«الواقع اللاَّمرئيّ»… في رواية بدرية الكيومي

"الحياةُ من دون تحديات لا تستحق العيش". بهذا القول لسقراط، تُصدِّرُ الكاتبة العُمانية بدية الكيومي روايتها (الصادرة عن دار الفارابي في بيروت، حديثاً وفي طبعة أولى أواخر الـ2016)، والتي يسِمُها العنوان التالي: "الواقع اللاّمرئيّ". وتقع هذه الرواية في 223 صفحة من القطع الوسط. ومنها هذا المقطع:

نزلت سريعاً من السَّلالم متّجهة إلى محطة المترو المجاورة للسكن الجامعي محطة الأولمبيا بارك، أكثر الخطوط زحمة واكتظاظاً دائماً بالطلاب، كثيراً ما كرهت هذا الخط من القطار لأنها تضطر أن تكون واقفة طوال الطريق وتحاول جاهدة الالتصاق بالباب أو بقضبان القطار، علها تقي جسدها من تلاصق البشر. فلا مجال متسعاً لتتسلى بقراءة رواية من رواياتها المحببة للكاتبة أحلام مستغانمي ولا فراغ متاحاً لتحريك يد أو التفاتة رأس.

اقرأ أيضاً: «ما خَلْفَ الفكرة»… عن سرّ الإبتكار للكاتبة السعودية راما الحجّي

أخيراً تنفست الصعداء حين توقف القطار عند محطة الأونيفرستيت، تخلصت من الزحام، سريعاً تحت الخطى علها تُصل قبل إغلاق مكتب التسجيل لمقررات فصل الخريف.

أتمت سارة دراسة الفصل الأول بنجاح غير متوقع، بالرغم من تخرجها في جامعة محمد الخامس بتفوق، استصعبت اللغة الألمانية حتى خيل إليها أنها لن تتمكن من الالتحاق ببرامج الماجستير بسبب هذه اللغة لكثرة تعقيدها. على غرار استمتاعها بدراستها للغة الألمانية، فهي تعشق كل جديد، تجوب طرقات مدينة ميونيخ متأبطة يد إبراهيم تتهجى الكلمات الجديدة في قاموسها وإبراهيم يترجم معاني تلك الكلمات التي تنطقها بصعوبة، احبت سارة علم الكيمياء، وعشقت الخوض في غمار مركبات كيميائية معقدة تدفن فيها جل حياتها.

يقع مبنى الإدارة بجانب هذه المحطة أما بقية أقسام وكليات الجامعة فهي منتشرة في جميع أنحاء مدينة ميونيخ. دخلت سارة مبنى الإدارة العريق للجامعة الذي يشبه في بنائه أحد القصور بجدرانه العتيقة ذات اللون الطوبي وأسقفه المرتفعة جداً، وصلت حيث قسم القبول والتسجيل، ضغطت على الزر الموجود على يمين باب المكتب لتستخرج رقماً، ثم جلست إلى حيث مقاعد الطلبة قبالة المكتب تنتظر ظهور رقمها على الشاشة المعلقة في أعلى المكتب.

تعشق سارة الانتظار، حيث يخيم الهدوء والصمت على المكان فتسرح في عالم آخر مع جليسها المؤنس، وحده الكتاب الذي تتلبسه كحقيبة يدها يسليها في غربتها عن الوطن، يبدد عنها ساعات الانتظار فتمر السويعات وكأنها دقائق.. تتطلع بين الفينة والأخرى إلى الرقم المبين على الشاشة، كثيراً ما تلهيها القراءة عما عليها فعله… ها هو ذا رقمها يظهر على الشاشة وإلى جانبه الرقم اثنان، انطلقت من كرسيها لتفتح المكتب الثاني، إلى حيث يجب عليها أن تدخل.

كتاب

فتحت باب المكتب لتجد مسؤول التسجيل، لديه محادثة عبر الهاتف.. بقيت برهة قرب الباب تنظر إليه، كان يمسك بسماعة هاتف مكتبه بيده حين أشار إليها باليد الأخرى أن تتفضل بالجلوس ريثما ينهي مكالمته، أسمر، أسود الشعر، ملامحه عربية، حتى بطاقة عمله المعلقة على جانب صدره الأيسر، عليها إسم عربي، يعتليها إسم إسماعيل، في نهاية العقد الثالث من عمره.. ما إن تسمرت في الكرسي الذي قبالة مكتبه حتى انهالت نظراته عليها، يتفحصها، لم يكن معتاداً النظر إلى وجوه الطلبة، أما هي، فكان حتماً عليه النظر إليها.

أنهى مكالمته، أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها، وحياها باللغة العربية، أطرق رأسه، حين سألها الأسئلة المعتادة، أخرجت أوراقاً من حقيبتها، استمع إلى ما جاءت إليه والمواد التي ترغب في دراستها في هذا الفصل أو التي يحتم عليها اختيارها.. كانت سعيدة بتلك المقررات التي ستغوص في أعماقها، تهوى الكتاب والعيش بين جلدتين، تنسى فيهما الماضي والحاضر والمستقبل.
رفع رأسه نظر إلى العمق فيع ينيها حين فرغت من حديثها، أما جوابه لها فكان بعيداً كل البعد عما توقعته أو عما جاءت إليه والذي غيّر مجرى ذلك الفصل الدراسي من حياتها.

اقرأ أيضاً: كتاب «دمُ الأخوين» لفوّاز طرابلسي: عندما يُصبح قتلُ الأَخِ واجباً دينياً!

أفزعتها كلماته، كشف عن علتها، أخذ يحكي قصتها بدلاً عنها، هز الأوراق التي عاهدت نفسها بأن تجعلها في طي النسيان، أعاد إلى سطح الذاكرة ما كان مدفوناً فيها حتى اعترتها قشعريرة وذرفت عيناها الدموع.. هل كان سهلاً خدشها! أم أن الركام كان موجوداً على السطح فكان من السهل التلاعب به وإثارته.

السابق
أين المجزرة؟
التالي
البيت الابيض لمواجهة إيران: إحياء الشراكات القديمة مع مصر والسعودية