اعتذار يستحضر سيرة «أبو خالد»: من عبد الناصر إلى كمال جنبلاط وأبو عمّار

علي الأمين

في مناسبة مرور 48 عاماً على تأسيس “منظمة العمل الشيوعي” في لبنان، قدّم عضو الهيئة التنفيذية وأمين سر “المنظمة” في البقاع حاتم خشن في حفل عشاء أقيم في البقاع (السبت)، اعتذاراً باسم “المنظمة” من كلّ اللبنانيين “عن مغامرة التغيير بواسطة الحرب الأهلية التي نتذكرها كي لا ننسى، فتتكرر”، وتوجه إلى اللبنانيين قائلاً: “سنقف معكم، في وجه كل من يسعى لإشعال نارها الكامنة تحت رماد الطوائف وتنازعها على الحصص”.

أن يقوم طرف سياسي لبناني شارك في الحرب الأهلية العام 1975، بتقديم اعتذار من اللبنانيين عن مشاركته في الحرب باعتبارها سبيلاً للتغيير، هو أمر يستحق التوقف عنده، والتأمل في معانيه ودلالاته، بل التقدير لهذه الجرأة الأخلاقية التي نفتقدها في الحياة السياسية، لا سيما في الاصطفاف المرَضي الذي يجعل من كل طرف، أو حتى فرد في لبنان، ينحو نحو تبرئة الذات وإلقاء اللّوم على الآخر لدى الاقتراب من الحرب وسيَرِها المثقلة بالدّم والتّهجير والدّمار، في منحى لا يزال طاغياً في تفكير العديد من الأحزاب وحتى الأفراد الذين شاركوا في الحرب، عبر تظهير مظلومية الذات لتبرير ارتكاباتها أو ما ارتُكب باسمها. وهذا ان دلّ على شيء فهو يدل على أن الحرب لم تنته، ولم يتم تجاوزها بعد الى برّ السلام الوطني والأهلي.

اقرأ أيضاً: «وليد بك» في «خطبته العرفانية»: ادفنوا موتاكم واتبعوني

“الرفيق أبو خالد”

“منظمة العمل الشيوعي” التي نشأت في العام 1971، كتنظيم يساري ثوري، كانت في مقدّم القوى السياسية والحزبية، المنضوية في اطار “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط، وكان محسن إبراهيم الأمين العام لـ”المنظمة” منذ تأسيسها، الأمين العام التنفيذي لـ”الحركة الوطنية”، وهو موقع استمر فيه “أبوخالد” الى حين أفولها (1982) الذي كان يعتبر المنظّر السياسي، والمُبلور لمواقفها السياسية، والقادر على إدارة الخلافات والتناقضات بين فرقائها. السطوة السياسية لدى “الرفيق أبو خالد” كما يحب رفاقه واصدقاؤه أن ينادوه، كانت تتأتى من براعة سياسية وتنظيرية يقرّ له بها الخصوم، جعلت الزعيم كمال جنبلاط متمسكاً به، لكفاءته وبراعته في صوغ الموقف السياسي، وفي النيابة عنه في إدارة العلاقة مع أحزاب الحركة الوطنية، وفي علاقاتها السياسية مع بقية القوى اللبنانية وغير اللبنانية.

محسن إبراهيم (1935) الذي نشأ في أحضان “حركة القوميين العرب” التي تأسست مطلع خمسينات القرن الماضي وعلى اثر النكبة الفلسطينية العام 1948، كان واحداً من كوادرها وقد برز وتقدم الصفوف فيها، ونجح خلال فترة وجيزة في أن يبني صلة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فهذه “الحركة” التي انفرط عقدها لاحقاً بعد هزيمة العام 1967، كانت تتسم بطابع عربي، لم تكن لها أي خصوصية قطرية، وكان من مؤسسيها في حينه طلاب جامعيون عرب في بيروت، مثل جورج حبش، وديع حداد، احمد الخطيب، صالح شبل وحامد الجبوري وغيرهم…

بين نكبة 48 ونكسة 67 عاشت “حركة القوميين العرب”، وبعد النكسة تفرق العشاق وتأسست من رحم “الحركة” قوى وأحزاب اتخذت طابعاً ماركسياً، كان طغى على معظم القوى التغييرية العربية في ذلك الحين، كسبيل لمواجهة الهزيمة وتحقيق التغيير في الداخل الوطني. فكانت “منظمة العمل الشيوعي” لاحقاً، وفي بداية السبعينات، احد هذه التعابير التي تزاوجت بين منظمة “الاشتراكيين الثوريين” و”لبنان الاشتراكي”. في المؤتمر التأسيسي الأول تم انتخاب هيئة قيادية، كان منها حكمت عيد، وضاح شرارة، احمد بيضون، محمد كشلي ومحسن إبراهيم الذي انتخب أميناً عاماً ولا يزال.

بعد فترة وجيزة، وقبل الحرب، ترك الباحثان اللامعان وضاح شرارة وصهره أحمد بيضون “المنظمة”، فيما أكمل أبو خالد قيادة المنظمة، الى جانب نخبة من اليساريين الذين لمَع منهم كثيرون لاحقاً في مجال الفكر والسياسة والصحافة، على سبيل المثال الراحل سمير فرنجية كان واحداً من الذين انتسبوا للمنظمة ولو لفترة وجيزة، الراحل نصير الأسعد وعدنان الزيباوي وغيرهم من الكوادر السياسية التي عملت في فريق الراحل رفيق الحريري وقد أثرت في ماكينته السياسية والتنظيمية عشية انتقاله الى لبنان رئيساً للحكومة في العام 1992.

ينقل أحد أعضاء “المنظمة”، عن أبو خالد أنه لعب دوراً في ترتيب أول لقاء بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في العام 1968. على أن علاقته الوثيقة بعرفات كانت من معالم هوية محسن إبراهيم ولا تزال، فهذه العلاقة جعلت منه في كثير من المحطات في موقع المسؤول الفعلي عن الملف الفلسطيني في لبنان بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وعلى خلاف معظم احزاب “الحركة الوطنية”، لم يخف أبو خالد علاقته السياسية والشخصية مع ابو عمار، على رغم ضغط النظام السوري الذي كان يخوض معركة انهاء أي علاقة بين لبنان وحركة فتح وتحديداً زعيمها ياسر عرفات. ربما هذا ما يفسر غياب أبو خالد عن المسرح السياسي الذي رسمته دمشق، وبقي محافظاً على علاقات ثابتة تركزت مع رئيس “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط، وعدد من الشخصيات السياسية، الى جانب متابعاته للملف الفلسطيني في كل المحطات الأساسية والمهمة، من حرب المخيمات في منتصف الثمانينات الى المواجهات التي تنقلت في محيط المخيمات وصولاً الى اتفاق الطائف ومرحلة تسليم سلاح الميليشيات ومنها الفلسطيني في مطلع التسعينات.

في منزل كمال جنبلاط

لعل البيان الشهير الذي صاغه والأمين العام لـ”الحزب الشيوعي” جورج حاوي في 16 أيلول العام 1982 في منزل كمال جنبلاط في وطى المصيطبة، سيشكل إحدى المحطات الأساسية في سيرة محسن إبراهيم، وهو اعلان “المقاومة الوطنية” ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويكتسب هذا الإعلان أهميته، من كونه أول اعلان رسمي يعبر عن مشروع المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال، الذي كان قد احتل أكثر من نصف الأراضي اللبنانية. واستتبع هذا الإعلان دور فاعل على صعيد المقاومة العسكرية التي أدت الى انسحاب إسرائيل من معظم المناطق التي احتلتها في العام 1985، وهي مرحلة شهدت بروز “المقاومة الوطنية”، التي بدأ أفولها لصالح “المقاومة الإسلامية” التي حظيت بحماية ودعم سوريين بخلاف “المقاومة الوطنية” التي تعرضت الى حصار وخنق سوريين بالدرجة الأولى.

محسن إبراهيم الذي ولد في بلدة أنصار في قضاء النبطية، ينتمي الى عائلة دينية معروفة ولها حضورها التاريخي على هذا الصعيد، لكن نشأته الأولى كانت في مدينة صيدا التي أتاحت له أن يكون مطلاً على مناخات اجتماعية وسياسية متنوعة، في الاربعينات والخمسينات، وقد تزوج من احدى فتياتها وهي كريمة مفتي صيدا آنذاك سميرة فأنجبت له ثلاثة أولاد.

قضيتان شغلتا مسار حياة محسن إبراهيم، فالى جانب القضية الفلسطينية التي صارت من معالم شخصيته وتاريخه السياسي، قضية التغيير التي بقيت أساساً في كل مطالعاته السياسية منذ البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية، وما تلاه من مطالعات سياسية واجتماعية كانت تحظى باهتمام النخب السياسية. جاذبية محسن إبراهيم نخبوية، هو ليس قيادياً شعبياً، لكنه يمتلك كاريزما سياسية لدى النخب، بسبب ثقافة سياسية مميزة، وذاكرة قوية، ودينامية عالية في الحركة، تجعله قريباً حتى من خصومه.

لعل رحيل ياسر عرفات كان اكثر ما أثر في ابو خالد، فانكفأ نسبياً بعد ذلك، وتوقف عن تقديم مساهمات سياسية فكرية كان يحرص على ان يقدمها دورياً، لعله كان اللبناني الأقرب الى ابو عمار، فالعلاقة الوثيقة لم تنقطع منذ تعارفا في نهاية الستينات الى يوم رحيله مسموماً في رام الله العام 2003.

في الاعتذار الذي تقدمت به “منظمة العمل الشيوعي” من اللبنانيين، ومهما كان حجم وموقع هذه “المنظمة” اليوم، الا أنه اعتذار يستحضر سيرة أبو خالد ما لها وما عليها، مع بقائه من بين ألمع السياسيين والحزبيين الذين مروا في تاريخ لبنان، والاعتذار من اللبنانيين مثال..  

السابق
دعموش: الاستهداف الاميركي للمقاومة لن يغير في مواقفها أو يثنيها عن القيام بواجباتها
التالي
شهيب تابع التحضيرات لإنطلاقة الدورة الإستثنائية للامتحانات الرسمية