متلازمة اسمها «أنا الشيوعي الأخير»

“قيادي” شيوعي لا يتردّد في وصف نفسه بـ”الشيوعي الأخير”. “قائد” شيوعي آخر يمرّر عبر الإعلام الصفة ذاتها عن نفسه: “اليساري” الأخير. وثلّة من “الشخصيات البارزة” تحوم حول هذه الصفة، وتتراوح عباراتها بين “الشيوعي الحقيقي” و”الشيوعي الأصيل” و”الشيوعي الصحيح”.. إلخ. ودائماً مع “الرتبة” القيادية، وقصده الضمني أنه وحده هو الشيوعي؛ ولا مرة ترى واحداً من القاعدة الشيوعية ادعى هذا الاستثناء عن بقية رفاقه. وحدهم “القياديون” السابقون يعانون من هذه المتلازمة (syndrome)؛ وهذه الأخيرة هي إشارات وسلوكيات تصدر عن جماعة متشابهة، بعد تعرّضها لصدمة، كبيرة أو صغيرة. وفي حالتنا، تتمثل “الصدمة” بالسقوط المروِّع للشيوعية، وبقلعتها وتوابعها؛ وما لحقها من هيمنة جديدة لأفكار هي على نقيضها التام؛ حتى في الدول نفسها التي جسّدت الشيوعية المتحققة، الواقعية. ما هو معنى هذه المتلازمة؟
احتكار صفة الشيوعي، وكأنها ترمي إلى نزع الصفة نفسها عن آخر يعتبر نفسه شيوعياً، هو نوع من الهرطقة الشيوعية؛ كما هو خروج أحدهم بالقول إنه المسلم الأخير، أو الوحيد. مثل الأديان، تنشد الشيوعية الكمال والانصهار؛ ولا يلتقي شيوعيان يدّعيان الاستحواذ على الصفة، إلا ويكون أحدهما غير شيوعي أصلاً. ولا يقف الشبه مع الدين عند هذا الحدّ؛ فالشيوعي الأخير، بعد الأوحد، هو بمثابة خاتم للدعوة الشيوعية. لا قبله ولا بعده. نوع من التطويب الذاتي، لا يحتاج إلا للموت لتكتمل حلقاته. كأنه يقول للذين أتوا، أو لم يولدوا بعد، إنكم إذا أردتم شيوعيةً فخذوها من سيرتي، من قيادتي، من اسمي، من وجهي، من كتاباتي. من تصدّق من بين هؤلاء المبرّزين، بأي “مزاج” تختار من بينهم؟ وبناء على أية ميول؟ أي نزوع؟

اقرأ أيضاً: «الحروب الصليبية»: مظلومية مستحدثة ذات عواقب

أسئلة أخرى حول هذه المتلازمة: مثلاً، ماذا يعني أن يكون المرء شيوعياً؟ أنه قرأ كل كتابات ماركس وإنجلز ولينين وستالين؟ أنه لم يكْتفِ بهذا، بل توغّل في تاريخ الثورات الشيوعية، وعرف مجرياتها وخلاصاتها واستنتج من تجاربها؟ ثم: بعدما قرأ هذا كله، هل استوعب ما قرأه، هل فهم حقاً ما قرأه؟ وبأي معيار تحكم عليه، على درجة شيوعيته “الثقافية” هذه؟ أم أن الشيوعي لا يحتاج الشيوعي إلى هذه الثقافة بالأصل، خصوصاً الشيوعي القاعدي، البسيط. وعليه الاكتفاء بالملخصات، وجلسات التثقيف والتوعية، وإلى ما هنالك من دروب أنشطة “قاعدية” تؤمِّن للقيادة مواقعها التعليمية، الأستاذية، وسيطرتها على “الأفكار” التي قرأتها وحدها واستوعبتها وحدها؟
ثم بعد القراءة، أو اليقين بالأحرى، ماذا عن “تطبيق” هذه الشيوعية؟ إذ لا تقوم النظرية الشيوعية بغير ممارسة. صح؟ والتطبيق على كل المستويات: يعني في السياسة، هل طبق هذا الشيوعي القديس النظرية الشيوعية؟ أم أن الواقع لم يسمح له. ومع ذلك، واصل شيوعيته “المطبّقة” و”ناضل” في هذه الظروف المضطربة، وساوم وحسب، وناور، وغطى وتلاعب… ومع ذلك بقي شيوعياً؟ أم أن الإنجاز كان بأنه “تبوأ” موقعا “قيادياً، فآمن بنفسه كـ”شيوعي وحيد”؟ ليس للسذاجة السياسية حدود، تلْهمك أحياناً. ومن بناتها أنه يحق لك أن تسأل هذا الشيوعي الأوحد والأخير إذا بقي شيوعياً، وهو يخوض في حسابات مجتمعه ومذاهبه وزواريبه وحروبه.. وأن لوثة واحدة لم تنَل منه؟ ولا نحسب هنا البيئة التي نشأ فيها هذا القديس: هل وجب أن يكون والداه شيوعيين؟ وهل الآباء الشيوعيون يختلفون عن الآباء غير الشيوعيين بتربية أولادهم؟ هل النتيجة التي نراها على الأرض أثمرت شيوعيين “أقحاحا” على يد هذه أو تلك من العائلات؟ بل، مرة أخرى، هل يعني شيئا أن يكون المرء شيوعيا “قحّاً”؟
في الاجتماع والأخلاق الشيوعييَين، هل كان هذا الشيوعي الأوحد والأخير مثالاً يُحتذى به، كما يحب أن يبدو؟ هل كان يعامل من حوله بالروح المساواتية الشيوعية، بالتقاسم، بالغيرية، بالانكباب على الفئات المستحقة كما تنصّ الشيوعية؟ لا يعرف عن هؤلاء المطوِّبين أنفسهم نفَسَاً من هذا القبيل، هم الذين شبّوا على امتيازاتٍ حزبية، وتهليلٍ وتبخير، فصاروا يؤمنون باستثنائيتهم، كلٌ على حِدة، بأن الله كسر القالب عندما خلقهم. وبذلك لا يستطيعون النظر إلا إلى “فوق”، ولا مرة إلى “تحت” حيث قد يجدون أيضا من يقول عن نفسه “شيوعي حقيقي”؛ ولكنه لا يملك العلاقات ولا المنابر، ولا الطاقة، ولا الغرور..
يشبه هؤلاء العظماء من بين القوم الزعماء الذين يحكموننا. مع فرق واحد أنهم ليسوا في السلطة. أو أنهم يحتلون الموقع الأدنى في جهاز السلطة الثقافية والإعلامية، وشِلَله المنتشرة في المدينة. ومع فارق آخر، أنهم لا يأملون خيراً كثيراً، بعد كل هذا العمر، وكل هذه الهزائم، إلا بقطعة من ذاكرة الجموع؛ ترسخ استثنائيتهم بوجه تاريخ طاحن، فيحمون وجوههم بقداستهم، مقلّلين بذلك من أضرار النسيان على أسمائهم. شيء من الخلود.
ماذا ينضح من هذه المتلازمة؟ أن لدى فئة معيّنة من الشيوعيين، من أعمار متقدمة، وذوي “مراتب” معينة، شعورا بأن الزمن فلتَ من أيديهم، وبأن عليهم، على الأقل، تسجيل رسالة إلى التاريخ، لعلّ الذين لم يولدوا بعد يعلمون بأن رجالا مرّوا على لبنان، عظماء بشيوعيتهم، سجّلوا صفحات نضال؛ فينهلون منهم، في ظروفٍ أفضل، بعض الاستلهام من “تجارب شعبنا السابقة”. كما يحصل عادةً مع طانيوس شاهين وثورة الفلاحين وانتفاضة العمال.. إلخ. كأنهم “يوصون” بأنفسهم: لا تنسونا، لا تنسوا أسماءنا.. صرخة جرداء في وادٍ أجدب.

السابق
«ما فيي» وجبة عاطفية مجبولة بالسذاجة والرسائل
التالي
سامي الجميل: الفرقاء السياسيون يتعاطون مع الملف الاقتصادي والمالي بمحاصصة