ملاحظات فجّة على نقاش لبناني فجّ

الكاتب جهاد الزين

من باب احترام النفس، ولا أريد الزعم الإنشائي أنه من باب احترام الحقائق، يتحفّظ المراقب عن إعطاء آراء في السجالات الدائرة حاليا بين أصوات “الطبقة” السياسية اللبنانية سواء حيال قانون الانتخابات أو غيرها من المسائل والتي لا يكف فيها العديد من هذه الأصوات عن استخدام كلمة “الإصلاح” استخداما سهلا أو معقّدا، وفي الحالتين مبتَذَل.
يلفت هذا السجال، “الطبقي”، بالمعنى السلطوي للسياسة، إلى إعادة “اكتشاف” بديهية كبيرة! وهي أن النظام السياسي اللبناني ليس فقط نظاما طائفياً بل هو نظام مناطقية طوائفية لا تنفصل فيها التمثيلية الطائفية عن الجغرافيا.
لذلك ومن هذه النظرة كان “المشروع الأرثوذكسي” محاولة لتهميش الجغرافيا في التمثيل السياسي لصالح الهوية الطائفية الصافية. كان مشروعا ينقل النظام الطائفي القائم إلى مستوى جديد يلغي كل أنواع مناطقية التمثيل – وليس مناطقية العيش والاختلافات – لصالح طائفية سياسية فوق المناطق. تصبح “منطقة” التمثيل غير جغرافية وكان هذا سيكون نظاما طائفيا بلا أقنعة، الحصص الطائفية فيه غير ملتبسة.
لم تستطع الطبقة السياسية تحمّلَ هذا التغيير لأنه ليس فقط تغييرا فجاً بل لأنه أيضا سيستتبع إنهاء القناع المركزي للنظام الطائفي اللبناني في صيغتيه “المسيحية” قبل اتفاق الطائف و”الثلاثية السنية الشيعية الدرزية” بعد اتفاق الطائف ليتحول من نظام مركزي لفيديرالية مقنّعة إلى نظام فيديرالي غير جغرافي كامل وعلى أساس طائفي صرف في زمن عربي وإقليمي جعل واقعيا المسيحيين طائفة واحدة فيما ولد سياسيا إسلامان سني وشيعي (ودروز مرتبكون سياسيا وليس دينيا) بينهما.
في كل السجالات الطائفية الدائرة حاليا حول قانون الانتخاب ثمة البعد المناطقي، مع وضد، كضمانة تريدها الطائفيات. البحث الأبعد الذي ترغب الطائفيات المسيطرة الانتقال إليه ولا تفعل ذلك هو إعادة التقسيم المناطقي ( المسمى دستوريا الإداري) القائم حتى قبل قانون الستين وهو التقسيم الذي وضعه الانتداب الفرنسي رغم بعض التعديلات المحدودة عليه (محافظتا بعلبك وعكار).
أما وأن القانون الأرثوذكسي مستحيل أو طَموحُ الفجاجةِ، ولو في منطقة عربية يسيل فيها الدم الديني غزيرا، لا تجرؤ عليه حتى الآن “الطبقة” السياسية اللبنانية مع أنه يناسب عميقا ما وصلت إليه هي إليه، أي الفيديرالية اللبنانية الفعلية (دائما على حساب طموحات شبابية مدينية نخبوية غير طائفية ). لذلك يمكن طرح الأسئلة المناطقية الطوائفية التالية من حيث إعادة النظر بالمناطق والتوزيعات القسرية التي فرضها انتداب فرنسي كان لدى ضباطه الكولونياليين ثقافةُ دمجٍ “علماني”.
هناك أسئلة مناطقية تراود العقل الطائفي اللبناني ولا تُطرح علنا… لنتصوّر أن بعضها هو التالي:
لماذا يجب أن تبقى منطقة جزين داخل إحدى محافظتي الجنوب الإداري ولا تعود إلى جبل لبنان؟
لماذا يبقى إقليم الخروب السني داخل الشوف ولا يتبع إلى صيدا وقد أصبح “يعيش” بسيكولوجيا وسياسيا بين صيدا وطريق الجديدة البيروتية وأقرب إلى طرابلس وقب الياس منه إلى بعقلين؟
ولماذا تبقى حاصبيا الدرزية الآن والجزء غير الشيعي من قضاء مرجعيون داخل الجنوب الإداري والانتخابي ولا تتبع إلى تقسيم جديد غير جنوبي؟
ولماذا تبقى راشيا مع البقاع الغربي ؟ والقرى الشيعية فيه داخل البقاع ولا ترتبط بالتقسيم الطائفي “الكانتوني” الجنوبي الذي هو اليوم جزء بسيكولوجي وأمني وسياسي منه؟
ولماذا تبقى البترون والكورة وزغرتا وبشري في الشمال الإداري مع طرابلس؟ ولا تلتحق ببيئتها الطبيعية في جبل لبنان؟ كذلك زحلة مع بعض قراها المسيحية المتصلة تستقل انتخابيا أو ربما إداريا داخل جبل لبنان أو داخل.
ولماذا ولماذا؟

إقرأ ايضًا:  مشروع قانون ميقاتي يجابه بـ«فيتو» مستقبلي: لا للنسبية الكاملة…

بدل هذا الجدل التمثيلي بين نسبي وأكثري ومختلط وكله من مدخل طائفي، لماذا لا يكون مناطقيا أي بوحدات إدارية جديدة تقلّص الخلل الراهن الطوائفي المناطقي، وهي التعديلات، العديد منها ذو جذور في التاريخ ما قبل الانتدابي؟
إذن البحث الأعمق هو في التقسيمات الإدارية الفرنسية وليس في قانون الستين.
الملاحظة الثانية على السجال الدائر هي وجود معضلة عميقة للفكر الإصلاحي التقليدي: أي العلماني أو اللاطائفي مقابل الطائفي وهي ليست معضلة النظام بل معضلة الإصلاحيين أيا يكن حجمهم وهم سياسيا رغم كثافتهم الشبابية “أيتام على ماَدب اللئام”:
الإصلاح يتطلب الدفع باتجاه أقل طائفية. بينما المعضلة العميقة في ما آلت إليه المنطقة هي أزمة انقراض المسيحيين وما يزيد ذلك بالتالي من مسؤولية تعزيز الوجود المسيحي اللبناني.
كيف سيوفِّق الإصلاحيون بين حاجة علمانية وبين ضرورة طائفية؟
كانت المهمتان متناقضتين في السابق، اليوم وبعد تحولات العالم العربي باتتا، كلاهما، نبيلتين. الأولى، العلمانية، تعني الطموح لحياة عامة لا يحكمها التعصب الطائفي والديني، والثانية، تعزيز الوجود المسيحي والنسيج المتعدد داخل الأكثريات والأقليات، تعني الحفاظ على التنوع التاريخي الاجتماعي الثقافي الحضاري للمنطقة.
هذه لم تعد معضلة لبنانية للفكر الإصلاحي بل معضلة عربية. وهي مسألة جادة جدا. لم يعد الكلام الإصلاحي اللبناني الذي انخرطنا فيه في ثمانينات القرن المنصرم سهلا. (شعار إلغاء الطائفية السياسية أنتج أعتى نظام طائفي قياسا بالنظام الطائفي الذي سبقه). تلك وصفات صارت تبسيطية بعدما كاد “الربيع العربي”، أنبل حركة شبابية خلال قرن، كاد يقضي على الأقليات ولاسيما المسيحيين تحت أقدام خيول التحريض المذهبي تارةً السني وطورا الشيعي. بل بأكثر من معنى كاد يقضي على الأكثريات من حيث حاجاتها التحديثية التي تتحول إلى ركام…
التقسيمات الإدارية الانتخابية وضعها ضباط فرنسيون أيام الانتداب بعضهم ذوو نزوع “علماني”، وقانون الستين وضعه أقوى ضابط تولى رئاسة الدولة في تاريخ الجمهورية اللبنانية هو فؤاد شهاب، والقانون النسبي يحاول أن يضعه الضابط البارز الذي أصبح أكبر زعيم مسيحي وصل إلى رئاسة الدولة، هو ميشال عون.

السابق
مشروع قانون ميقاتي يجابه بـ«فيتو» مستقبلي: لا للنسبية الكاملة…
التالي
أردوغان يعزز سلطنته عبر تعديلات دستورية جديدة