رجعية الجهاد التكفيري وحداثته

في واحد من الجوانب التي يمكن أن تساعد في فهم ظاهرة «الجهاد التكفيري»، يمكن اعتبار أنه جاء نتيجة تقاطع فشلين، فشل التعايش في مجتمعات عانت من أنظمة ديكتاتورية شمولية منعت أي سياسة ذات معنى في مجتمعاتها، ما جعل المعادلة السياسية معادلة صفرية في هذه المجتمعات. الفشل الثاني، فشل المهاجرين (الفارين) من الدول الإسلامية إلى الغرب الأوروبي في الاندماج في المجتمع الغربي، ما جعلهم يرتدون إلى هوية تبسيطية عدائية، يبنون من خلالها جدار عزل مع المجتمعات التي انتقلوا إليها، يعيشون على هامشها وليس داخلها، وينمّون هوياتهم العدائية ليس في مواجهة الحياة الغربية فحسب، بل يتم جرها إلى مواجهة مجتمعاتهم الأصيلة أيضاً.

اقرأ أيضاً: الدولة الإسلامية في إيران2/2: مذهب أحمدي نجاد

في مطلع الثمانينات، تم توظيف هذه الظاهرة سياسياً في الصراع مع الاتحاد السوفياتي الذي تورط بغزو أفغانستان في نهاية 1979، وهو ما أعطى الذريعة لتوجيه المحبطين من هذين الفشلين في العالم العربي والغربي إلى أفغانستان في مواجهة احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان بوصفها وجهة الجهاد للدفاع عن الإسلام الذي يهدده الاتحاد السوفياتي الملحد.

هناك في جبال أفغانستان وباكستان، في وزيرستان وطورا بورا، وفي توظيف أكثر فتاوى الدين تخلفاً وانعزالية، تزاوج الفشلان بارتداء الإسلام الباكستاني الأكثر تطرفاً ممثلاً بأبي الأعلى المودودي، مع الاعتماد على تلميذه المصري سيد قطب بوصفه أبا الجهاد التكفيري في المنطقة العربية. وهناك في سياق الصراع في أفغانستان تم إنتاج أسس الفكر الأكثر انعزالية ودموية وظلامية في تاريخ الفكر الإسلامي، والذي توجته دولة «خلافة» أبو بكر البغدادي. رغم ضحالته وتبسيطيته، وجد هذا الفكر صدى عند قطاع من الشباب المسلم، بوصفه إجابة تبسيطية عن أسئلة الهوية المعقدة. ويمكن القول إن الفكر الجهادي التفكيري هو إعلان فشل المجتمعات العربية في الدخول إلى العالم المعاصر، ببناء الدولة الحديثة بوصفها دولة مؤسسات، تقوم على حماية حقوق وحريات المواطنين، مقابل الواجبات التي يقوم بها المواطن تجاه الدولة التي تحمي حقوقه الأساسية وتحافظ على حرياته.

بدل هذا عاشت المنطقة في ظل أكثر الأنظمة ديكتاتورية وقمعية وإلغائية. وفي ذات الوقت وجد الفارون من بلدانهم إلى الدول الغربية، أنفسهم في مواجهة أكثر أشكال المجتمعات الغربية الحديثة وحرية، وفي قلب ثقافة متعارضة تماماً مع بنية ثقافتهم في شأن مفهوم «العيب» والأخلاق، مجتمعات متصالحة مع أجسادها، تستخدمه بحرية، والعيب والأخلاق ليست مرتبطة بهذا الجسد أو انكشافه، ما جعل هذه العائلات تنتكس هوياتياً أكثر مما كانت عليه في وطنها الأم، كون هذه البلدان تهدد شرف العائلة، بحرياتها، وعلى رأسها الحرية الجنسية.

اقرأ أيضاً: نكاح الجهاد..دعاية أم حقيقة؟

بذلك، يعبر الجهاد التكفيري عن انتكاسة الفشل في العودة إلى ماضٍ «مشرف» يتم إنتاجه في شكل كاريكاتوري، وعن الفشل في العيش في أكثر المجتمعات حداثة وحرية. إنه تعبير عن ظاهرة تناقضية، ظاهرة مغرقة في رجعيتها، ومغرقة في حداثتها.

السابق
بالفيديو: آل مشيك يعتدون على الشاب حسن زعيتر بطريقة مروعة!
التالي
بالفيديو: ثورة «الهراوات» في فنزويلا