الخيار القطري بين سنة زايد وهرطقة القرضاوي

كان الموت دائما أكبر مطور للحياة، لأن كل إنسان يحاول أن يخلد ذكراه بعده بعمل يبقى شاهدا على مروره فيها بعد الغياب. ولولا هذه المشكاة الأبدية المشعة من ظلال العدم لبقي الإنسان يسكن الكهوف إلى هذه الساعة. لكن هذا العمل الذي ينحته الإنسان على صفحات التاريخ قد يكون عملا جليلا دافعا للإنسانية، كما قد يكون عملا مدمرا ومسيئا للبشرية. وهذه الأعمال قد تكون في مجال العلم أو الأدب أو الفن أو السياسة، أو غير ذلك من أنشطة الاجتماع البشري. ومن يقوم بذلك قد يكون شخصا من عامة الشعب، يترقّى إلى مصافّ الرّيادة في تخصصه وقدرته على الإبداع، وقد يكون زعيما أو حاكما رمت به الأقدار على درب المسؤوليّة.

اقرأ أيضاً: قطر تشرب من كأسها

ربما كانت هذه المقدمة ضرورية، ونحن بصدد الحديث عن المحنة القطريّة المتفاقمة، وهي الباعث على استدعاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي أضحى في ذمة التاريخ، ويوسف القرضاوي الذي ما زال يكتب آخر السطور في صفحة أوهامه. وأود قبل الدخول في صلب الموضوع أن أعرج على معضلة الدولة الوطنية. فبعد إعلان أتاتورك تصفية الخلافة العثمانية، برزت ثلاث أيديولوجيات في العالم العربي:
* الأيديولوجية الإسلاموية الإخوانية التي ترى في ما حدث تآمرا على المسلمين، وترى أن قيام دولة وطنية حسب اتفاق سايس بيكو هو محنة عارضة يجب التصدي لها وعدم تمكينها من تقطيع أوصال العالم الإسلامي. ولذلك أخذت على عاتقها التبشير والعمل من أجل رتق أسمال الخلافة وأعلنت العداء لأيّ دولة وطنية “قُطريّة”.

* الأيديولوجية القومية العربية ومفادها أن الدول العربية يجب أن تنحو نحو الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر، بتحقيق وحدتها القومية. فنظر القوميون إلى الدولة الوطنية على أنها مخلوق استعماري يجب نبذه. وغالبية الانقلابات التي حدثت في العالم العربي كانت قومية تتبنى فكرة الوحدة والسعي إلى إقامة دولة قومية.

* الأيديولوجية اليساريّة التي تعتبر أن الطبقة الشغيلة الموحدة المنتصرة هي المؤهلة للقيام بالدور الحضاري وأن الدولة الوطنيّة بعد الاستقلال هي مخطط استعماري يمهد لاستغلال مقدرات هذه الشعوب من قبل الإمبريالية المتحكمة والعابرة للأسواق.

إن المرشد الأعلى لقطر وضع خططه التخريبية لكل المنطقة، وكانت أولى أولوياته النموذج الإماراتي في التنمية. فأصبحت ولا تزال الدولة الأكثر استهدافا
يتبيّن من هذا أن الدولة الوطنية كانت مرفوضة من الأيديولوجيات التي هيمنت على السّاحة العربية منذ الاستقلال. وقد صورت هذه الدّولة على أنها لقيط مشوه يرفض الجميع أبوته أو بنوته.

انسلخ قرن كامل من بداية ظهور الدولة القومية ومن بروز الأيديولوجيات الرافضة لها، وفشلت الأيديولوجيتان القومية واليسارية في تحقيق مآربهما بعد هزيمة يونيو 1967. أما الأيديولوجية الإسلاموية، فما زال الإخوان والحركات المتفرعة منهم يناضلون من أجلها حتى يحققوا الخلافة. ومن العوامل التي ساهمت في قوتهم فشل الدولة الوطنيّة في تحقيق هدفها الأسمى، وهو التنمية المستدامة التي تحقق النقلة النوعية في هذه البلاد باتجاه الحضارة.

إن جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وجعفر النميري وهواري بومدين وحكّام اليمن وحكام سوريا المتعاقبين جميعا قد سجنوا أنفسهم في أيديولوجيات بنوا من أفكارها قصورا أسكنوها عقولهم وفراديس وهمية منوا بها شعوبهم. وكان الفشل على الدوام، وكانت الهزائم تنسب إلى جهل هذه الشعوب البائسة وتخلفها. أما الحكام ونظرياتهم فلا يأتيهم الباطل من أيديهم ولا من خلفهم.

بعد هزيمة 1967، حازت دول أخرى عربية على استقلالها، وهي دول الخليج العربي: الإمارات العربية المتّحدة وقطر والبحرين. وبرز زعيم فيها هو الشّيخ زايد بن سلطان آل نهيان المؤسس. كان رجلا لا يدعي الثقافة العالمة، ولم تأخذه أوهام الأيديولوجيات القاتلة، ولم تكن لديه نوازع التوسع والهيمنة، بل كان ذلك البدوي النبيل الذي آمن بالدولة الوطنية المدنية، وانتهج سبيل التنمية المستدامة، الأمر الوحيد الذي رفضه الآخرون.

اليوم نرى النتائج الظاهرة للعيان: بلد صغير بسكانه ولكنه كبير بإنجازاته، استطاع أن يجعل من الأرض التي كانت تعتبر غير قابلة للعيش بلادا يطيب فيها العيش والتّعايش. وبإلقاء نظرة على الأرقام التي تعلو على مختلف الآراء، نرى أن مستوى التقدم والرقي والأمن قد بلغ شأوا لم تعد تحلم به حتى تلك الدول التي نالت استقلالها قبل نصف قرن من استقلال الإمارات. ورغم أن الشيخ زايد لم يقرأ ماكس فيبر فإنه تبنى بسجيته ومحبته للخير العام مقولة هذا المفكر عن أخلاقيات المسؤولية، ونبذ أخلاقيات الاقتناع التي جلبت الدمار على الآخرين. إذن نستطيع أن نقول إن الشّيخ زايد استن سنة جديدة كل الجدة على هذه المنطقة واستطاع أن يخلق أنموذجا في التّنمية والاستقرار عز نظيره في البلدان العربيّة باستثناء التجربة البورقيبية في تونس. وأصبح هذا الإنجاز يعبر عن نفسه وترنو إليه أفئدة الشباب العرب والعجم. ففي إيران التي تبدد أموالها على حلم الإمبراطورية الفارسية، والعراق الذي يهرول في اتجاه التقسيم والتشظي نتيجة الحروب وأحلام الهيمنة، حتى لا نتحدّث عن دول أخرى بعيدة. كلّ هذه الشعوب تحلم بأن تجد حاكما عقلانيا يضع لها لبنة البناء والاستقرار مثلما حدث في الإمارات العربية المتّحدة.

حاول الشيخ زايد أن تكون قطر إمارة داخل هذه الدولة، لكن شيوخ قطر رفضوا. فتعطلت مسيرتهم التنموية، وأصبحوا ينظرون بحسد وحقد إلى تقدّم هذه الدولة التي رفضوا أن يكونوا جزءا منها. وبلغ الأمر أوجه سنة 1995 عندما انقلب الشيخ حمد على أبيه، وجاء بالقرضاوي زعيم الإخوان مرشدا أعلى لدولته، ودخل مع هذا المرشد المرض العربي الأيديولوجي القديم الذي يسعى إلى الهيمنة والركض خلف الأوهام المستحيلة، وما صاحبها من تآمر وإهدار للأموال وبثّ للفرقة بين الأشقاء، وتهديد دول الجوار. فكانت بداية الكارثة.

إن المرشد الأعلى لقطر وضع خططه التخريبية لكل المنطقة، وكانت أولى أولوياته النموذج الإماراتي في التنمية. فأصبحت ولا تزال الدولة الأكثر استهدافا. وسبب ذلك أن من يريد بيع الأوهام في سوق الأيديولوجيات الإسلاموية لا بد له أن يقضي على أي نموذج ناجح على أرض الواقع، لأنه يريد أن يبشر بفشل الدولة الوطنية، فيجدها قوية ومتجذرة في هذه الدولة. ويريد أن يبشر بمستقبل مزدهر حيث يختفي العوز والشقاء، فيجد دولة وصلت إلى اقتصاد الوفرة، حتى أنشأت وزارة للسعادة. ويريد أن يجمع الطوائف تحت راية الخلافة الراشدة، فيجد هذه الدولة قد سبقته إلى تحقيق السلام المجتمعي تحت راية المواطنة.

القرضاوي يريد أن يعمق العداء بين المسلمين والعالم الآخر، من خلال فقه الولاء والبراء فيجد هذه الدولة قد غربلت مناهجها التعليمية وأزالت منها فقه الحقد والكراهية، وبدأت في إعداد أجيال متصالحة مع نفسها والعالم
ويريد القرضاوي أن يعمق العداء بين المسلمين والعالم الآخر، من خلال فقه الولاء والبراء فيجد هذه الدولة قد غربلت مناهجها التعليمية وأزالت منها فقه الحقد والكراهية، وبدأت في إعداد أجيال متصالحة مع نفسها والعالم. لهذه الأسباب قرر المرشد القطري الشيخ القرضاوي أن الإمارات العربية المتحدة هي العدو الأول الذي يجب استئصاله لأن الواقع المعيش أكثر سطوة من أوهام الوعود الخلاصية. وقد جن جنون المرشد القطري عندما سمع بمشروع ولي ولي العهد السّعودي الذي طرح برنامجا طموحا لتحقيق التنمية المستدامة في أكبر بلد في شبه الجزيرة العربية، والشروع في القضاء على الأفكار الإرهابية. ومما زاد في حنقه افتتاح مركز لتتبع تمويل الحركات الإرهابية في الرياض مؤخرا، وبمباركة أميركية وعالمية.

إذن هي حرب وجودية تدور رحاها في هذه الأيام، ولا بد من نهايتها بنصر وهزيمة. ابتدعت من مخيلتي هذا السّيناريو: تميم ووالده ذهبا إلى القرضاوي يستفتيانه، فقالا له:

– يا مرشدنا، لقد أعلن علينا الحصار، فما عسانا فاعلون؟ فرد المرشد:

– وما النصر إلا صبر ساعة. فقالا له:

– يا مرشدنا، إن كل دول المنطقة قد ناصبتنا العداء، ولا قبل لنا بهزيمتها. فردّ المرشد:

– وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن اللّه. وطمأنهما على أن إخوانهم في تركيا سوف يهبون لنصرتهم، وإخوانهم في غزة سوف يعلنون الحرب على إسرائيل. وأن الجيوش الإسلامية التي مولوها في ليبيا سوف تتجه إلى مصر لفتحها، وسوف تشتعل كل المنطقة وينتهي الحصار. فخرجا من مجلسه مطمئنين، لأنهما يعتقدان أنه يعبر عن المشيئة الإلهية.

الآن يا حكام قطر، لقد حصحص الحق وليس ثمة مهرب من مواجهته. فإما أن تفككوا آلة التآمر في دولتكم وتطردوا مرشدكم وأعوانه، وتنفقوا أموالكم على سنة الشيخ زايد في الرفاهية وفعل الخير، وإما أن تتبعوا هرطقة مرشدكم فتهلكوا جميعا، وليس لكم من عون ولا نصير.

السابق
قانون على قياس البترون
التالي
بالصورة: بعد سيطرة النظام السوري على حلب.. الفنانة رغدة تقص شعرها!