مشــروع شهـــادة

هاني فحص

بعد الطائف قال أخيار لبنانيون سلكوا جزئياً مسلك الأشرار أثناء الحرب الفتنة السابقة المستأنفة، عن غير قصد، وهذا ليس إعفاءً لهم من المسؤولية، فقد كان عليهمأن يكونوا أشد حذراً أو صبراً على إملاءات القطيع السياسي أو الطائفي، وقال معهم أشرار غلبت عليهم شقوتهم أو مطامعهم أو أوهامهم الوطنية أو الدينية، فانخرطوا فيتلك الحرب بالقول إن كانوا من أهل القول وهو أشد فتكاً من الفعل أحياناً، ثماستبصروا بعدما رأوا أن بشاعات الحروب أكثر بكثير من فوائدها، هذا إن كان لها منفوائد، سوى تكديس ثروات من يسمونهم تجار الحروب من الطفيليين الخبثاء الشركاء فيالدم الحرام والمال الحرام حيث يجمعهم جامع المال بصرف النظر عن القطيع الذي ينتمون إليه، وقال أخيار جعلهم الصمت الحكيم أو الجبان يلتبسون بالأشرار فانتبهوا إلى أنهم شاركوا بصمتهم في كل الجرائم وعمليات التخريب للحياة والعمران والعيش المشترك والوطن المشترك… قالوا جميعاً إذ اجتمعوا من كل المناطق والحساسيات في ديرتعلبايا خريف عام 1993م وبعد اجتماعات محدودة في أماكن ومواعيد متفرقة.. قالوا: إذاحدثت الحرب مرة أخرى ولأي سبب وبين أي طرف وأي طرف، فإنهم لن يشاركوا لا بالفعل ولا بالقول ولا بالصمت. وقلت وأنا معهم في نص مكتوب ومنشور، إني أرى إلى آثار الدم ما تزال عالقة بأطراف جبتي بسبب صمتي عن الحرب وأهلها الأصليين ونواياهم وأهدافهم غير الأصيلة… ولم أنكر أن صمتي أحياناً كان عن رضى داخلي بما يحدث مبرراً ذلك بمصلحة الوطن مرة وبضرورة العنف من أجل التقدم مرة وبمصلحة المسلمين في لبنان مرة وبمصلحة الشيعة في لبنان مرة وبمصلحة الأمة العربية مرة وعلى طريق فلسطين مراراً.

اقرأ أيضاً: عيناي مشرقتان لأني أرى بهما الآخرين

وبعدها… منذ نهاية الحرب بميثاق الطائف من دون سلم راسخ يمنع العودة إليها، وقد عدنا أكثر من مرة ولعلنا الآن عائدون، لم أستطع ولم أجد من يستطيع إقناعي بإيجابية من إيجابيات الحرب، وأكثر من ذلك أني استعدت ذكرى بعض الوقائع والأحداث التي كنت أراها ذات مفعول إيجابي وتحمست لها ودافعت عنها فوجدتها أكثربشاعة من أحداث أخرى سكت عنها وكأنني راضٍ بها، وأكثر من هذا وذاك أني وجدت في كثيرمن الارتكابات التي حصلت ضد الجانب المسيحي أو اليميني من قبل المسلمين أو اليساريين أو الفلسطينيين، ما ينبغي أن يخفف انفعالنا من دون أن يلغيه، ضد ممارسات مسيحية أو يمينية ضد المسلمين أو اليساريين أو الفلسطينيين… ورأيت ورأى معي كثير من التائبين من أهل اليمين واليسار ومن المتدينين والعلمانيين ومن الفلسطينيينواللبنانيين وبعض العرب الذين شاركونا في حروبنا فماتوا معنا أو قتلونا أو قتل وآخرين من أجلنا… رأينا.. إلّا من كابر من مجرمي السياسة وأغبياء الأحزاب الوطنية، اليسارية واليمينية، ممن لا يزالون عاجزين عن ممارسة نقد عميق لتجربتهم.. رأينا أنه عندما تبدأ الحرب الأهلية التي لم تكن عادلة ولا مرة في تاريخ البشرية،وإن كانت أهدافها أحياناً عادلة (وأشك) أو أسبابها كامنة في جور ما من طرف على طرف، عندما تبدأ، من خلل في نظام التعدد وبين أطرافه فإنه لا ضامن من أن تتواصل على قاعدة سلبية أخلاقياتها ـ أي الحرب ـ لتتحول إلى حروب فرعية أشد قسوة بين الآحاد المنقسمة على ذاتها، لتكتشف الأحزاب والأديان والمناطق والمذاهب أنها ليست نواظم نهائية لجماعاتها وأنها هشة وقابلة للانكسار كل لحظة، والتوهم بأنها نواظم هو الذي يدفع طائفة ما للقتال ضد طائفة أخرى، والانتصارات أو الهزائم المبالغ في تصورها تعود لتسهم في انقسامات وشروخ في الواحد أو الذي توهم أنه واحد ليؤول إلى حالة صراعية أوقتالية في داخله أشد وأقسى، وإن اضطر الطرفان فيه ـ أي في الواحد المذهبي مثلاً ـ إلى الالتئام وبضغط خارجي أكثر الأحيان وظهرا ثانية وكأنهما واحد.. فإن الواقع يؤكد أن الانقسام مستحكم وأن الصراع منتظر دائماً.

وفي لحظة انكشاف الواقع وبروز الحقائق ينكشف أن هذه الطائفة أو ذلك الحزب، لا يجمع أهله إلّا موقتاً وعلى أساس من العداوة للآخرين أو على أساس السلبية ضدهم، من دون أن يكون أي طرف مجهزاً برؤية أو أطروحة إيجابية أو مشروع.. وفي المحصلة تكون المعادلة المفضوحة الفاضحة هي أنباطلاً نسبياً يقاتل باطلاً نسبياً.. وأن نسبة الحق لدى كل من الطرفين هي من الضآلةبحيث لا تكفي لتحقيق أي هدف مشروع على أساس الصراع… إذن في الحروب الداخلية حقيقة أو مجازاً، أو الأهلية واقعاً أو افتراضاً.. ليس هناك حق في مقابل الباطل، ومن هناينفرط العقد.. تماماً كما ينفرط عقد عصابات السرقة أو الجريمة عند أي انسداد أوانكشاف أو اختلاف على اقتسام الغنيمة، وتتحول الحروب من الخارج إلى الداخل.. وليدلني اللبنانيون على حزب لم يتقاتل من داخله أو على طائفة أو مذهب أو منطقة كذلك!!
بناءً على هذا كله، ووفاء بوعدي وعهدي، وعملاً بما التزمت به من سعي دائم إلى التذكر والتذكير بالعيش المشترك بغية إعادة التأسيس له بالحوار والتقريب، قررتعدم المشاركة في الأقوال والأفعال الممهدة لحرب أهلية لبنانية أخرى، ربما تكون أشد بشاعة من كل الحروب السابقة هذه المرة، ولم أسكت، كتبت محذراً ومتوقعاً أن نستجمع حكمتنا جميعاً ونتفادى الحرب، ليتبين لي أن أهل القول لا يملكون فعلياً سوى أمنياتهم ونواياهم الطيبة، أما أفكارهم فإن وقت تطبيقها يتأخر كثيراً عن وقت إنتاجها وبعد خراب البصرة عادة.
والآن لم تعد الحرب احتمالاً. وإنما هي قائمة جزئياً على حال من النمو والتوسع، قبل الدوحة وبعدها، في مستواها العسكري، أي القتل أو الاقتتال.. وكلياً على مستوى خطابها اليومي المتداول في كل لحظة وفي كل بيت وبين صلاة الظهر وصلاة العصر وبين مسجد ومسجد وكنيسة وكنيسة.. فماذا نفعل أنا ومن هممثلي لا يركبهم إلّا وهم أو حلم أو رجاء أو أمل واحد، أن يسود السلاملبنان؟
وليس مطلوباً منهم أو متاحاً لهم إلّا أن يلتحقوا بقطيعهم أو يختاروا أيقطيع آخر ليلتحقوا به، والمهم أن يكونوا في قطيع، أو يكون القطيع فيهم وبهم.

اقرأ أيضاً: ذاكرة الحرب اللبنانية واحتمالاتها «الآتية»

حسناً.. لقد اخترت العزلة أو اخترت سلوكاً يجعل أهل قطيعي يعزلونني… ولميترتب على ذلك أني صرت مقبولاً لدى قطيع آخر، فهذا الأمر لا يتحقق إلّا بشروط أشد قسوة وبشاعة واستدعاءً للدجل والنفاق من البقاء في القطيع الأول.. إذن فالعزلة محكمة ولا تستطيع أن تفتح باباً في جدارها إلّا إذا أحدثت ثقوباً في عقلك وقلبك ودينك وذاكرتك وفكرك وأدبك فماذا تفعل؟
أختار الصمت الإيجابي، أي الصمت الذي يضج ويعج ويغلي بالقول والغضب والاحتجاج والاعتراض والتنصل والإدانة والشتيمة والتسامي والاستعلاء على البشاعات الجارية والآتية.
أنا ابن لبون كما أوصاني جدي علي (ع) لا ظهر لي فيركب ولا ضرع لي فيحلب.. غير أني سوف أقرأ وأقرأ وأقرأ إلى أن يأتييوم أكتب فيه عندما تكون الفتن قد هدأت.. ويكون ظهري قد أصبح من الصلابة والقوة بحيث يستطيع حمل الحق والحقيقة التي سأحتفظ بها في قلبي وعقلي وسلوكي وحبري وسأغتنم فترة العزل والانعزال لأغذيها بما لذ وطاب من الفكر الحلال إلى أن يحين وقت الجهر والعمل بها.. وإن لم يحن هذا الوقت وأدركني الموت فإني أعلن ذاتي شهيداً بذاتي.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
نهاد المشنوق يعايد صفير: لتظل بركتك الوطنية على لبنان
التالي
قوى الأمن تلقي القبض على إرهابي كان يخطط لجلب صواريخ وأسلحة ثقيلة