الحوزة العلمية وعلاقتها بالسلطة السياسية

ميزت حوزة النجف الأشرف العلمية بكونها كياناً مستقلاً، بمعنى أن العلاقة بالسلطة القائمة في عهود متعددة، بل ربما في كل العهود التي شهدها العراق، تميزت بأنها كيان مستقل إلى حد كبير، ونحن في هذه الكلمة نود أن نوضح أسباب هذا الإنفصال بين حوزة النجف والسلطات القائمة في عهودها المتعددة خلافاً للجامعات والحوزات الدينية في أكثر بلدان العالم الإسلامي، فإذا قارنا بين حوزة النجف وجامعة الأزهر لوجدنا أن جامعة الأزهر رغم أنها جامعة علمية دينية إنما كانت باستمرار على علاقة تتراوح بين الإلتصاق الكامل بالسلطة، وبين الإفتراق عنها، بمسافات ولكنها محدودة، وكان ذلك تبعاً لطبيعة القيادة أو المشيخة التي تشرف على جامعة الأزهر، وهكذا جامعة القرويين في المغرب، وغيرها من الجامعات الدينية السنية.
وإذا أردنا أن نكتشف الأسباب التاريخية لاستقلالية حوزة النجف الأشرف، فلا بد أن نأخذ في الإعتبار أن السلطات والحكومات التي مرت في التاريخ السياسي للعراق كانت باستمرار تنتمي إلى المذهب السني من جهة، وأن التاريخ السياسي الإسلامي في العراق وفي غيره قلما شهد مرحلة نفوذ شيعي، وهذا السبب في نظرنا جوهري في انقطاع العلاقة بين الحوزة النجفية والسلطة، وهو أيضاً انقطاع شهد درجات متفاوتة من العلاقة السلبية إلى علاقات أقل تشدداً في سلبيتها، وخاصة في الظروف التي لم تتوجه فيها السلطة إلى احتواء الحوزة، أو إلى التدخل في شؤونها، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الحوزة العلمية الدينية في إيران قبل الثورة الإسلامية.
وإذن فالمسألة ذات صلة وثيقة بالتاريخ السياسي للعالم الإسلامي، وبالعودة إلى حوزة النجف، فإن التشدد في الموقف من السلطة السياسية وعدم الإرتباط بها إرتبط إلى حد كبير بشعور الإستقلال الذي هو في نظرنا طموح مشروع لأي مركز من مراكز العلوم، وخاصة العلوم الدينية، ومما ساعد على هذا الإفتراق مع السلطة سواء في النجف أو في قم هو القدرة على الإستقلال المالي، فمن المعلوم أن مصادر المال بالنسبة لهاتين الحوزتين كانت تعتمد على أموال الحقوق الشرعية، التي ترد إليهما ، والتي كان المرجع الديني أو المراجع يستغنون بها عما يمكن أن تقدمه الدولة من مساعدات مالية كما هو الحال في الجامعات السنية.
وبالحقيقة أن هذا الإنفصال عن السلطة أدى لشعور بالإستقلال وبالحرية، وإلى التحكم بالمناهج العلمية والفكرية لهذه الحوزات المستقلة، كما أنه شكل انعكاساً للموقف الشيعي بصورة عامة اتجاه السلطات التي من شأنها أن تستفيد من تجيير الثقل الذي تمثله هذه الحوزات لمصالح السلطة السياسية.

إقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الدين يفقد معناه اذا لم يحارب الظّلم

في هذا المفصل التاريخي الراهن، والذي أصبح فيه للشيعة دولة مستقلة، وهي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي الوقت الذي أصبح الشيعة في العراق جزءاً وازناً من السلطة القائمة، فإن سؤال علاقة الحوزات العلمية بالسلطة يصبح مطروحاً بصورة حرجة ودقيقة، فإذا تابعنا علاقة السلطة السياسية الإيرانية بالحوزة الدينية في قم فإننا نجد دائرة تمتزج فيها أشكال الممانعة والتواصل على نحو لا يمكن أن نستبعد فيه تأثيرات السلطة على الحوزة، ولا تنتفي فيه أشكال الممانعة التي ما زالت قائمة ولو بدرجة أقل من قبل المراجع، ومراكز القوى الدينية اتجاه السلطة، ونستطيع أن نعيد صورة التجاوب والممانعة هذه إلى تاريخ طويل من تعود الحوزة على الإستقلال من جهة، وعلى استمرار وجهة النظر التي تتخذ طابع الميل إلى استمرار هذا الإستقلال ، ومن وجهة نظرنا فإن هذه الصلة بين السلطة والحوزة في إيران لم تستقر بعد على منهج ثابت ورؤية نهائية وإن كان من طبيعة السلطة أن تمتلك قيادة كل المؤسسات في المجتمع الذي تحكم.
فيه، حتى ولو كانت هذه السلطة – كما هو الأمر في إيران منبثقة بدرجة كبيرة من الحوزة العلمية نفسها – و بالرجوع إلى النجف الأشرف، فإن الأمر ما زال أكثر غموضاً لجهة علاقة الحوزة بالسلطة الجديدة، فمن جهة السلطة لم تستقر بعد، وعنصر التشيع فيها لم يأخذ مداه النهائي، والنجف ذات تاريخ عريق يمتد إلى ألف سنة لا أعتقد أن بوسع أحد أن ينقلب على هذا التاريخ وأن يحول حوزة النجف إلى مؤسسة خاضعة لإدارة السلطة أو توجهاتها.

إقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الايديولوجيا هي الأسطورة الحديثة لا الأديان

هذا من حيث واقع الأمور، وما قلناه وصف لواقع هذه الأمور، أما لجهة رأينا وتوجهنا، فنحن نرى أن جامعة غنية وعريقة كالنجف الأشرف لا بد لها أن تلتزم بتاريخها هذا، ولكن ليس بالمعنى الذي يعيد إنتاج العلاقة السلبية إن لم نقل العدائية مع السلطة، وإنما يجب المحافظة على خط الإستقلال التاريخي على أن يترافق مع ذلك مشروع إعادة نظر وتجديد في مناهج الحوزة، وبالتالي في إدخال عنصر المساهمة في توجيه مناهج الحكم والسلطة دون أن يكون ذلك على سبيل المعارضة السلبية، بل لا بد من طموح النجف الأشرف كمركز للقيادة الدينية، لا بد من طموحها لأن تكون أيضاً مرجعية – ولو بدرجة ما – للسلطة الحاكمة دون أن يؤدي ذلك إلى أن يتعاظم هذا الطموح إلى الدرجة التي يتصدى فيها علماء الدين أنفسهم إلى الحلول في مواقع السلطة السياسية، لأن النجف إذا تحولت إلى مركز للسلطة السياسية في بلد كالعراق فإن ذلك يجعلها مهددة كأي سلطة سياسية أخرى لخطر الزوال، وفي حالة الزوال – زوال السلطة – فإن هذا سيؤثر على استمرار هذه الجامعة العريقة التي قدرها أن تقف موقف الناصح والموجه، وليس الإنغماس المباشر في السلطة.

السابق
الإمبراطورية المالية للأخ نبيه.. حامل حامل الأمانة
التالي
طليق نادين الراسي: لن أحرمها أولادها.. كل إنسان يتحمل عواقب أفعاله