فيلم كفرناحوم: شهيق البؤس وزفيره في المجتمع السفلي

كفرناحوم فيلم للمخرجة نادين لبكي، وربما هي الممثلة الوحيدة في الفيلم في دور محامي الطفل زين، فكل الممثلين هم شخصيات من الواقع الذي غرفت منه لبكي حكايتها في كفرناحوم، الطفل زين (السوري زين الرفيع) الشخصية المحورية في الفيلم احتل دوره المساحة الكبرى من زمن الأحداث الى جانب العاملة الاثيوبية في الواقع وفي الفيلم (رحيل) اسمها في الحياة (يوردانوس شيفراو)، زين القضية التي أراد المخرج أن يتناولها سينمائيا ليكشف عن واقع حقوقي وانساني مفجع في قاع المجتمع. من خلال حياة زين نصطدم معه كمشاهدين بواقع اجتماعي بائس يبدأ من الأسرة التي لا تملك أي ورقة تثبت هوية افرادها، لا نعلم سبب ذلك هل هو اهمال الأهل او لا مبالاة الدولة وأجهزتها؟ ام هي مشكلة تتصل بطبيعة المكان الذي انوجدت فيه هذه العائلة والذي يبقى مجهول الهوية، إلا من هوية البؤس الاجتماعي والاقتصادي وشظف العيش. المكان يمكن أن يكون ايّ بلد عربي، بل أي مكان في هذا العالم يعاني من أزمات اجتماعية واقتصادية، ومن اختلال في حقوق الانسان: طفولة منتهكة وعنف أسري، فقر مدقع، وزواج قاصرات، اتجار بالبشر، المخدرات في قاع المجتمع..
ربما لم يرد صانع الفيلم الكشف الصريح عن هوية المكان، أي في خصوصيته السياسية الاجتماعية، اي لم يرد أن يأخذنا الى مساحة نقاش مذهبية، او طائفية، او دينية، طالما كانت مدخلا أو مطمراً لنقاش يتصل بقضايا حقوقية، ولاحتى اخذ المشاهد الى مساحة تجعله يغرق في جدلية اللبناني والنازحين او اللاجئين، وهو طالما كان ثقبا يهدر ما هو ثمين. قد يقول البعض معترضا، لقد وردت منطقة المنارة على لسان زين وهي المنطقة البحرية المعروفة في بيروت، كما سوق الأحد في منطقة سن الفيل، الى مشاهد لهاتين المنطقتين كذلك في سجن رومية حيث كان زين سجينا في سجن الأحداث بسبب محاولة قتل زوج شقيقته القاصر، تلك التي ماتت بسبب كونها غير مهيأة للزواج من جهة، ولأنها من عائلة تفتقد القدرة وحتى الاهتمام في معالجتها بعد تعرضها لنزيف افقدها حياتها على مدخل احدى المستشفيات.

إقرأ أيضاً: نادين لبكي.. بأيّ «عار» عدتِ!

المهم أن زين ابن ال 12 عاما يتنقل بالمشاهد بين لوحات المجتمع السفلي القاسية ، مجتمع قد يكون لبنانيا وقد يكون عربيا أو غير عربي، فالقضايا التي تصفعنا في القاع الاجتماعي، ليست الا نتاج الهشاشة الاجتماعية والسياسية والقانونية، ولعل المخرجة لبكي وهي تحاكي في مجريات عملها السينمائي الروائي، عقل المشاهد وعاطفته، بإصرارها على عدم التصويب او التورط في تحميل المسؤولية الى جهة رسمية او أهلية، أي الى الدولة على وجه العموم، فهي دفعت بالسؤال عن المسؤولية الى أقصاه، ليس في غاية التمويه عما نكرره يوميا تجاه مسؤولية الأجهزة الرسمية والقوانين المطبقة وغير المطبقة، او تقصير السلطات التشريعية والتنفيذية، فضلا عن القضائية، في التصدي لمشكلات مزمنة تتصل بحقوق الطفل او العائلة والانسان على وجه العموم، عبر سياسات وإقرار قوانين وما الى ذلك من مسؤوليات تقع على كاهل السلطة في أي دولة.
نادين لبكي رمت المسؤولية في وجه الجميع، الفرد الانسان والمواطن أولاً، فالمشاهد لن يجد في نهاية الفيلم الذي انتهى على صفعة مشهد ابتسامة زين، من يصب عليه جام غضبه، لا القاضي ولا رجل الأمن، ولا والد زين او والدته، ولا صهره الذي انتزع شقيقته بنت الاحدى عشر عاما لتكون زوجا له، ثمة تعاطف يفرض نفسه على المشاهد تجاه كل هؤلاء، القاضي او رجل الأمن لا مسؤولية تشعرنا بأنهما كانا مصدر تقصير، أو الأب والأم اللذان ليسا اكثر من ضحيتين يتناسلان ضحايا في مجتمع تبدو فيه شخصية الطفل زين في ابتسامته الأخيرة محاولة لانتزاع لحظة فرح أو أمل، إزاء سيل الأحزان الذي يزخر به مجرى كفرناحوم.

إقرأ أيضاً: ما هي «كفرناحوم»؟

الفيلم الذي نال جائزة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، شهادة للعاملين فيه وللمخرجة التي يسجل لها انها جادة ومجدة في عملها وبحثها، وفي محاولة إعادة الاعتبار لصناعة السينما في لبنان، جهد تصويري مميز في التقاط المشاعر الإنسانية في القلق والحزن، في التقاط شهيق البؤس وزفيره في قاع المجتمع، وعلى رغم أن لبكي لم تشبع رغبة المشاهد في التصويب على الجاني، لكنها أثارت لدى كل من شاهد الفيلم سؤالا حول الهشاشة التي تجعل الانسان قاتلا وضحية في آن، وتجعل المجتمع صورة عن هذا الفرد، كما الدولة نتاج هشاشة المجتمع، وهو اشكالية لبنانية بامتياز في لحظة سؤال الوجود الذي يفرض نفسه علينا كمجتمع وشعب ودولة.

السابق
برهم صالح رئيساً للعراق
التالي
عودٌ حلبي… يحيي شامَ طرابلس