انحرافات الموجة الجديدة من الثورة النسوية

كشفت الأميركية بلازي فورد أخيرا، وعبر صحيفة واشنطن بوست، عن تعرّضها للعنفالجنسي على يد المرشح الجديد لرئاسة المحكمة الأميركية العليا، برت كافانو.

والقضية كلها شائكة، لأن كافانو مدعوم من الرئيس دونالد ترامب، ولأن أميركا تترقّب الانتخابات النصفية البرلمانية. والخطر الشديد للقضيتين، ترشيح القاضي والانتخابات، ملقى أساسا على أكتاف ترامب وحده، أو هكذا يبدو من التشكيك بقدراته القيادية، وكثرة الكلام عن إقالته. القضية سياسية، والسيدة بلازي، العاملة باحثة في علم النفس، لا بد أنها التقطتها وهي طائرة: عصافير كثيرة بحجرة واحدة، هي دعواها المرفوعة ضد كافانو بالتحرّشوالعنف الجنسيّين. وثمّة تفصيل تافه في القضية، وإن كان حاسماً: وهو أن واقعة الاعتداء حصلت في بدايات العام 1980؛ أي أن عمر السيدة بلازي التي بلغت الآن الواحدة والخمسين من العمر، كان وقتها بين أربعة وتسعة عشر عاماً. والمؤكد ان الاعتداء حصلَ خلال سهرة، كان كافانو فيها ثملاً؛ وبما أن عمره ليس معروفاً الآن (على الأقل بالنسبة لنا)، فالأرجح انه كان أيضاً شاباً وقتذاك. حصل هذا كله في الثمانينات، أي في مرحلةٍ لم يكن لثقافة التحرّش ومعاقبة المتحرِّش أي مكان خاص في قاموس معاصريها.

إقرأ أيضا: رحلة الاحتجاز بين تورنتو وبيروت

والآن، يأتي هذا العصر ليحاسب على جرائم لم يكن عصر المتهم على أي يقين بها. أو قل يقيناً ضبابياً. المهم أن العقاب على ذنبٍ لم يكن وقت ارتكابه ذنباً، هو الآن اتجاه تتبنّاه النسويات بقوة، بعد فضيحة المنتج الأميركي هارفي وينستين، وحملة “# أنا أيضاً”، (# metoo) التي اجتاحت العالم. وقضية بلازي فورد أصبحت حدثاً مكرّراً في الولايات  “الضحية والجلاد، يمكن أن يجتمعا لدى المرأة الواحدة”
المتحدة، وأقل منه في أوروبا. امرأة تخرج من العتْمة وتتهم فلانا الفلاني، دائماً شخصية عامة، بأنه لمسَها وهما في المصعد منذ اثنتي عشر سنة، وأن آخر وضع يده على فخذها عندما كانت صغيرة، أو قبّلها، أو داعبها إلخ… فيُستدعى المسكين، ويحاكَم، وتتلطّخ سمعته وقد يخسر وظيفته وسمعته، ويخرب بيتُه. ليس للقول إن الجرائم والتحرّشات لم تحصل، ولا أنها غير مُدانة، بل حصلت، ولكن، في مناخٍ لم يحكمه قانون تشريعي أو عرف اجتماعي أو مناخ ثقافي يسمح برفعه إلى المحاسبة والعقاب.

خذْ مثلاً، الردّ على حملةٍ، خبيثة ربما، لكنها مفيدة، تسأل السيدة بلازي، وغيرها العشرات من اللواتي “تكلمن” قبلها، لماذا لم تبلّغي قبل ذلك؟ والجواب وصل عبر وسم “لماذا لم أقم بالإبلاغ؟” (#why I didn’t report). وهنا نماذج من التفسير للصمت بعد التعرّض للتحرّش: “لأنه كان أبي”، “لأنني كنت طفلةً، ولم أكن أعلم بأنه غير ملائم”، “لأنني كنتُ أعتقد بأنني أستحق ذلك”، “لأنني لم أكن أتصوّر أن أحدا يمكنه أن يساعدني”، “لأنني كنتُ مرتبكة، وكنتُ أريد فقط أن أنسى”. ثم أتت الموجة الثانية من الثورة النسوية، موجة التحرّش الجنسي، لتحول كل متحرّش سابق، مغتصب سابق، إلى نزيل سجون، بعملية تفويتٍ بائنة: باعتماد المفعول الرجعي، وخلط الأزمنة، واستحضار الجزء المرغوب به من الماضي، ماضي الاعتداء الجنسي “العادي”، وقتها، أو على الأقل، جنحة أخلاقية، لا جريمة، يحاسب عليها القانون، كما هو الآن. وهذا على كل حال دليل قوة الثورة النسوية، وتحويل النيْل من حرمة جسد النساء إلى موضوع محاكمة وعقاب.

ثورةٌ نسويةٌ قوية، لكن يسودها الارتباك والفوضى: لديك من جهةٍ النساء اللواتي بلغنَ أقصى مطالبهن، قياساً إلى نساء الأرض كلها، أي النساء الأميركيات والأوروبيات، اختراقهن عوالم الرجال كان الأسبق، ومجالات التحرّر العام والخاص كن رائداتٍ به. لا تزال داخل هذه العوالم هناك نواقص جسيمة حول الأجور والعمل والعنف.. إلخ، ضحيته الأكبر هن النساء غير المتنفذات، أو الفقيرات، أو حتى متوسطات الحال. لكن من الواضح أنهن الكتلة البشرية الأكثر همّاً وعدداً بمشكلاتها، تقابلها نخبة متعلّمة ثرية سياسية، حاملة لواء الأخذ بالثأر من الرجال؛ وهي فئةٌ قادرة على ذلك، نظراً لامتيازات تتمتّع بها صاحباتها، ولسهولة التعبير عن أنفسهن، وإيصال أصواتهن إلى بعيد. هؤلاء النساء هن اللواتي يقدن الثورة النسوية الآن، بمرحلتها الأخيرة: نساء يزرعن الرعب في قلوب الرجال، فيرتدّ هذا الرعب على النساء الأقل حيلة، وهكذا… في دائرةٍ باتت مغلقة، لشدّة ما يقوى عود تلك الطليعة، فتتلاشى عضلات الرجال المعنيين بأدوارهن.

وسلاحهن في هذه المعركة ليست القنابل والرشّاشات، إنما الوشاية. الوشاية عن رجلٍ تتراوح جريمته بين اللمْسة والاغتصاب.. تخيّلوا الآن موقف الرجال، ليس الأميركيين فحسب، بل موقف الشرقيين العرب المسلمين، الغارقين في همّ آخر، في إحباطهم وفشلهم، يسمعون هذه الأخبار، أو يتلقون صداها من هنا وهناك. أية فوضى عقلية ستنبت في دماغهم؟ أي نقاب؟ أي حجاب؟ أي شرف؟ أي تعدّد؟ أي تحرّش؟ عقل تختلط فيه الموجة النسوية الجديدة، تلخصها السيدة بلازي، ونظيراتها من الواشيات، وأخرى آتية من ظُلمات التاريخ.

التيار الجارف للموجة الجديدة من النسوية خطير، خطر الثورات كلها. إنه يخلق عنفاً جديداً،  “ثورةٌ نسويةٌ قوية، لكن يسودها الارتباك والفوضى”
قوامه الوشاية، يا لسخافة هذا السلاح في الأيام العادية! والذين استخدموا الوشاية، في بدايات عهودهم ونهاياتها، هم الأنظمة العقائدية الاجتثاثية التي تعتقد أنها الخير، تريد إبادة الشرّ؛ في تصنيفٍ آخذٍ طريقه للشيوع: النساء خير والرجال شرّ (قصة آدم وحواء ولكن مقلوبة). البلاشفة الروس واليعقوبيون الفرنسيون، وهم دعاة ثوراتٍ لم يفعلوا غير ذلك.. ثأروا وحاكموا وعاقبوا، وقطعوا الرؤوس، فخلقوا إرهابا ثورياً كان وبالا. مع فرق أن النساء لم يبلغن بعد مرتبة الحاكمات، ولا نظاما بطريركيا صافياً. وهن الآن يعشن مرحلةً هجينةً، يلعبن فيها أدوارا متناقضة، ضحية هنا، جلاد هناك؛ وكما في الثورات، النافذات من النساء هن الجلاد، والأقل نفوذاً هن الضحايا؛ علما أن الاثنين، الضحية والجلاد، يمكن أن يجتمعا لدى المرأة الواحدة؛ يمكن أن تلعب دور الجلاد، باسم الضحية التي ما زالتها.

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

هذا كله، ولم نتكلم عن العنف المضاد للوشاية، ولقوة النساء المتصاعدة؛ عنف الرجال الذين يشاهدون بأم العين أعمال تحطيم سيادتهم السابقة، لحقوقهم المطلقة باللذّة الجنسية، بالملك والحكم والغنيمة.. إنه عنف الحروب الأهلية. حرب يختلط فيها الشأن الشخصي بالشأن العام، ويرتدي مقاتلوها أقنعة الحيلة، يخترعون مظلومياتٍ جديدة، وتُعاد صياغة معنى الحب، أو يحطَّم من أساسه.

الثورة النسوية يوتوبيا، كغيرها من الثورات. وتهديدها المتواصل للبنى القديمة يحتوي على بذور ثورة كبرى، ذات مفاعيل تدميرية. وهي في حاجة إلى جرعةٍ من الاعتدال ضد المظالم التاريخية التي عانت منها النساء، أو ربما لم تعانِ وقتها، نظرا للعقليات، فالهجمة الهستيرية على تحرّش الرجال، بعد انطلاق حملة “أنا أيضاً”، إثر فضيحة هارفي وينستين، تكاد تنسف المنجزات النسوية بتطرّفها وحماها. وبالتأكيد سوف تتسبب بوقوع ضحايا، لن يقتصروا على الرجال.

السابق
إشكال المطار واستفزاز الجيش للأمن الداخلي: ماذا يريد محور حزب الله -عون!!
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الخميس في 27 ايلول 2018