العقوبات الأميركية تفضح هشاشة «الممانعة» ودولها

الصحافي علي الأمين
سياسة ترامب المالية والاقتصادية تجاه إيران وتركيا تعكس مظهرا جديدا من قوة الضغط الأميركية التي بدأت واشنطن اعتمادها كبديل عن التدخل العسكري المباشر.

انخفاض سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، ليس حدثا اقتصاديا ناتجا عن أزمة اقتصادية أو مالية تسببت فيها سياسات خاطئة اعتمدتها السلطات التركية على هذا الصعيد، بل حدث أميركي بامتياز، اعتمدته واشنطن في سياستها التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في محاولاته تطويع العديد من دول العالم، فالرئيس الأميركي القادم من عالم المال والصفقات التجارية يحرصُ في تعامله مع دول العالم الحليفة للولايات المتحدة أو غير الحليفة بمنهج يختلف عن الإدارات السابقة، على المزيد من استخدام عنصر المال والاقتصاد كقوة ضغط بديلة عن القوة العسكرية التي طالما كانت واشنطن تضعها في مقدمة وسائل ضغطها على من تعتبره مصدر خطر أو منافسا لها في العالم.

هذا ما بدأ في اعتماده مع الصين عندما تحدث ترامب عن إعادة التوازن إلى الميزان التجاري المختل لصالح بكين، وعمل على فرض إجراءات ضريبية للحد من الصادرات إلى واشنطن، وإن كان هذا الأسلوب مبررا مع الصين باعتبارها دولة غير حليفة إن لم تكن منافسا في رتبة خصم أو عدو لواشنطن، فإن المفاجأة كانت الإجراءات التي اعتمدها ترامب بفرض ضرائب على صادرات الصلب وغيره من المواد الخام القادمة من كندا وأوروبا، وهو ما أحدث هزة في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين وفي القارة الأميركية، لا سيما المكسيك تلك التي بدأ ببناء جدار فاصل على طول الحدود البرية معها.

اقرأ أيضاً: ملامح وهنٍ في هلال طهران

إذا كانت هذه جوانب من سياسة واشنطن المالية والاقتصادية تجاه حلفائها، فكيف يمكن أن تكون هذه السياسة تجاه من تعتبرهم أعداءها، ومن ذلك العقوبات التي بدأتها واشنطن على إيران بعد إلغائها الاتفاق النووي الذي كان الرئيس السابق باراك أوباما قد أقره مع القيادة الإيرانية واعتبره الإنجاز الأهم لإدارته في السياسة الخارجية. ترامب رمى كل ذلك وبدأ تنفيذ خطوات عقابية ضد طهران.

الظاهر حتى الآن أن حجم تأثير هذه العقوبات ليس محدودا، بل ينطوي على قدرات أثرت بشكل كبير على الأوضاع المالية والاقتصادية داخل إيران، ولئن كان تراجع العملة الإيرانية أمام العملات الأجنبية سابقا على قرار العقوبات الأميركية، فإن الإجراءات الأميركية فاقمت الأزمات الإيرانية وكشفت إلى حد بعيد هشاشة الاقتصاد الإيراني والتي بينت إلى حد بعيد اعتماد اقتصاد إيران على تصدير النفط كمورد أساسي لتمويل موازنة الدولة.

سياسة ترامب المالية والاقتصادية تجاه إيران وتركيا تعكس مظهرا جديدا من قوة الضغط الأميركية التي بدأت واشنطن اعتمادها كبديل عن التدخل العسكري المباشر، فواشنطن في عهد ترامب تستخدم نفوذها المالي والاقتصادي لتطويع الدول سياسيا، ولكن إذا كان الظاهر من نتائج هذه السياسة اليوم يلبي طموحات واشنطن من خلال إظهار قدرتها على التأثير الكبير على اقتصادات هذه الدول، فإن مخاطر هذه السياسة تكمن في تهديد نظام التجارة العالمي الذي نظّرت له واشنطن وهي التي حاربت بشراسة نظم الحماية الجمركية، وفتحت الأسواق في سياق نظام العولمة الذي أسست له مع نهاية الحرب الباردة وإعلان فشل النظم الاشتراكية قبل أكثر من ربع قرن.

التساؤلات حول نتائج الإجراءات الأميركية التي تتسم ببعد انغلاقي لا سيما فيما يتصل بإجراءات حماية المنتجات الأميركية داخل الأراضي الأميركية، وتتسم ببعد عقابي لا سيما في استخدام واشنطن إجراءات ضريبية وجمركية تتنافى مع فلسفتها الاقتصادية والمالية التي طالما كانت أداتها في النفاذ إلى اقتصادات الدول ولا سيما في العالم الثالث، وتحديدا تلك التي كانت تعتمد الاقتصاد الموجه أو النظام الاشتراكي.

أي نظام عالمي سوف يتبلور في المستقبل، وأي قواعد عالمية سوف تتحكم بالعلاقات التجارية، وهل سيتجه العالم نحو استعادة أنظمة الحماية الجمركية بعدما بدأت إدارة ترامب في اعتمادها؟

في العودة إلى البعد المتصل بالعقوبات الأميركية على إيران والتي تستند إلى قرارات عقابية معلنة، بخلاف الإجراءات الأميركية ضد تركيا والتي لا تندرج في إطار عقابي رسمي بل عملي، لا سيما في ما يتصل بفرض رسوم جمركية على صادرات الصلب والألومنيوم التركية إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبمعزل عن عنوان هذه الإجراءات فإن الثابت أن واشنطن تمارس فعل ضغط واحتواء لإيران وتركيا معا، وهي سياسة تريد واشنطن من خلالها فرض شروطها على الدولتين لا سيما على صعيد دوريهما الخارجي.

وفي موازاة ذلك تسعى واشنطن إلى توجيه رسائل غير مباشرة إلى بقية الدول من خلال إظهار كلفة مواجهة سياسة واشنطن خاصة في المنطقة العربية، فطالما أن تركيا وإيران، وهما الدولتان الإقليميتان الأكثر قوة وتأثيرا في محيطهما العربي والإسلامي، عاجزتان عن وقف تداعيات الإجراءات الأميركية على الداخل التركي والإيراني، فذلك يطرح تحديا على بقية الدول الأقل قوة في هذا المحيط، عن مدى قدرتها على مواجهة أي سياسة عقوبات يمكن أن تفرضها عليها واشنطن مستقبلا؟

وفي هذا السياق يبدو لبنان إزاء ما يعانيه من تصدع في بنيته الاقتصادية والمالية رهينة العقوبات المالية الأميركية بسبب ضعف الدولة اللبنانية وهشاشة اقتصادها، أمام خيارات صعبة، بل يمكن القول إن الحكومة اللبنانية عاجزة عن القيام بأي خطوة جدية تعيد الثقة بالدولة وسياساتها الاقتصادية.

سيف العقوبات الأميركية مسلط ويكتسب قوته ليس بسبب قدرات واشنطن المالية والعسكرية فحسب، بل من هشاشة المشاريع المضادة التي بدت مشاريع تدمير للمنطقة العربية بحجة تحريرها من سطوة السياسات الدولية، فيما هي عمليا دفعت بالدول العربية، ومنها لبنان، إلى أن تكون فاقدة لأي مناعة تجاه أي إجراء عقابي دولي أو أميركي. العقوبات الأميركية فضحت هشاشة الممانعة وكشفت غياب المناعة السياسية والاقتصادية، لا بل أظهرت الخواء الحضاري بعدما جرى تدمير الدول من داخلها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بذريعة الدفاع عنها في مواجهة أعدائها.

السابق
«حزب الله» يبدي ليونة لتشكيل الحكومة وبري يساهم بحلّ العقدة الدرزية
التالي
في أحوال الإسلام السياسيّ