الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان في الميزان…

على اثر ما انتشر في الاعلام ومواقع التواصل من ادعاءات جائرة واشاعات مغرضة حول بيع الاوقاف في المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى لمصلحة خاصة، دون الالتفات الى ان تلك البيوع المشروعة هي من صلاحيات المجلس وهدفها نماء وتطوير هذه الاوقاف وهو ما تحقق، ومع استمرار هذه الحملة الشعواء وما رافقها من ظلم فادح تعرّض له رئيس المجلس الشيخ عبد الامير قبلان دون مراعاة لمركزه وسنّه وتاريخه ومقامه الديني والانساني، كان لا بدّ لنا من الادلاء بما لدينا وبما نعرفه عن سيرة هذا الشيخ الجليل واخلاقه، وان نعرض لاعماله ومواقفه الشجاعة أيام فتوته، حين حمى طائفته في اصعب ايام الحرب الاهلية بعد غياب الامام الصدر، وهو الذي لا يملك اليوم ميليشيا تدافع عنه، ولا قضاء يسطر اتهامات لمن يتعدّى على مقامه.

مولده ونشأته وانطلاقته في العمل الديني والاجتماعي

ولد آية الله الشيخ عبد الأمير قبلان – الرئيس الثالث للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى – في جنوب لبنان وفي بلدته ميس الجبل من بلاد الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة وهي البلدة العاملية التي خرج من رحمها فطاحل الفقهاء والعلماء والمحققين عند الشيعة من أمثال المحقق الميسي الذي عُرف منذ خمسة قرون في مدينة إصفهان الإيرانية وهناك مسجد من أكبر مساجدها يُسمى باسمه وكانت هجرته إلى هذه المدينة الإيرانية زمن اضطهاد علماء الدين الشيعة في جبل عامل في الحقبة العثمانية …

والشيخ عبد الأمير هو إبن هذه البلدة العاملية تربى فيها في أيامه الأولى على يدي والده العلامة الشيخ محمد علي قبلان الذي ترك العديد من المؤلفات منها في الحسين عليه السلام ومنها في الأخلاق وغير ذلك .

ووالد الشيخ محمد علي هو العلامة الشيخ موسى قبلان من علماء جبل عامل المعروفين في زمانه ، وكان لوالد الشيخ عبد الأمير كما لجده الدور الأكبر في تنشئته تنشأة دينية وفي توجيهه لاحقاً لطلب العلوم الحوزوية الشرعية الدينية وقد شرع بدراسة مراحلها الأولى المقدماتية على يدي والده المغفور له وانتقل إلى بيروت ليتابع بعض الدراسة الأكاديمية في بيروت إلى جانب ذلك وكل ذلك قبل أن يشد الرحال لمواصلة دراسته الحوزوية في الحوزة العلمية الكبرى في النجف الأشرف التي هاجر إليها يافعاً برفقة والده ليقطع في النجف جميع مراحل الدراسة الحوزوية في غضون عقد ونصف من الزمن حضر فيها بقية مواد مرحلة المقدمات ودروس السطوح الدانية والعالية ودروس البحث الخارج الفقهي والأصولي، وقد عُرِف من أساتذته في السطوح : آية الله الفقيه الشيخ محمد تقي الجواهري وآية الله الأصولي السيد إسماعيل الصدر، ومن دروس الخارج حضر أبحاث مرجعين من مراجع الطائفة في عصره هما : المرجع السيد محسن الطباطبائي الحكيم والمرجع السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي ، وقد أجازه الاجتهاد والفقاهة كل من السيدين: الفقيه السيد إسماعيل الصدر والمرجع السيد كاظم شريعت مداري ، وعاد إلى لبنان محمَّلاً بوكالات العديد من فقهاء النجف الأشرف بعد أن عمل مدة وكيلاً للسيد محسن الطباطبائي الحكيم في بعض نواحي محافظة الناصرية في العراق.

وكان قد اشتغل الشيخ عبد الأمير قبلان مدة بتدريس مرحلتي المقدمات والسطوح في النجف الأشرف وتابع جهده هذا بعد عودته إلى بيروت وتخرج على يديه بين النجف وبيروت مئات العلماء وبعضهم يشار إليه بالبنان، وعاد إلى بيروت ليتصدى لإمامة مسجد الإمام الحسين عليه السلام في منطقة برج البراجنة وليكون مرشداً لمؤسسات الجمعية الإسلامية في المنطقة المذكورة ، ووكيلاً عن السيد محسن الطباطبائي الحكيم في المنطقة المذكورة وفي لبنان.

وفي هذه المنطقة المذكورة بدأت رحلته التبليغية والاجتماعية لاستنهاض الشيعة من حالة الاستضعاف والفقر،  وقد فتح كل أبوابه لقضاء حوائج الناس من فقراء وضعفاء الشيعة ، وقضى في طول مدة عمله الاجتماعي والتبليغي ملايين الحوائج من متابعة الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمطلقات والعجزة، وكفى العشرات من العلماء بوظائف عليا من إفتاء وقضاء ومدرس فتوى وإمامة لمركز دينية في مختلف المناطق اللبنانية، وساهم في توظيف الآلآف من أبناء الشيعة في دوائر الدولة وفي تأمين الآلآف من الوظائف للشباب الشيعة في المؤسسات الخاصة المختلفة، وما قصده أحد إلا وتدخل لمساعدته ولو باتصال بالمسؤولين ، وعالج ملايين المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من خلال نفوذه كإمام للجماعة أولاً وكوكيل للمرجعية ثانياً وكمفتي جعفري ممتاز ثالثاً وكرئيس لمحكمة حركة امل وكمرشد روحي لها رابعاً وكنائب لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى خامساً وكرئيس لمجلس أمناء الجامعة الإسلامية في لبنان سادساً، وكأمين لمستشفى الزهراء عليه السلام سابعاً وكرئيس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أخيراً …

رعايته للمؤسسات والمراكز الدينية

رعى آية الله الشيخ عبد الأمير قبلان في رحلته مع العمل التبليغي الديني والعمل الاجتماعي والسياسي، رعى تأسيس واستمرار العديد من المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية والدينية، فمن مسجده في برج البراجنة رعى أنشطة المسجد المختلفة، سيما وظائف العالم الديني فكانت خطبة الجمعة التي كان يلقيها لأربعة عقود من الزمن في المسجد المذكور كانت الموقف للكثير من قضايا الساعة بالنسبة لأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية. وإلى جانب المسجد المذكور رعى مدرسة أكاديمية تابعة لمؤسسات الجمعية الإسلامية ألا وهي : ” مدرسة التكامل الإسلامي “، وقد ساهم في مساعدة مئات المعوزين للتعلم في هذه المدرسة من أسر الشيعة المتعففة من المقيمين في بيروت وأطرافها. وهناك عشرات المساجد والحسينيات تأسست برعايته ومساعدته في الجنوب والبقاع، ومن هذه المساجد والحسينيات في الجنوب مسجد وحسينية بلدة شبريحا ومسجد وحسينية بلدة كفرا، ومنها في البقاع مسجد وحسينية بلدة بيت شاما ، ومنها في بيروت : ” حسينية الرمل العالي ” وحسينية ” حرش القتيل ” وحسينية ” حارة حريك “، وقد تحوَّل مبنى الحسينية الأخيرة لاحقاً إلى حوزة علمية يرعاها المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان نجل الشيخ عبد الأمير، كما أسس سماحته حوزة علمية أخرى لترعى طلاب العلوم الدينية وذلك في بلدته ميس الجبل في جبل عامل، وهذه الحوزة – أيضاً – يرعاه ولده الشيخ أحمد ..

وإلى جانب كل ذلك ساهم ورعى الشيخ عبد الأمير تأسيس العديد من المستوصفات الصحية في المناطق ودور الرعاية الاجتماعية تجد التفصيل عنها في مقدمة سلسلة كتاب: ” انتفاضة الورع في خطب الجمع ” المطبوع.

كما كان للشيخ عبد الأمير دوراً في تأسيس العديد من المكتبات العامة بين العراق ولبنان وآثاره في هذا الجانب موجودة في محافظة الناصرية العراقية كما في بيروت وجبل عامل ، وقد أمر الشيخ ببناء مركز دراسات في العقار التابع لمبنى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى القديم في منطقة الحازمية، فتم بناؤه على الطراز الحديث، وهو يحوي اضافة للمركز ومكاتب الموظفين والباحثين، مكتبة العامة، وقاعة محاضرات، وقاعة سينما.

التقدم العلمي وتطوير “الجامعة الاسلامية”  في عهده

جامعة IUL هي الجامعة الإسلامية في لبنان والتي بدأ مشروع بنائها بداية في منطقة خلدة القائد المغيب السيد موسى الصدر بالتعاون مع المرجع السيد محمد رضى الموسوي الگلپايگاني لتكون بداية فكرة لأول مبرة ترعى أيتام الشيعة في لبنان الذين كانوا في ازدياد مستمر بسبب حروب الأحزاب الداخلية والحروب الإسرائيلية المتكررة على الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني،  ولكن السيد الصدر قرر أن تكون رعاية الأيتام في تلك المرحلة عبر التعليم فحَوَّلَ فكرة المبرة إلى فكرة مهنية لتعليم المهن بمشورة ممولي المشروع المذكور فكان تأسيس مهنية الزهراء عليها السلام لهذا الغرض، وقد تحولت المهنية بعد غيابه إلى فكرة جامعة تابع تأسيسها رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السابق الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وانطلقت فكرة الجامعة بمعونة الخبراء والخيرين والأكاديميين الشيعة من داخل لبنان وخارجه لتستقطب الأنظار وتتحول إلى أهم مؤسسة أكاديمية شيعية في عهد مؤسس الجامعة الشيخ شمس الدين.

وتطورت اتفاقات التوأمة بين الجامعة والجامعات الأخرى داخل لبنان وخارجه، كما تطورت هذه الاتفاقات بين الجامعة والمعاهد الدينية الحوزوية ليزداد عدد طلابها في عهد الشيخ عبد الأمير إلى الرقم القياسي حيث بلغ عدد طلابها الأكثر من بين جميع الجامعات الستين يومها في لبنان، كما أنها تقلدت رئاسة رابطة الجامعات اللبنانية في عهد الشيخ عبد الأمير قبلان، وبلغ عدد مشاريع التخرج فيها العدد الأكبر من بين مشاريع التخرج لجميع الجامعات اللبنانية،  وتوسعت مساحتها عبر فروعها الأربعة بين بيروت وصور وبعلبك لتصبح أكبر جامعة من حيث المساحة في لبنان وازداد حجم مساحتها بعد افتتاح فرعها الجديد في منطقة الوردانية المؤلف من 15 مبنى، لتحافظ بذلك على موقعها كأكبر جامعة في لبنان من حيث المساحة.

وفي عهد الشيخ عبد الأمير تعلم الكثير من الفقراء في الجامعة بمساعدات جزئية أوكلية أحيانا، كان سماحته يقدمها لهؤلاء ، كما أصبح للجامعة حصة من الطلاب الخمسة الأوائل في الجامعات اللبنانية في مختلف الاختصاصات ، ومؤخراً اتجهت الجامعة في عهد الشيخ عبد الأمير إلى العالمية عبر اعتراف الاعتماد الأكاديمي الفرنسي الرسمي بشهاداتها وبعد أن أصبحت كل شهاداتها واختصاصاتها معترفاً بها من قبل وزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية بما في ذلك شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية لتحافظ الجامعة في عهد الشيخ عبد الأمير على هويتها الدينية وليبقى أبناء وبنات الطائفة الشيعية – خصوصاً المتدينين منهم  يجدون ملاذاً لهم من بين المعاهد والجامعات للتخصصات العليا ، فالجامعة الإسلامية أصبحت في عهد الشيخ عبد الأمير هي الجامعة الأفضل من حيث التوجه الإسلامي على الإطلاق من بين جميع الجامعات اللبنانية،  وساهمت وتساهم في تطوير الجامعات الأخرى عبر خرِّيجيها في مختلف الاختصاصات.

“مستشفى الزهراء” أصبح جامعيا في عهد الامام قبلان

مستشفى الزهراء الجامعي، بدأ في لبنان كمستشفى متنقل وهبته دولة أجنبية ليتسلمه الإمام القائد المغيب السيد موسى الصدر عام 1976، ويكون في مكانه الحالي في منطقة الجناح في بيروت، وليعمل الامام الصدر على تثبيته كمستشفىً يقوم بسد الفراغ في الجانب الصحي الذي كانت تعاني منه الطائفة الشيعية في لبنان في مؤسساته، فقد كان فقراء وضعفاء ومعوزو الشيعة يهيمون على وجوههم بحثاً عن مراكز استشفائية يمكنها تقديم المعونة لهم في هذا الجانب، وقد لاقى أبناء الطائفة الويلات وشتى أنواع الاستغلال لحاجاتهم في هذا الجانب، إلى أن بذر السيد الصدر بذرة هذه المستشفى وأصبحت مستشفى محترمة في عهد الامام شمس الدين رحمه الله، ولكنها تحوَّلت في عهد الشيخ عبد الأمير إلى مستشفىً جامعي لا يقتصر على معالجة المرضى بل يدرب طلاب الطب في مختلف الاختصاصات وعلى أرفع المستويات الجامعية الممكنة في البلد .

ولقد كانت الانطلاقة التي شهدها هذا المستشفى في عهد الإمام الصدر مليئة بالظلمات التي واكبت الحرب الأهلية وازدادت هذه الظلمات بتغييب السيد الصدر ليخلفه الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي حافظ على استمرار هذا المستشفى وتطوره بشكل ملحوظ ، كما سعى الشيخ شمس الدين ليبقى هذا المستشفى مؤدياً لجميع وظائفه الممكنة في تلك المرحلة . ولكن التطور الأكبر الذي شهده هذا الصرح الطبي في زمن الشيخ عبد الأمير هو في تحوُّلِه إلى صرح جامعي أولاً، وإلى توسُّعِه في الإنشاءات والأبنية المختلفة ثانياً، وفي ترقيه ليصل إلى درجة الخمس نجوم ثالثاً، وفي تطور مختلف اختصاصاته الطبية عن طريق تشغيل أكفأ الأطباء فيه رابعاً، وفي حصوله على الكثير من أحدث الأجهزة الطبية المتقدمة من أنحاء العالم خامساً وفي ارتفاع معدل المراجعين له من المرضى من مختلف أنحاء لبنان ومن الخارج سيما العراق سادساً وفي تصنيفه كأكثر مستشفى يقدم الخدمات الطبية في لبنان سابعاً وفي ازدياد حجم كادره الطبي من الأطباء والممرضين والممرضات ثامناً، وفي تحسين أداء مختلف الوظائف فيه بعد ترأسه من قبل الپروفسور يوسف فارس تاسعاً، وفي ازدياد تقديماته الاجتماعية لعلماء الدين الشيعة الذين لا يجدون من يرعاهم من الناحية الصحية عاشراً.

وكل هذا التطور الطبي والخدماتي في المجال الصحي حصل في هذا المستشفى في عهد الشيخ عبد الأمير وببركة توجيهاته المختلفة التي يلاحظ فيها مساعدة الضعفاء والمحرومين مهما أمكنه وفي حدود ما لديه من صلاحية ونفوذ على مختلف قطاعات هذا الصرح الصحي الجامعي …

المجلس الشيعي “مفتوح للجميع” في عهد الامام قبلان

بالرغم من تقديم الإمام القائد المغيب السيد موسى الصدر أكبر خدمة للشيعة في لبنان على مستوى مؤسسات الدولة الرسمية وتمكنه من إيجاد كيان مستقل لهم عبر تأسيسه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كدائرة دينية مستقلة للشيعة ، وليكون هذا المجلس : ” جمعية الجمعيات ” كما كان يردد مؤسسه، فبالرغم من كل ذلك تم تغييب الامام الصدر قبل أن يكمل مشروعه هذا، وحاول من بعده الإمام الشيخ محمد مهدي شمس  الدين أن يحافظ على استقلالية المجلس الشيعي، ولكنه لم يتمكن من استيعاب الكل تحت لواء المجلس بسبب كثرة الصراعات على النفوذ التي كانت تحكم الوسط الشيعي في تلك المرحلة.

أما الإمام قبلان فبعد تقلده زمام الأمور استطاع فتح أبواب المجلس للجميع من علماء وأحزاب وشخصيات كان الكثير منها لا ينسجم فكرياً مع سلفه، وصرت ترى في المجلس علماء ومثقفين من الشيعة كانوا غائبين عن المجلس في زمان سلف، كما توسعت مساعي الشيخ عبد الأمير لاستيعاب مختلف طبقات الشيعة في لبنان تحت لواء المجلس، وقد نجحت محاولاته وانتهت بالتوافق عليه من قبل الجميع، هذا التوافق الذي حُرِم منه سلفه بالرغم من أهلية سلفه بلا إشكال.

فقد تمكن الشيخ عبد الأمير من توسيع امتدادات المجلس الشيعي في وسط الشيعة وتوسعت في زمانه دوائر المجلس وزادت الإنشاءات والأبنية فيه لتشمل العديد من القاعات، كما تحوَّل الحضور في عهده أيام عاشوراء إلى حضور جماهيري مميز، وكل ذلك بفضل حنكته وحكمته في إدارة الأمور، وهو الذي عُرِف عنه حرصه على رعاية الشعائر الدينية سيما الحسينية منذ عاد من النجف الأشرف إلى لبنان وما زال يعمل في هذا الاتجاه،  فالمجلس الشيعي أصبح نسبياً للجميع في عهد الشيخ عبد الأمير، وإن محدودية خدماته في المرحلة الراهنة خاضعة لمحدودية ميزانيته المالية ووارداته حاله كحال بقية المؤسسات، ولا يمكن تحميل كل آثام العرب والعجم لسماحته في هذا الجانب.

 نماء الوقف الشيعي في عصره

أوقاف الشيعة في لبنان كانت قليلة نسبياً بعد انهيار الدولة العثمانية بسبب الضغوطات التي عانى منها الشيعة اللبنانيون في تلك الحقبة، وإن كانت بعض الأسر الشيعية أفادت من السلطة العثمانية وتمكنت من الحصول على بعض العقارات الوقفية، ولكن أكثر الأوقاف الشيعية تعرضت للعدوان زمن العثمانيين تماماً كما كان حال علماء الشيعة في تلك المرحلة، وبدأت الأوقاف الشيعية بالنماء والتطور بعد قيام الدولة اللبنانية حيث كثرت مساجد الشيعة كما الحسينيات في مختلف القرى والبلدات الشيعية ، كما تم وقف المئات من الأراضي كمدافن للطائفة الشيعية وأوقف بعض الأغنياء والمغتربين وبعض الذين لا وريث لهم الكثير من الأراضي والمباني في حُقب مختلفة حتى جاء الإمام الصدر ليقوم بتوسيع الأوقاف الشيعية وحمايتها بالمزيد من القوانين الوقفية بتأسيسه لمجلس الملة، وتطورت الأوقاف بعده زمن سلفه الإمام شمس الدين والتي توزعت بين مساجد وحسينيات وتوابعها ومراكز صحية واستشفائية ومدافن للطائفة في مختلف المناطق ..

كما زادت الموقوفات من الأراضي والمحلات التجارية والمباني السكنية في هذه المرحلة حتى قدَّر بعض الخبراء قيمة أملاك الطائفة الوقفية في مرحلة الشيخ شمس الدين من أموال غير منقولة وبعض المنقولات قدَّر هذا البعض قيمتها بملايين الدولارات الأمريكية.. وهذه الأوقاف نمت بشكل مضاعف في عصر الشيخ عبد الأمير حتى بلغ مجموعها ضعف ما كانت عليه زمن سلفَيْه ، فقد زاد عدد المساجد والحسينيات والمجمعات الدينية والعقارات الوقفية والمجمعات التربوية الموقوفة وغير ذلك في عصر الشيخ عبد الأمير بشكل ملحوظ ، وما زالت الأوقاف في نماء زمن ولايته للمجلس الشيعي وخير شاهد على هذا النماء المجمع التريوي الضخم الذي يقيمه الوقف الجعفري في منطقة الليلكي في الضاحية الجنوبية والذي هو عبارة عن مجموعة من المدارس الأكاديمية الكبرى. وهذا المجمع التربوي يعتبر من أضخم المشاريع الوقفية التي تم إنجازها في عهد ولاية الشيخ عبد الأمير وما زال هذا المجمع التربوي في نماء مستمر وهو خير شاهد عملي على تطور الأوقاف الجعفرية في عهد الشيخ عبد الأمير فلا ينبغي النظر إلى هذا الملف بعين واحدة ، خصوصاً بعد الإثارات الإعلامية الأخيرة حول ملف الأوقاف الجعفرية ولا أريد الحديث عن حقيقة الأمر في هذا الملف بل اتركه لغيري، والله العالم بحقائق الأمور، فنماء الوقف الجعفري ولدى مختلف الاتجاهات السياسية والتجمعات الشيعية في لبنان في عهد الشيخ عبد الأمير خصوصاً الأوقاف التي تحت سلطة المجلس الشيعي هو خير شاهد على حكمة الشيخ وعدالته في تشجيع الوقف والحرص على نموه فما نعلمه من دينه وتقواه يحول دون التفريط بالأوقاف الشيعية في غير الوجه الشرعي.

مواقفه الصلبة في الدفاع عن حركة أمل

أما على صعيد مواقفه السياسية فمواجهة العدو الإسرائيلي بالقول والعمل هي من الثوابت عنده لأنه يرى أن إسرائيل لن تتوقف عن أطماعها في لبنان ما دامت موجودة على الخارطة، وهي تريد تشريد الشيعة والسنة والدورز والمسيحيين من قرى الجنوب اللبناني لتقيم دولتها المزعومة في طموحها القريب والبعيد الذي تقف المقاومة اللبنانية حجر عثرة أمام تحققه لذلك رعى الشيخ عبد الأمير المقاومة في كل مراحل تأسيسها وتطورها وكانت مواقفة منسجمة مع مواقف بقية قادتها من المؤيدين له والمعارضين.

داخليا دافع الشيخ قبلان عن حركة أمل وعن قيادتها خصوصا بعد وصول الاستاذ نبيه بري الى سدّة رئاستها عام 1980، فكان الشيخ المساهم الأكبر بتزكيته ومجيئه وداعما له بقوة، وشجع كوادر الحركة الذين كانوا مترددين على الولاء للقيادة العتيدة، خصوصا ان الشيخ قبلان كان الأقوى تأثيرا حينها  في الحركة، التي كانت بحالة اضطراب ومرحلة اعادة تأسيس اثر الغياب المفاجىء للإمام الصدر. وقد توالت الاعتداءات علي حركة امل وتفاقمت الامور بعد اغتيال عدد من مسؤوليها، فاندلعت اشتباكات متفرقة بينها وبين الفصائل اليسارية اللبنانية المدعومة من منظمة التحرير الفلسطينية (1978 – 1982) في الجنوب والضاحية الجنوبية، وكانت عبارة الشيخ قبلان المشهورة “لن نسمح بضرب حركة أمل” التي قالها على المنابر دون خوف أو وجل في زمن الفوضى والاغتيالات وسيطرة القوى المناوئة، كانت غاية في الجرأة حينها، وكاد ان يدفع حياته ثمنا لها، اذ تم الاعتداء على منزله في بيروت وضرب بقذيفة ب 7، وعندما نزح الى الجنوب طارد موكبه مسلحون في بلدة الطيبة واطلقوا عليه الرصاص فأصابوا سيارته ولكنه نجا بفضل عناية الله وقدره ودعاء محبيه.

رعى الشيخ عبد الأمير المصالحة الشيعية –الشيعية بكل قوة على أثر الصراع الدموي بين حزب الله وحركة أمل عام 1989 وكان له الفضل الأكبر في إيقاف النزف في الجسد الشيعي يومها بوصفه رئيس الهيئة الشرعية في حركة أمل، كما رعى التقارب بين المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله والمجلس الشيعي.

كما دعم القضية الفلسطينية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الديار المقدسة في فلسطين وما زالت مواقفه ثابتة في هذا الاتجاه. وينظر للجمهورية الإسلامية الإيرانية على أنها دولة مدافعة عن حقوق جميع المستضعفين في العالم، وحاول كسر طوق الخلافات المذهبية والعقائدية بين السنة والشيعة في لبنان ببعض الكلمات التي أطلقها ضد المروجين للفتنة بين المسلمين وأساء البعض استيعاب أبعادها وفهم مبرراتها التي تفرضها ضرورة توحيد المسلمين في وجه موجة التكفير المتبادلة التي تجتاح البلاد الإسلامية، كما أكد ويؤكد على التعايش السلمي بين جميع اللبنانيين والتوافق على الحكم بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، وهذا بعض من مواقفه السياسية وما لم نذكره أكثر .

حرصه على تعظيم الشعائر الحسينية 

لا يستطيع أحد من شيعة لبنان أن ينكر أو يتنكر لاهتمامات الشيخ عبد الأمير بتعظيم الشعائر الحسينية والذي تجسد في جملة من الأبعاد، ومن بينها ما سبق وأشرنا إليه من اهتمامه بتشييد الحسينيات لإقامة عزاء سيد الشهداء عليه السلام في مختلف المناطق اللبنانية، وهذا النهج الحسيني هو كما كان الإمام القائد المغيب السيد موسى الصدر في حركته الحسينية التي أوصى عناصرها وكوادرها بما كتبه بدماء شهداء انفجار عين البنية حين كتب بدماء هؤلاء الوصية الحسينية الخالدة : ” كونوا مؤمنين حسينيين”.

وتجسد اهتمام الشيخ عبد الأمير بالقضية الحسينية كأي عالم من علماء الشيعة من خلال إقامة المجالس الحسينية العاشورائية والرمضانية والتي كان يقيمها في حسينياته الثلاث الخاصة التي شيدها بين منطقة برج البراجنة ومنطقة بئر حسن ومنطقة حارة حريك ورعاها بنفسه وتابع إحياء المجالس العاشورائية فيها من ميزانيته وماليته. وكان يدعو للقراءة فيها مشاهير القراء والخطباء والعلماء فمرة في شهر رمضان في موسم من المواسم يدعو عميد المنبر الحسيني الراحل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي ليلقي ما في جعبته من المعارف في شهر رمضان ، ومرات ولسنوات طويلة يواظب على دعوة شيخ القراء العلامة الراحل الشيخ عبد الوهاب الكاشي ليحيي أيام عاشوراء ولياليها ومختلف المناسبات سيما المجلس العزائي الحسيني الأسبوعي الذي كان يقيمه الشيخ عبد الأمير لعقود من الزمن في دار الإفتاء الجعفري وكان يحضره جُلُّ العلماء ومختلف الشخصيات، وكان أستاذ العلماء الفقيه آية الله الشيخ حسن طراد يواظب على حضور هذا المجلس الحسيني الأسبوع ، وكان خطيب هذا المجلس الشيخ عبد الوهاب الكاشي.

ودعا لعدة مرات الخطيب الشهير الدكتور الشيخ إبراهيم العاملي ليقرأ في الندوة الأسبوعية العلمائية التي كانت تعقد لسنوات في قاعة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كما انتدب الدكتور العاملي لموسمين ليقرأ له طيلة شهر رمضان في حسينية حارة حريك مرة – حيث الحوزة العلمية التي أسسها ويرعاها ولده المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد – وفي حسينية بئر حسن مرة أخرى حيث المركز الطبي الذي يرعاه – أيضاً – نجله الشيخ أحمد، وكان يرسل الدكتور العاملي للقراءة في أهم مراكز القراءة الحسينية في لبنان ومنها في عاشوراء في نادي الإمام الصادق عليه السلام في مدينة صور الجنوبية وفي الأيام الفاطمية في حسينية حارة حريك حيث الحوزة العلمية، وكان آخر اهتمام الشيخ عبد الأمير بالشعائر الحسينية تحويله قاعات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى ساحة لعاشوراء في ليالي عاشوراء يدعو للقراءة فيها الخطيب الحسيني السيد نصرات قشاقش.

وهذا غيض من فيض اهتمام الشيخ عبد الأمير بالشعائر الحسينية التي يُشهد له فيها من القاسي والداني ، وقد تربت أجيال من العقائديين والولائيين في كل هذه المجالس التي رعاها وأسسها سماحته في العقود الخمس من سنوات خدمته لأمته وشيعته في لبنان، فمن العار أن يتهم الشيخ عبد الأمير في تشيعه أو ولائه لأهل البيت عليهم السلام بسبب بعض المواقف السياسية التي أطلقها ويطلقها قد تفرض بعضها الوحدة الإسلامية تارة والوحدة الوطنية أخرى ..

مساعداته المالية للعلماء والمحتاجين والفقراء والمعوزين

لقد اشتهر في لبنان بكثرة العطاء وعدم ادِّخار الصفراء والخضراء الفقيه المجتهد الشيخ إبراهيم سليمان إمام بلدة البياض الجنوبية ، وهو الذي كان يعتبر في مرحلة من المراحل المرجع الروحي لحركة أمل في لبنان ومنه كانت الشيعة في زمانه تأخذ المواقيت لأهلة الصوم والعيد في شهر رمضان، ولما كان خطيب مجالس الشيخ سليمان في عاشوراء العالم المحقق عميد الخطباء الدكتور الشيخ إبراهيم العاملي ورأى الدكتور العاملي منه كثرة العطاء للعلماء والضعفاء والفقراء قال له الدكتور العاملي يومها : ” إني لم أرَ في لبنان مثلك في العطاء ! ” ، فقال له الشيخ سليمان: “بلى هناك من هو مثلي”، فسأله الدكتور العاملي: “من؟”، فقال الشيخ سليمان: انه “الشيخ عبد الأمير قبلان”.

وهذه هي الحقيقة فمن يرى الشيخ عبد الأمير عن قرب ومن لازمه عن كثب يلتمس هذه الخصلة فيه، فهو لا يبقي في جيبه مالاً عندما تأتيه الحقوق الشرعية أو الهبات والمساعدات، بل يبادر للعطاء لمن حضر من علماء أو فقراء أو محتاجين أو أرامل أو مطلقات أو أيتام، وهذا أمر شاهده منه الكثيرون ممن لازموه، حتى قال أحد العلماء : ” كنت آخذ منه لنفسي ولغيري في الشهر الواحد ثلاثين مليون ليرة لبنانية “، وميزة العطاء هذه عند الشيخ تمثلت في كونه يعطي كل ما في جيبه ولا يدَّخِرُ من ذلك لنفسه شيئاً، كما تمثلت في عدم تمييزه بين مراجعيه على أساس حزبي فالكل استفادوا منه عند الشدة والحاجة، تماماً كما يستفيدون من مؤسسات المجلس كافة، وكما ينعمون باستثمار الكثير من الأوقاف الجعفرية والتي تجري بها أرزاق الكثير من العاملين في إدارة هذه الأوقاف وتسييرها لتؤدي وظائفها المشروعة ، وقد أجرى الشيخ عبد الأمير من الحقوق الشرعية والمساعدات والهبات التي كانت تجتمع لدى محاسبة دار الإفتاء الجعفري – كما لدى محاسبة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى – من الأغنياء والجهات الداعمة أجرى من هذه الأموال ووزعها أرزاق على مئات من العلماء بشكل شهري وهذا أمر لا يمكن تكذيبه، وإن كانت المنابع المالية قد جفت في السنوات الأخيرة فتجنَّى البعض على سماحته ليتهموه بالتقصير! وهم الذين نعموا بعطائه لعقود من الزمن عبر مكتبه في دار الإفتاء الجعفري قبل رئاسته للمجلس الشيعي وعبر محاسبة المجلس بعد أن تقلد سماحته زمام الأمور، علماً أنه لم يرث من أموال أسلافه شيئاً لمالية المجلس في مرحلة رئاسته ما خلا بعض المبالغ التي كانت أمانة عند أحد العلماء والتي ساهم فيها الشيخ عبد الأمير – مع تبرعات أخرى – بتطوير كل من مستشفى الزهراء الجامعي والجامعة الإسلامية في لبنان ..

وللأمانة فالله تعالى يقول: “ولا تبخسوا الناس أشياءهم”، ويقول سبحانه: “اعدلوا هو أقرب للتقوى”، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: “من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق”…

السابق
اعتصام لاهالي موقوفي أحداث عبرا طالب بإقرار قانون عفو عام وشامل
التالي
بعد قرنة شهوان… «لقاء البيت اللبناني» لتحرير لبنان من الوصاية الإيرانية