«بترو دولار» و«مقاومة دولار»

حازم الأمين

من علامات ركاكة الوثيقة التي نشرتها جريدة الأخبار اللبنانية وزعمت أن سفارة الإمارات العربية المتحدة قد أعدتها وطلبت فيها دعم شخصيات سياسية وإعلامية شيعية لبنانية في موسم الانتخابات النيابية ضد حزب الله، إدراجها في “الوثيقة” ثلاثة أسماء يعمل أصحابها في مؤسسات قطرية أو ممولة من قطر، في وقت يعرف الجميع أن الحساسية الإماراتية حيال قطر والمؤسسات التي تمولها تفوق حساسية أبوظبي حيال إيران وجماعاتها. وأن يطلب ديبلوماسي إماراتي من حكومة بلده دعم من يعمل في هذه المؤسسات، فهذا قد يكلفه عمله وربما سنوات من السجن.

ليس هذا موقع الركاكة الوحيد في الوثيقة، وما يبعث على الريبة في صحتها، أن أسماء كثيرة وردت فيها لا يمكن فهم أسباب إدراجها. كيف يمكن أن نفهم أن تطلب الإمارات “دعم وضاح شرارة”؟ كيف يمكن لدولة أن تدعم وضاح شرارة بأن تسرب له مثلا معلومات عن تحولات سوسيولوجية تشهدها إيران، أو عن معطيات جديدة عن الجماعة الشيعية اللبنانية تفضي به إلى إجراء تعديل في كتبه عنهم؟!

اقرأ أيضاً: الكوميديا الانتخابية اللبنانية

هذا تحد فعلي للصحيفة، يدفع إلى مطالبتها بنشر أصل الوثيقة. فالنشر، إذا ما تم، يجب عندها التوجه إلى الحكومة الإماراتية ومطالبتها بمحاسبة الديبلوماسي معد الوثيقة ليس على إدراجه أسماء من وردت أسماؤهم فقط، بل على عدم كفاءته وعلى جهله بأصحاب هذه الأسماء وعلى جهله أيضا بالخطوط الحمر التي وضعتها حكومته نفسها. أما إذا لم يتم النشر فالأجدى بالصحيفة أن تحاسب معد الوثيقة ومفبركها، ليس لانتهاكه كرامات من وردت أسماؤهم، بل أيضا لضعف كفاءته ولجهله بأصحاب من وردت أسماؤهم.

لكن ليس هذا وحده ما كشفه نشر “الوثيقة”، ذاك أن ركاكة موازية لاحت على الجانب الآخر من الواقعة، وتمثلت بردود فعل من شملتهم الوثيقة المزعومة. فالصحافي حسان الزين أعلن مباشرته إضرابا عن الطعام حتى تعتذر الصحيفة منه لإدراجها اسمه ضمن أسماء من شملتهم “الوثيقة”، والصحيفة اعتذرت من حسان فورا، وفورا أعلن هو فك إضرابه عن الطعام.

وما بقي غير مفهوم لنا نحن جمهور القراء هو أن “الأخبار” من المفترض أن تكون اعتذرت من حسان نيابة عن دولة الإمارات (صاحبة الوثيقة) وهذا ما لا يحق لها، وهو ضاعف من الشكوك بصحة وثيقتها، ذلك أن الاعتذار يدفع إلى التساؤل عن حقيقة هذه الوثيقة التي يعفى من تبعاتها، بقرار من رئيس تحرير صحيفة من المفرض أنها نشرتها وليست من أعدها، شخص ورد اسمه فيها، فيعطى شهادة براءة دون غيره من زملائه في الوثيقة. وأيضا قبول حسان الاعتذار من دون أن يشمل هذا الاعتذار عشرات غيره ممن وردت أسماؤهم في الوثيقة، يعني قبوله بالتعرض لكرامة غيره، وهذا ما لا ينسجم مع ما يفترض أن الزين يدعيه لجهة التصدي لمن يرغب في النيل من كرامات الناس عبر إعلانه الاعتصام والإضراب عن الطعام!

الوثيقة المزعومة نجحت في مهمة محددة، وهي استدراجنا إلى سجال الوثائق والسفارات مجددا. فالإعلام اللبناني المقرب من “حزب الله” دأب منذ سنوات على إعداد لوائح اتهامية مهمتها إعطاء “علامات” في الوطنية وفي العمالة لإسرائيل تحول عبرها إلى “ضمير” يحاسب عبر هذه اللوائح كل من سمحت له نفسه أن ينتقد “حزب الله” أو أن لا يكون جزءا من “همروجته” الشعبوية.

والحال أن هذا الإعلام سقط سقطات كبرى في سياق مهمته هذه. فهو من أطلق الحملة على الفنان زياد عيتاني، ليكشف القضاء لاحقا براءة الرجل من تهم كانت الصحيفة، صاحبة الوثيقة، أول من تولى ترويجها؛ وفي وقت فاز حسان الزين باعتذار الصحيفة لم تكلف الأخيرة نفسها عناء الاعتذار من عيتاني ومن قرائها جراء اتهامه بالعمالة.

و”الوثيقة” طرحت مفارقة كبرى ذاك أن الخطاب “الممانع” الذي أمعن في شيطنة من يزعم هذا الخطاب أنهم ممولون من دول الخليج، وضرب صفحا كبيرا عن إعلان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أن ليس هناك مصدر لمالية الحزب سوى إيران، كشف عن ديماغوجية رهيبة جرى الاستسلام لها. فعلى المتهمين (من دون أدلة) بأنهم ممولون من الخليج تقديم براءة ذمة بشكل متواصل، وعلى الممولين (باعترافهم) من إيران أن يفاخروا بذلك. المال الأول اسمه “بترو دولار” والمال الثاني اسمه “مقاومة دولار”، والأول رجس من عمل الشيطان، والثاني طهر من أعمال أهل الجنة.

لكن البائس في هذه المعادلة هو أنها نجحت في تكريس نفسها بصفتها ميزانا تقاس عليه الأفعال، وخير دليل على ذلك، الذهول الذي خلفه نشر “الوثيقة” في نفوس عدد من أصحاب الأسماء التي وردت فيها.

السابق
انتخابات لبنان: «شبعنا حكي» الشيعية تنافس حزب الله، والحريري يطلق تطبيقاً لصور السيلفي!
التالي
المشنوق: 4 أسس لمواجهة الإرهاب الأمني والمالي