«قانوننا» الانتخابي الجديد: نسبي شكلاً، أكثري في المضمون – سامي عطاالله وزينة الحلو

أخيرًا، أقرّت الحكومة ومجلس النوّاب في لبنان القانون الانتخابي في 16 حزيران 2017، فتمّ بذلك “تلافي” أزمة سياسيّة ودستوريّة. وقد هنأت الأحزاب السياسيّة نفسها على هذا “الإنجاز” وإن أتى بعد أربع سنوات من التأجيل الّذي أرسى سابقة خطيرة تمثّلت بالتمديد غير القانوني لولاية المجلس منذ 2013 ثلاث مرّات. وفي حين أنّ القانون الانتخابي الّذي طال انتظاره ينطوي على عناصر من نظام التمثيل النسبي، فهو في جوهره أكثريّ، وقد صُمّمت دوائره على أساس الحسابات السياسيّة والطائفيّة. إلى ذلك، فإنّ القانون لا يضمّ أيّ أحكام إصلاحيّة كالكوتة النسائيّة، أو تشكيل هيئة مستقلّة لإدارة الانتخابات، أو رسم حدود ملائمة للإنفاق على الحملات الانتخابيّة. والواقع أنّ القانون قد رسّخ الآليّات التي تتيح للأحزاب الكبيرة أن تحشد المزيد من الناخبين من خلال تضخيم عدد المندوبين المسجّلين، وزيادة سقف الإنفاق الانتخابي، وإتاحة المجال للجمعيات الخيريّة الموجودة أن تقدّم الخدمات مقابل الولاء السياسي خلال الموسم الانتخابي. ونهايةً، فإنّ الطريقة الّتي استُعجل فيها تمرير القانون في مجلس النوّاب، بعد طبخه سريعًا من دون أي نقاش جدّي مع المجتمع المدني أو حتّى مع البرلمانيين، يجعل منه فعليًّا “مرسوم” أكثر منه قانون.

وبالفعل، فقد اعتمد لبنان أخيرًا نظام التمثيل النسبي. والانطباع السائد لدى الكثيرين هو أنّ ذلك سيحسّن التمثيل، بما أنّ توزيع المقاعد يتمّ على أساس الحصّة من الأصوات المحصّلة، بخلاف النظام الأكثري السابق حيث يظفر الرابح بكلّ شيء. نظريًّا، إذا اعتبرنا لائحتين متنافستين في دائرة من عشرة مقاعد، تحظى اللائحة الّتي حصدت 60% ستّة مقاعد في حين تحظى اللائحة الثانية بالمقاعد الأربعة المتبقّية إذا حظيت على 40% من الأصوات.

اقرأ أيضاً: قانون الانتخابات: أي تعديلات واجبة؟

إلاّ أنّ العديد من الأحكام الواردة في القانون تقوّض نظام التمثيل النسبي الّذي تتباهى به الطبقة السياسيّة. ويتمثّل أوّل هذه الأحكام بحجم الدوائر. فلضمان أعلى مستويات النسبيّة في نظام مماثل، لا بدّ لعدد المقاعد في كلّ من الدوائر أن يكون كبيرًا، أي عشرين على الأقلّ، إذا أخذنا بالحسبان الحصص الطائفية في مجلس النوّاب. أمّا في القانون الجديد، فيبلغ متوسّط عدد المقاعد في الدائرة تسعة. والواقع أنّ ثمانية من أصل خمسة عشر دائرةً تضمّ ثمانية مقاعد أو أقلّ. وتضمّ بعض الدوائر مثل صيدا-جزّين والبقاع الغربي-راشيّا خمسة وستّة مقاعد تباعًا، وهو عدد ضئيل جدًا إذا أردنا لنظام التمثيل النسبي أن يكون فعالاً.

ثانيًا، فإنّ نظام التمثيل النسبي منقوص أيضًا في الدوائر التّي توزّع فيها المقاعد على عدد كبير من الطوائف. وبذلك، ففي حال وجود لائحتان تتنافسان على مقعد وحيد لطائفة معيّنة في دائرة ما (إذا كان العدد الإجمالي للمقاعد سبعة وعشرين)، فالنتيجة يحددها النظام الأكثري المتنكّر بهيئة نظام تمثيل نسبي. لنأخذ على سبيل المثال دائرة البقاع الغربي – راشيا الّتي تضمّ ستّة مقاعد: واحد للدروز، وواحد للشيعة، وواحد للروم الأرثوذكس، وواحد للموارنة، واثنين للسنّة. وفي هذه الحالة، فإنّ المرشّحين الّذين يتنافسون على مقعد وحيد لطائفتهم في هذه الدائرة، هم في الواقع يتنافسون فيما بينهم، ما يمعن في إضعاف النظام النسبي.

ثالثًا، لا بدّ من أخذ التصويت التفضيلي بالاعتبار على صعيد الدوائر الصغرى، حيث يستطيع المقترعون تحديد مرشّحهم المفضّل ضمن اللائحة التي اقتراعوا لها. وفي حين أنّ التصويت التفضيلي يسمح للناخب بإعادة ترتيب اللوائح، إلا أنّ ذلك يستعيد النظام الأكثري لاختيار المرشّحين. ويشي ذلك بأنّه وخلف واجهة التصويت للائحة معيّنة، تتوفّر الوسائل للحفاظ على الممارسات الزبائنيّة بين الناخب والسياسي، والتي شكّلت السمة الأساسية للحملات الانتخابيّة والممارسة السياسيّة في ظلّ القوانين الانتخابية السابقة.

رابعًا، إن اعتماد العتبة التأهيلية للفوز بالمقاعد يمعن في تقويض التمثيل في بعض الدوائر. فبموجب القانون الجديد، وحتّى تفوز لائحة معيّنة بمقعد، عليها أن تجمع عددًا إجماليًّا من الأصوات يساوي العدد الإجمالي للمقترعين مقسومًا على عدد المقاعد في الدائرة. ولكن، في بعض الدوائر الصغيرة كصيدا-جزّين مثلاً، يمكن أن تصل العتبة إلى 20%، ما يعني أنّ الأحزاب أو اللوائح الصغيرة ستُستبعد على الأرجح من التنافس على المقاعد، ما يحدّ من مفعول النسبيّة.

ويعاني القانون من اختلالات أخرى. ذلك أنّ تقسيم الدوائر لا يتبع حسبما يبدو معايير واضحة ومتّسقة. فقد اعتمد القانون المحافظات في بعض الأحيان (بعلبك – الهرمل وعكار) في حين اعتمد القضاء في أحيان أخرى (زحلة، المتن) في حين تمّ دمج قضائي مرجعيون وحاصبيا في دائرة صغرة واحدة ضمن دائرة كبرى، بذريعة أنّ هذين القضاءين لطالما كانا مدمجين معًا. إلاّ أنّ قضائي المنية والضنيّة في الشمال الّمدمجين تاريخيًّا قد فُصلا ليشكّلا دائرتين فرعيّتين. ولا بدّ من التنويه بأنّ المنية لا تضمّ سوى مقعد سنيّ واحد، وبالتالي فلن يُتاح لناخبي المنية الإدلاء بالتصويت التفضيلي. أمّا تقسيم بيروت فهو أيضًا موضع جدل، لأنّ الدوائر قد قُسّمت بحسب الحدود الطائفيّة، التي تتلاقى إلى حدّ كبير مع خطوط التماس التي رسمت خلال الحرب الأهليّة.

وبالإضافة إلى كلّ هذه النواقص، ينطوي القانون على آليّات أساسيّة للتأثير على نتائج الانتخابات. فالمادّة 90 على سبيل المثال تسمح لكلّ مرشّح في اللائحة بتعيين مندوب واحد في كلّ من مراكز الاقتراع، ومندوب جوّال لكلّ مركزي اقتراع. وبما أنّ القانون الجديد يشترط تشكيل اللوائح، فإنّ عدد المندوبين المعيّنين يجب أن يُحتسب على أساس اللائحة كاملةً وليس على أساس المرشحين. هذه الممارسة موروثة من القانون السابق، الّذي كان يتيح للأحزاب تضخيم عدد مندوبيهم، فتحظى بذلك الأحزاب القويّة الّتي تملك الموارد بالأفضليّة في التصويت. وبحسب بيانات العام 2009، واستنادًا إلى حساب تقريبي، يقدّر المركز اللبناني للدراسات أنّ عدد المندوبين المأجورين قانونًا يبلغ 60 ألفًا على الأقلّ. ولو جلب كلّ من هؤلاء أربعة أشخاص آخرين من أسرته أو أصدقائه، يزيد عدد الأصوات إلى 300 ألف، ما يشكّل نسبة مهمّة من إجمالي عدد الناخبين.

ويفاقم من ذلك واقع أنّ القانون الانتخابي الجديد قد رفع سقف الإنفاق الانتخابي، ما يتيح للأحزاب الّتي تملك قدرًا أكبر من الموارد أن تؤثّر على نحو غير ملائم على نتائج الانتخابات. وفي حين أنّ القانون السابق للانتخابات قد سمح لكلّ من المرشّحين إنفاق ما لا يزيد عن 150 مليون ل.ل. (100 ألف دولار أميركي)، زائد 4,000 ل.ل. لكلّ ناخب مسجّل، فإنّ المادّة 61 من القانون الجديد قد رفعت هذا المبلغ إلى أكثر من الضعف. فلا يكفي أنّ كلاًّ من المرشّحين يمكنه الآن إنفاق 150 مليون ل.ل. بل بات بإمكان اللائحة أيضًا أن تنفق 150 مليونًا لكلّ من مرشحيها، بالإضافة إلى 5000 ل.ل. لكلّ ناخب مسجّل في الدوائر الكبرى. وقد زاد هذا التعديل إلى حدّ كبير من الإنفاق الانتخابي “القانوني”، الّذي يمكن أن يصل إلى 12 مليون دولار لكلّ لائحة في بعلبك – الهرمل (عشر مقاعد)، و16.7 مليون دولار لكلّ لائحة في الشوف – عاليه (13 مقعدًا) على سبيل المثال. وفي حين أنّ القانون يمنع الأحزاب أو المرشّحين من توفير الخدمات للناخبين بغية منع شراء الأصوات، تسمح المادّة 62 للمنظّمات الخيريّة الموجودة منذ أكثر من ثلاثة سنوات بالقيام بذلك، ما يمنح الأحزاب السياسيّة التي تملك شبكة من المنظّمات أن تقدّم الخدمات للناخبين مقابل الولاء السياسي.

ولا يجب أن نُغفل واقع أنّ هذا القانون قد رفع أيضًا رسم الترشيح من مليونين إلى ثمانية ملايين ل.ل. ويعيق ذلك، مقرونًا برفع العتبة الانتخابيّة، والسقف الانتخابي، والحاجة المحتملة إلى المزيد من المندوبين، دخول الأصوات والمجموعات الجديدة إلى الحلبة الانتخابيّة. ومن الواضح جدًّا أنّ هذا القانون قد صُمّم لإقصاء الخصوم السياسيّين الجدد ومنعهم من الاستمرار، من خلال جملة أمور من بينها حيلة تتمثّل ببطاقة التصويت الممغنطة. وفي حين أوكل إلى وزارة الداخليّة والبلديّات أمر درس إمكانيّة اعتمادها، فإنّ البطاقة الممغنطة لا تعدو كونها مجرّد تبرير لتأجيل الانتخابات لأحد عشر شهرًا. ولا يهدف هذا التأجيل بالضرورة إلى تحديد ما يحفّز الناخبين على التوجّه إلى مراكز الاقتراع، نظرًا لأنّ معظم الأحزاب السياسيّة متحالفة فعليًّا، بل لفهم كيفيّة تشكيل اللوائح الانتخابيّة في الدوائر المختلفة مع الأحزاب الأخرى.

اقرأ أيضاً: هذه إيجابيات قانون الانتخاب وهذه سيئاته

ولا تنحصر المشكلة بالعيوب الّتي تشوب النظام الانتخابي، إذ إنّ مسار صياغة القانون يجب أن يعتبر مدعاة قلق لجميع اللبنانيّين. فالأحزاب السياسيّة الّتي تحتفل بولادة القانون الانتخابي قد قوّضت مرّةً جديدة المؤسّسات المفوّضة بصنع السياسات. أمّا اللجنة البرلمانيّة الّتي أوكل إليها مراجعة مشاريع القوانين والمقترحات المختلفة خلال السنوات، فيبدو أنّها خسرت تمامًا مبرّر وجودها. لقد صيغ مشروع القانون خلف أبواب موصدة من قبل حفنة من ممثلّي الطبقة السياسيّة. وعوضَا عن رفعه إلى مجلس الوزراء ليناقش كما يجب، تمّت الموافقة عليه بعد بضع ساعات من صدوره. والأسوأ أنّه، وعند رفعه إلى مجلس النوّاب، لم تمنح أي من اللجان البرلمانيّة الوقت لدراسته ما منع أيّ نقاش جوهري. وتمّ التصويت على عجلة على بعض نقاط القانون، في حين كان يراد للتصويت أن يكون على بند وحيد خلال جلسة عامّة. ومع أنّ صياغة القانون استغرقت ثماني سنوات، فقد أُقرّ في مهلة قياسية، في أقلّ من اثنين وسبعين ساعة، ما يطرح شكوكًا خطيرة بشأن عدد النوّاب الّذين قرأوه فعليًّا.

قد يحتجّ البعض أنّ السرعة في تمرير القانون كانت ضروريّة لتفادي الأزمة السياسيّة والدستوريّة التي تلوح في الأفق. أمّا نحن فنحتجّ أنّ الأزمة الّتي كانوا يحاولون تلافيها كانت من صنيعهم، وهم يحاولون الآن إنقاذ نفسهم قبل أي شيء آخر. وإنّ الآلية الّتي أنتجت القانون الانتخابي اللبناني الجديد ليست الطريقة الملائمة لصياغة القوانين، ومناقشتها، وإقرارها. والواقع أنّ هذا القانون يحمل سمات المرسوم، وقد فرض الآن فرضًا على الناخبين. ومرّة جديدة، يأخذ الزعماء السياسيّون المؤسّسات الّتي يفترض بها إنتاج القوانين، رهينة، محوّلين بنيتنا الديمقراطيّة إلى مهزلة، وهي بنية وجب علينا كمواطنين واعين السعي إلى تعزيزها عوضًا عن تقويضها.

السابق
مخابرات الجيش تمنع الأهالي من توكيل محامية وتسلم رئيس البلدية 7 جثث!
التالي
وئام وهاب: الجيش خط أحمر ومن لا يحب ذلك الله معو