الآخــرون.. وقوفا بهاً

كتاب

الصدى الذي خلفه دعبل الخزاعي بقوله:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
لا يزال مدوياً؛ فهذا هو أبو تمام، وهو معاصر لدعبل، يقول:
وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني مشكولا وقلبي مقفلا
وجد بها قوم سواي فصادفوا
بها الصنع أعشى والزمان مغفلا
ما يميز ما قاله أبو تمام عما قاله دعبل هو ذكر السبب؛ حتى أني أتخيل أن أبا تمام يعيش في زماننا هذا، فهو ممنوع من النطق، وممنوع حتى من التمني، فقد قفلوا قلبه.

اقرأ أيضاً: مركز بيو: خارطة سكان العالم في 2100

أما المتنبي فلم يكتف بوصف الزمان وأهله، بل أراد أن (يروي رمحه غير راحم) من دمائهم. هؤلاء الشعراء، ومن بعدهم، لم يبلغ دوي أشعارهم ما بلغته مقولة الفيلسوف سارتر (الآخرون هم الجحيم) هذه المقولة التي كثرت التأويلات لها، ومن أنضجها: أن الآخرين هم السبب في منعه من الوصول إلى كامل حريته.
أما تأثيرها على شعرائنا في الوقت الحاضر فهو، كما يقال (حدث ولا حرج) فهاهو السياب يقول: (سيزيف إن الصخرة الآخرون) وها هو جودت فخر الدين يقول: (أرى الناس من حولي ظلالا لذئب وحيد) أما أمل دنقل فيقول:
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي بردى لا تسألي أحدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
بماذا تفسر هذه اللحظات السوداء التي يمر بها بعض الشعراء والفلاسفة؟
هل تظن أنهم لا يدركون أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنساناً إلا مع الآخرين؟
لأنه بدونهم يعيش خارج الثقافة، وخارج التفاعل الاجتماعي، اللذين بدونهما لا يمكن أن يخرج الإنسان من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة الإنسانية إلا أن يعيد خرافة (حي بن يقظان) كلا، إنهم يدركون ذلك، وبعمق، إلا أن في داخل الإنسان أوكاراً في الذاكرة لغراب خفي ينعب، أحياناً، وبدون إرادة واعية منه.
غير أن سارتر، انطلاقاً من فلسفته الوجودية، لا يؤمن باللاوعي؛ أي لا يؤمن بغراب الذاكرة، ولكنه يعتبر الحياة نفسها عبثاً. ومن هذه النافذة النفسية دخل الظلام إليه، ودفعه إلى قول ما قال، على الرغم من نتاجه الإنساني الرائع.
أعتقد أن في داخل كل إنسان غراباً من نوع ما، ولكن نعيبه يختلف من فرد إلى آخر باختلاف التربية، واختلاف المستوى الحضاري الذي نشأ فيه،
واختلاف الزمان والمكان: فتارة يكون نعيبه متواصلاً، وأخرى يكون قليلاً، عالياً أو خافتاً، ولكنه لا يكون عذباً أبداً.

(مجلة اليمامة)

السابق
شمخاني: اللقاء الثلاثي خادع… ولن نتراجع عن الخطوط الحمراء في سوريا
التالي
صحفية شهيرة تتهم ترامب باغتصابها بغرفة تبديل الملابس