بحيثيات عديدة احتياطاً:
لأن الحب مثل الشعر، ميلاد بلا حسبانْ.
لأن الحب مثل الشعر، ما باحت به الشفتانْ، بغير أوانْ.
لأن الحب قهار كمثل الشعر، يعلو في سماء الكون، لا تعنو له جبهة وتعنو جبهة الانسانْ.
أحدثكم بداية ما أحدثكم عن الحب.

السابق
مسار آستانا.. هل باتت تركيا الحلقة الأضعف؟
التالي
جعجع: مروحة اتصالات الحريري الخارجية لا تكفي إلا إذا أصبحت الدولة اللبنانية جدية بإصلاحاتها