إيران نجحت خلال 40 عاماً في بناء قوة تحسباً لمثل هذا اليوم..

ايران

في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بالشرق الأوسط بشأن اندلاع مواجهة عسكرية بين أمريكا وإيران، بات التساؤل عن قوة طهران إذا ما اندلعت هذه الحرب، وهل يمكن أن تصمد إيران أم ستنهار؟

مجلة Foreign Policy الأمريكية رصدت في تقرير للباحثة نرجس باجولي أهم بنود القوة التي تتمتع بها إيران والتي يمكنها أن تؤثر في مصير هذه الحرب.

وقالت المجلة الأمريكية: «ما لا يفهمه الأمريكيون هو أنَّ الجماعات التي ندعمها في المنطقة ليسوا مرتزقة لدينا»، هكذا قال علي وهو عضو رفيع المستوى في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، رداً على سؤالي مؤخراً عن أحد أهداف عقوبات إدارة ترامب ضد إيران: تقليص قدرة البلاد على دعم الميليشيات في المنطقة مالياً. وتابع علي: «يعتقد الأمريكيون أنَّ كل شيء يتعلق بالمال، ويعتقدون أننا نشتري الولاء في المنطقة، لأنَّ هذه هي الطريقة التي يشترون بها الولاء».

ميليشيات إيران الوفية

وقالت باجولي: خلال العقد الذي أجريت فيه بحثاً مع منتجين ثقافيين في القوة العسكرية الإيرانية البارزة: الحرس الثوري، رأيت تدفقاً مطرداً لصناع أفلام موالين لحزب الله والجماعات الشيعية والكردية العراقية، يتنقلون عبر المراكز الثقافية للنظام في طهران. (وافقوا جميعاً على التحدث معي بشرط عدم الكشف عن هوياتهم. الأسماء المستخدمة هنا أسماءٌ مستعارة). عاش مهدي، وهو مخرج أفلام إيراني مؤيد للنظام، في لبنان ليصنع أفلاماً مع منتجي مواد إعلامية لحزب الله. وعندما زاروه في طهران تحدثوا اللغة الفارسية بطلاقة، وتجولوا في المدينة بسهولة مألوفة. يأتي المخرجون العراقيون أيضاً بانتظام لقضاء بعض الوقت بطهران، في الاستوديوهات المرتبطة بقوة «الباسيج» شبه العسكرية.

وتستكمل باجولي قائلة: على الرغم من أنَّ بحثي ركَّز على المنتجين الثقافيين، فقد رأيت تدفقاً مماثلاً للأجانب في الأذرع الاقتصادية والعسكرية للحرس الثوري. من المؤكد أنَّ تدفق السلع والأفكار والأشخاص بين إيران ووكلائها سيستمر وسط عقوبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يسهلها طيف من المؤسسات التي لا تعتمد على استثمارات مالية ضخمة وإنما على إقامة صداقات دائمة مع جميع الجهات.
العلاقة التاريخية بين إيران ومسليشياتها!

تاريخياً، امتدت الروابط بين إيران والعراق والشام على مدار أجيال. فقد أدت طرق التجارة والحج القائمة منذ أمدٍ طويل، فضلاً عن كوكبة من المعاهد الدينية، إلى أن المجتمعات والأسر بأكملها قد سافرت بسلاسة وعاشت وتحدثت وأنشأت روابط ثقافية واجتماعية. لكن مجرد وجود هذه الروابط لا يترجم إلى مجموعات نشطة سياسياً.

وبحسب المجلة الأمريكية فإن صناع السياسة والجمهور يسيئون فهم طبيعة هذه العلاقات، عندما يعتبرونها روابط متعلقة بالتشيُّع كعقيدة دينية تقليدية. ينشأ سوء الفهم هذا من عيب جوهري في الإطار الذي ترتكز إليه سياسة واشنطن تجاه إيران والشرق الأوسط بأكمله، ألا وهو اعتقاد أنَّ الدافع وراء ثورة 1979 في إيران كان سعياً متعصباً للسياسة الإسلامية. لكن ما يربط هذه الجماعات معاً في الواقع ليس تقيُّداً بعقيدة دينية محددة، لو كان الأمر كذلك لما كانت لإيران علاقات وثيقة مع فصائل فلسطينية معينة، ولا مع مجموعات كردية عراقية، قبل أن تقول شيئاً عن علاقاتها مع بشار الأسد في سوريا أو الحوثيين باليمن. ولكي نفهم كيف أنَّ البحث السياسي عن السيادة هو ما ينشط علاقات إيران مع وكلائها، وليس السعي الأخروي لحكم الدين، من الضروري أولاً تفكيك الافتراضات الحالية حول الثورة التي أدت إلى قيام الجمهورية الإسلامية.
لماذا دعم الإيرانيون الثورة؟

قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني/ AP

ضمن جيل يتصاعد مؤخراً من الدراسات الهادفة إلى جمع تاريخ اجتماعي للثورة، تُظهر الأبحاث أنَّ ما دفع الإيرانيين إلى دعم الثورة بصورة جماعية كان الرغبة في تخليص البلاد من الإمبريالية. جادل المؤرخ الإيراني البارز إيرفاند أبراهاميان بأنَّ ثورة عام 1979 ينبغي النظر إليها على أنَّها استمرارٌ لنضال التحرر الوطني الذي انقطع عام 1953، على يد انقلاب دبرته الولايات المتحدة.

في سابقة أولى لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، خلعت الولايات المتحدة رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق، وأعادت الشاه محمد رضا بهلوي، وسيطرت على حقول النفط الإيرانية. أياً كان ما فعله الشاه داخل البلاد في الفترة الانتقالية التي استمرت 26 عاماً بين عامي 1953 و1979، فقد ألقى الانقلاب بظلاله على حكم الشاه والتي امتدت فترةً طويلة. ارتبط الإحساس بعدم شرعيته بالشعور بأنَّه باع النزاهة الوطنية لبلاده في مزاد للأمريكيين والبريطانيين مقابل السُّلطة والثروة، بجسب المجلة الأمريكية.

وترى المؤرخة نغمة سوهرابي أنَّه يجب فهم ثورة 1979 بإيران على أنَّها «واحدة من آخر الثورات الناجحة العظيمة في عالم ما بعد الاستعمار في نظامه في فترة ما بعد الثورات، وواحدة من أول من أجابوا على أسئلة وقلق شعوب الجنوب العالمي في صيغة إسلامية». كان آية الله الخميني، بملابسه الدينية القاتمة ولغته الفارسية غير المتأثرة بلكنة طهران، هو النقيض الرمزي لثروة الشاه الوافرة. وجدت رسالة الخميني الشعبية لاستعادة العدالة والنزاهة لإيران في مواجهة الإذلال الدولي والمحلي، صدى واسعاً لدى المواطنين الذين ظلوا فقراء وقرويين إلى حد كبير، رغم الثروة النفطية المتدفقة في السبعينيات، بحسب المجلة الأمريكية.

كانت ثورة شعبية هائلة من قاع المجتمع هي ما أطاحت بالشاه، ليس فقط بسبب أوجه القصور الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي (تلك الموجودة في بلدان أخرى أيضاً، لكنها لم تسفر عن حركة ثورية)، بل لأنَّ الثوار وصفوا الشاه بأنَّه دمية أمريكية لا يضع مصالح الأمة في الاعتبار. كانت الدوافع الأساسية للثورة هي السيادة والاستقلال عن القوى الخارجية.

الرابط الفكري بين إيران وميليشياتها

وبحسب المجلة الأمريكية، فالآن ما صلة هذا بعلاقة إيران مع وكلائها؟ خلال السنوات الأربعين التي تلت الثورة، دعمت الجمهورية الإسلامية الجماعات التي تشارك بنشاط في الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي، سواء في لبنان أو العراق أو الأراضي الفلسطينية المحتلة. (قاد هذا التحليل أيضاً سياساتها في سوريا، حيث اعتقدت أنَّ الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل تستخدم الجماعات المحلية، والمرتزقة لاحقاً، لإطاحة الأسد، لأهداف جيوسياسية) عندما يولي المرء خطاب هذه الجماعات اهتماماً وثيقاً، من تصريحاتهم الرسمية إلى مخرجاتهم الإعلامية، ينصبُّ تركيزهم على السيادة ومكافحة الإمبريالية. بالطبع رمزية الإسلام كهوية ثقافية وسياسية موجودة أيضاً، لكنها ليست القوة الدافعة.

وقال حسين، الذي كان قائداً في الحرس الثوري في أثناء الحرب الإيرانية العراقية، ويعمل الآن منتجاً إعلامياً: «يعتقد الأمريكيون أننا مسلمون مجانين نسعى إلى الشهادة، وأنَّ العراقيين واللبنانيين لديهم العقلية المجنونة نفسها»، مضيفاً: «لا يريدون التفكير في أنَّ لدينا مخاوف سياسية مشروعة تتعلق بمنطقة خالية من الهيمنة الإمبريالية، ونسعى إلى السيطرة على مواردنا».

مهدي، المخرج الإيراني الذي أمضى سنوات من العمل والعيش في لبنان مع المنتجين الإعلاميين لحزب الله، قال: «انضممت إلى القوى الثورية، لأنني أردت أن أكون مثل الدكتور شمران. ما فعله من أجل اللبنانيين والفلسطينيين، وفيما بعد لإيران، هذا هو الدافع بالنسبة لكثيرين منا».

من يشير إليه مهدي هو أحد الاستراتيجيين الأوائل الرئيسين للقوات المسلحة الثورية بإيران، وكذلك أول وزير دفاع لحكومة الثورة، مصطفى شمران. وهو فيزيائي درس في جامعة كاليفورنيا بيركلي، وكان مشاركاً بعمق في الحركات المناهضة للاستعمار في الستينيات والسبعينيات، تدرَّب على تكتيكات حرب العصابات بكوبا ومصر، وعمل في لبنان لتنظيم الشيعة بالسبعينيات. أنتج مهدي ومعاونوه اللبنانيون أفلاماً وبرامج كبيرة لتعليم الجمهور والأجيال الشابة عن هذا القائد العسكري، بحسب المجلة الأمريكية.
استراتيجية الحرس الثوري

وبحسب المجلة الأمريكية، دُمجَت التكتيكات العسكرية للحركات المناهضة للاستعمار، في سبعينيات القرن الماضي، في تكوين الحرس الثوري الإيراني؛ ومن ثم في تكوين الميليشيات التي تدعمها إيران بالمنطقة. اختُبرت أساليب الحرب غير المتكافئة هذه في المعركة على مدى ثماني سنوات خلال الحرب العراقية الإيرانية.

ومن عام 1980 إلى عام 1988، تعلَّم الحرس الثوري الإيراني كيف يقاتل ويخلق استراتيجية عسكرية، ويقاوم قوة متفوقة يمولها ويزودها الغرب. مثل عديد من الحركات المناهضة للاستعمار في ذلك الوقت، لم تؤدِّ الثورة الإيرانية إلى التحرر، بل إلى صراع دموي من أجل السُّلطة، قمع في النهاية الأصوات المعارضة. مارست الجمهورية الإسلامية والحرس الثوري الإيراني، في العقود الأربعة التي انقضت منذ إنشائها، سياسة قاسية أدت إلى جروح عميقة لن تندمل بسهولة.

ومع ذلك، فإن حكومة ما بعد الثورة الإيرانية تظل شرعية، وهي هدف يستحق القتال إلى جانبه، وفقاً لما يراه مؤيدو الجمهورية الإسلامية، في الداخل والخارج، بالتحديد لأنَّها تمكنت من إحباط العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، ولأنَّها قاتلت تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)؛ وهو ما أدى إلى هزيمته، ولأنَّ دعمها لحزب الله ساعد في إبعاد إسرائيل عن لبنان.

اقرأ أيضاً: ترامب أخبر البنتاغون بأنه لا يريد حرباً مع إيران

ومنذ أن وصلت إدارة ترامب إلى السُّلطة، عادت السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى سياسات ليِّ الذراع، التي تسعى إلى إيذاء أولئك الذين لا ينصاعون لها. ليست إيران وحدها هي ما سعت الولايات المتحدة خلفه في الشرق الأوسط. ففي ضوء ضم إسرائيل مؤخراً مرتفعات الجولان، ومنح حقوق التنقيب عن النفط لشركة مرتبطة بنائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني، فضلاً عن الدعم الواسع لسياسات بنيامين نتنياهو التوسعيَّة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم تؤثر الرغبة الأوسع بين اليمين الأمريكي والإسرائيلي في السيطرة والانتفاع بالموارد الطبيعية بالشرق الأوسط، في تلك الجماعات فقط، خاصة حزب الله، بل أيضاً في المجموعات العراقية المختلفة التي تهتم بالسيطرة على حقولها النفطية. بالنسبة لمؤيدي إيران، فإن موقفها الحالي الصعب في مواجهة إدارة أمريكية تطالبها بالخضوع، رغم أنَّها التزمت تعهداتها في الاتفاق النووي، يتوافق كلياً مع سوابق تاريخية لا يمكن تجاهلها.

امتلاك السلاح النووي حق وطني!

داخلياً، رغم الإحباط واسع النطاق من النظام، فإن السعي إلى الحصول على الطاقة النووية كان يصاغ باعتباره حقاً وطنياً في إيران منذ عقود. وبحسب المجلة الأمريكية، كيف زرع الحرس الثوري رسالة قومية في جميع برامجه الثقافية والإعلامية منذ عام 2005 على الأقل؟ ونظراً إلى تصرفات إدارة ترامب ضد الإيرانيين، بداية مما سُمي حظر المسلمين من دخول أمريكا، إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، وصولاً لتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية أجنبية، وهو ما يؤثر في ملايين الشباب الذين قضوا خدمتهم العسكرية الإلزامية بالحرس الثوري، فإنَّ الجمهورية الإسلامية لا تحتاج عملاً شاقاً لحشد الإيرانيين حول الوحدة الوطنية في ظل هذه الظروف. وبدلاً من ذلك، ستكون النتيجة هي عسكرة المجال في الداخل، لتُقمَع الأصوات المعارضة أكثر في مواجهة اعتداء خارجي.

منذ الفيضانات المدمرة التي ضربت كل أنحاء إيران تقريباً، كان صناع الأفلام العراقيون والأفغان واللبنانيون المرتبطون بمجموعات الميليشيات المختلفة بالمنطقة موجودين في إيران، لإنتاج موضوعات إخبارية وأفلام وثائقية عن عمل الحرس الثوري والقوات شبه العسكرية الإيرانية في مساعدة المتضررين من الفيضانات.
اللجوء إلى السينما للتضامن مع إيران

وبحسب المجلة الأمريكية قُدِّمت هذه المواد الإعلامية في إطار ضرورة التضامن مع إيران بكل أنحاء المنطقة؛ إذ تواجه الكوارث الطبيعية وإدارة ترامب في الوقت نفسه. نجحت هذه المجموعات في أنحاء الشرق الأوسط، وحتى بالمجتمعات المعارضة لإيران، في تقديم معاناة اليمنيين على أنَّها أزمة تسبَّب السعوديين في استمرارها. لا تمتلك الأذرع الإعلامية لهذه الجماعات، التي تنشر مواد باللغتين العربية والكردية (بمجموعة متنوعة من اللهجات المحلية)، الميزانية الضخمة المتوافرة للعمليات الإعلامية السعودية أو الإماراتية بالمنطقة. ومع ذلك، فقد أنشأت هذه المجموعات، بالضبط كما في تكتيكاتها العسكرية على الأرض، عمليات اتصال غير متكافئة فعالة.

ربما يأمل المسؤولون الأمريكيون أن تقلل العقوبات من قدرة إيران على تمويل هذه الجماعات، لكنهم في أملهم هذا يكشفون عن سذاجتهم حيال أمرين: أولاً، من خلال شبكات التمويل التقليدية مثل الخُمس وأنواع العشور الأخرى، ستستمر الأموال في التدفق إلى هذه المجموعات، من خلال نظام معقَّد من الحوالات يصعب على وزارة الخزانة الأمريكية تتبُّعه. ثانياً، أنَّ الرغبة في تخليص المنطقة من قوة إمبراطورية أجنبية هي السبب المحفز للسكان بالشرق الأوسط على مدى أجيال. المال ليس العامل الرئيس في هذا الانحياز.

السابق
أغنية تحتفي بقتل المدنيين في إدلب
التالي
مقنع مسلح يسطو على بنك في صيدا