أزمة الصحافة اللبنانية هي أزمة سرد وخيال وبريد

تأخّر «اكتشاف» اللبنانيين لموضوع «أزمة الصحافة المكتوبة» المطروح منذ أكثر من عقدين في بلد كفرنسا على سبيل المثال. وربّما يكون من غير الدقيق الحديث عن «اكتشاف اللبنانيين» لهذا الموضوع. هو موضوع يعني صحافيي لبنان وإعلامييه الآن، وليس بالضرورة «الرأي العام» اللبناني.
حين باشر الفرنسيون الحديث عن أزمة الصحافة المكتوبة، منذ أكثر من عقدين، وأفردوا لذلك الدراسات والكتب والمناظرات، فعلوا ذلك لأن تراجع حجم المبيع وعدد الإشتراكات ونسبة قراءة اليوميّات المدفوعة وانخفاض عائدات سوق الإعلانات أخذت تقلقهم. انشطر الرأي بينهم بين من تعامل معها كأزمة دوريّة، بل ليست الأولى، ولا بدّ من ازدهار بعد تلبية الشروط اللازمة لأجل ذلك، وبين من أخذ يتحدّث عن نهاية تدريجية للصحافة اليومية المكتوبة المدفوعة. جرى الإتفاق في نفس الوقت على أنّ أنماط مزاحمة هذا النوع من الصحافة متعدّدة، ليس فقط مواقع الإنترنت، بل أيضاً الصحافة المحلية بإزاء تلك الوطنية، والصحافة المجانية بإزاء تلك المدفوعة، ونظروا في الصحافة الأسبوعية والشهرية فرأوها لم تصب بنفس الأذى. لم تخرج الصحافة اليومية المكتوبة من أزمتها المزمنة في فرنسا بالنتيجة، لكنها لم تتعرّض للإنهيار كذلك الأمر، وقارب دعم الدولة لها، وللصحافيين، الملياري يورو في السنوات الأخيرة، وهو دعم يجد أصوله في حوافز بريدية للصحافة في حكومة «الإدارة» (الديركتوار)، في العام الرابع من الثورة الفرنسية.
أمّا الموضوع فلم ينتشر لبنانياً، إلا مع توالي أخبار تسريح عدد من الصحافيين والعاملين في الصحف في العام الأخير، وصولاً إلى إقفال إحداها، وانتشار الأقاويل الدراماتيكية حول مصائر الصحف الأخرى. الأزمة هنا من نوع آخر: فحجم المبيع لم يعن الصحف اللبنانية جديّاً منذ فترة طويلة. إرتكازها لم يكن عليه. وحجم الإشتراكات «العادية»، وليس إشتراكات «الدعم» السياسيّ لها، لم يكن أساسيّاً هو الآخر في أي يوم. أزمة السوق الإعلانية المرتبطة بالكساد والوضع المتردّي بشكل عام للإقتصاد اللبناني هي أكثر تأثيراً، لكن الموارد المالية للصحافة التعدّدية اللبنانية ترتبط بالدعم الخارجي، من طرف أنظمة وحكومات عربية متعدّدة، وما حدث أنّه بدل أن تتحوّل صحافة لبنان إلى «الحلبة الثقافية – الإعلامية» للمقارعة بين المحاور الإقليمية التي تنقسم هذه الصحافة بينها بشكل «إيمانيّ»، فإنّ حركة هذا الإنقسام الإقليميّ بدت مستغنية عن الإستثمار في هكذا حلبة، أو عن «زخم» هذا الإستثمار، في الفترة الحالية على الأقل.
مكمن الأزمة إذاً أنّ الأسباب المباشرة لإقفال الصحف وتسريح الصحافيين تغطي على أزمة محدودية رواج هذه الصحف من الأساس، وعدم إنتشار أيّ منها على كامل المساحة اللبنانية بشكل جديّ، ثم تراجع حجم المبيع بعد ذلك سنة بعد سنة، و»مداراة الذات» بأعداد المتصفّحين لهذه الصحف على الشبكة، ثم «الإغلاظ على الذات» بأنّ عصر المطبوع قد ولّى، وأنّ الكلمة الآن للإنترنت.
وإذا كانت الصحافة اليومية الوطنية المدفوعة في النموذج الفرنسي قد تعرّضت لمزاحمة الصحافة المحلية، أو المجانية، أو مواقع الإنترنت، ولم تحضر الأزمة بنفس القدر بالنسبة للمجلات والدوريّات، فإنّ الوضع اللبناني مختلف وبشدّة: انهيار المجلات والدوريّات، السياسية والثقافية، أوضح بكثير من انهيار اليوميات، والصحافة المحلية لم تظهر أساساً في أي إقليم من لبنان باستثناء طرابلس، ولم تفعّل فيها بالشكل الكافي بعد، أمّا الصحافة المطبوعة المجانية على الطريقة الغربية فلا نظير لبناني حقيقي لها، ومواقع الإنترنت الإعلامية اللبنانية يمكن أن تقيّم إيجاباً موقعاً أو اثنين منها، على الأكثر.
مبدأ الإحتكار الذي يحبس الإقتصاد اللبناني في زمرة من «الوكالات الحصرية» يجد امتداداً له في «حق الإمتياز» الذي يحصر عدد الصحف، ويمنع المنافسة، والصحف اللبنانية هي ضحية «إنعدام المنافسة» فيما بينها، وضحية «إنعدام المنافسة» بينها وبين غيرها من وسائل ووسائط، وليست أبداً ضحية منافسة من أيّ نوع. هي أيضاً «ضحية» انتشار نظرتين مبتذلتين شائعتين عن الصحافي: فإمّا هو «حالة ضميريّة نضاليّة تبشيرية أخلاقياً» عند البعض، وإمّا هو «متكسّب انتهازي مدفوع الأجر» عند البعض الآخر، بل أنّك ترى الكثيرين ينقلون صحافياً من هذه المنزلة إلى تلك حالما يختلفون معه في الرأي أو المقاربة.
المبالغة في وصف الصحافة «كرسالة» لا يفيدها، بل يبعث فيها الكسل والخمول، ويجعل منتهى الصحافيين «التنديد» بأوضاع يندّد بها كل الناس، من دون ميزة تفاضلية لهم، إلا اصطناع الوقار أو الجدّية، كما لو أنّهم مرجعية أخلاقية في المجتمع. كذلك الإشتراط المطلق بأن يكون الصحافي متجرّداً بالتمام عن الخط السياسي للمؤسسة التي يعمل فيها أو مضطراً للمناكفة مع هذا الخط طول الوقت لإثبات «براءته»، وان لم يكن كذلك فللتبشير بالخط بشكل محموم وهستيريّ، ومتجرّداً عن الإعتبارات المالية والحياتية المبرّرة لكل ما عداه من الخلق، ما هو إلا وصفة سافرة للتشنيع على كل الصحافة في بلدان العالم الثالث. من العبث تطلّب أن يلغي الصحافي «نمط الإنتاج الكولونيالي» بكليّته في بلده، أو أنّ ينقل البنية التحتية من ريعية إلى انتاجية، قبل أن يوظّف في جريدة، ويكتب فيها مقالته، والكتابة ليست حرفة «إمّا أبيض وإما أسود». الصحافي المثالي ليس أبداً الصحافي المثالي في الأفلام المصريّة.
أزمتان للصحافة اللبنانية إذاً، واحدة متصلة بوصول الشكل الحالي إلى لحظة أمكن لرعاته المزمنين الإستغناء عن قسم منه حتى الآن، وثانية متصلة بأنّها مستغنية عن «التنافس» من الأساس، ومستغنية عن روح المغامرة والطاقة على سردها، قبل كل شيء آخر..
روح المغامرة هي تلك التي تجدها في نموذج الصحافي «تينتان»، الشخصية المصورة التي أبدعها الرسام البلجيكي إرجيه، شخصية المراسل الذي يتنقل بين البلدان والحضارات متابعاً خيطاً ما، وإن كانت مفارقة «تينتان» كما صوّره إرجيه، أنّه مراسل يكاد لا يجد وقتاً للكتابة ولا يعرف «ديدلاين»!
«الريبورتاج» له قوامه في الصحافة المكتوبة، الذي يختلف عن الريبورتاج التلفزيوني، أو الإنترنتي، في أنّه نوع أدبي يكون أو لا يكون، وفي أنّه يتطلّب الحركة (المشي أولاً!)، وليس القعود والخمول. الصحافي غير المعتاد إلا على الفنادق الفخمة عندما يدعى إلى ندوات، أو يرافق السياسيين، هو حالة غير صحية، غير صحية بالمعنى البدني للكلمة قبل كل شيء. لا يمكن أن يكون كل صحافي أنثروبولوجي، لكن لا يمكن أن يكون المرء صحافياً من دون حدّ أدنى من الخبرة المعرفية والميدانية للتعامل الحي مع الثقافات المحليّة، وليس فقط مع «قضايا الناس» المعدّدة في كاتالوغات «المنظمات غير الحكومية»، الفاقدة للخيال، أو كنشرات سياحية ترويجية أو متثائبة.
والخيال هو ما جعل صحافيان مراسلان مثل ريشار كابوتشنسكي البولوني، وتيزيانو ترزاني الإيطالي، أديبان عظيمان أيضاً، أديبان فيما يكتبونه من ريبورتاجات، كابوتشنسكي عن الاطاحة بامبراطوري الحبشة وإيران مثلاً، وترزاني عن حروب الهند الصينية، وليس فقط في أعمال أدبية صرف موازية لنشاطهما الصحافي. لكن كيف السبيل لصحافة مكتوبة يكون فيها «كابوتشنسكي» العربي هو الذي ينال أعلى حظوة معنوية ومالية فيها، سواء كان مجال مراسلته محل السمانة قرب مقر الصحيفة، أو بلدة طرفية من لبنان، أو على خط التماس بين الكوريتين، وليس البيروقراطي الذي ينتظر انتهاء دوام عمله اليومي وراء الحاسوب ؟ (لا يعني هذا عدم الحاجة لفنيين وبيروقراطيين بطبيعة الحال، وحتى في هذا النطاق فالتجديد تحدي يومي).

إقرأ أيضًا: ورقي أم الكتروني لا فرق… فرجعيتنا باقية وتتقدم‏

هناك «جوع أنثروبولوجي» عميق لدى الناس، أعمق وأهم بكثير من «قضاياها الحياتية» المبرمجة في كاتالوغات المنظمات غير الحكومية والبرامج «التغييرية» التقليدية. أعمق وأهم بكثير من المبارزات الأخلاقية المتواصلة. ليس مطلوباً من الصحافي أن يكون «ضميراً». لم يكن كابوتشنسكي حالة «ضميرية». أبداً. كان حالة نهمة لإكتشاف البلدان، في اللحظات الحرجة والمشهدية، وكان حالة سردية تفهم «الفطرة الصحافية» في الإنسان، التي إسمها «الفضول»، والفضول ليس الإثارة، بل هو عكس الإثارة.. وعكس «الإسترسال الضميروي» الخامل!
ما تفتقده الصحافة اللبنانية، والعربية إجمالاً هو التصالح مع الفطرة الفضولية. ليس هناك، في العربية، من بالمستطاع مقارنته بكابوتشنسكي أو ترزاني. التجربة الوحيدة التي كانت رائدة في هذا المجال، وأعطت لفكرة «العروبة» مثلاً، رصيداً أكبر بكثير من كل الخطب والسياسات «القومية»، كانت تجربة «الاستطلاعات المصورة» التي تجوب أماكن عربية مختلفة وبعيدة التي زاولتها «مجلة العربي» الكويتية، خصوصاً في الفكرة التي كانت متبعة عن هذه الاستطلاعات من الستينيات حتى الثمانينيات. أمّا «الشغل الصحافي» على المناطق اللبنانيّة، فإنك تجده في «قلب لبنان» لأمين الريحاني أكثر مما تجده في التراث الصحافي لهذا البلد.
وما يفتقده لبنان قبل كل شيء هو النسق القادر على إشاعة الصحافة: النظام البريدي. من الذي يملك صندوق بريد خاصا به في لبنان؟

إقرأ أيضاً: مصير «السفير» والصحافة العربية

قلّة قليلة ومحصورة جغرافياً كذلك الأمر. من دون نظام بريدي حقيقي يصبح من العبث التفكير في إصلاح الصحافة بقصد جعلها «منزلية»، فإن انعدمت الفضاءات العمومية كذلك الأمر، وشحّ الخيال وقلّ التجوال ونضب ما يقرأه الصحافيون (من مواد غير صحافية، في حين تراهم يتشاطرون على المتباريات بمسابقة ملكة الجمال من باب أن في جعبتهم أجوبة أسئلة على ما تُسأل الملكات!)، وصارت المهنة «قعوداً وراء حاسوب»، وبقي تملك الصحف متخلفاً عن أي تعدّدية مساهمة، وعن أي مأسسة، تصير الأزمة شاملة، ولا تقتصر على المطبوع، بل تشمل المطبوع والشبكي معاً.. على هامش الكارثة التلفزيونية بلا قعر.

السابق
ظريف يبكي رفسنجاني
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الاثنين في 9 كانون الثاني 2017