تقاسيم الردح

سمير عطا الله جريدة النهار

“اللبنانيون واقع ركام وليسوا واقع جماعة”.

المطران جورج خضر

“خُلق الإنسان حراً، لكنه مقيد في كل مكان”. هكذا قال المشرد السويسري، جان – جاك روسو، الذي قادت “اعترافاته” إلى الرومانسية، وأفكاره البسيطة إلى الثورة الفرنسية. المشكلة كانت دائماً في موقف الفرد من نفسه: هل هو عاشق حريّة أم هاوي نير؟ هل فيه احترام لنفسه أم هو سوقي؟ هل هو “جنتلمان” أو ما سماه كونفوشيوس “جونزي”، أم هو بلا اخلاق؟
كلما بانت ظاهرة معيبة أو مشينة من الجماعات اللبنانية، أشعر بالمزيد من الفزع. لقد تخطيت مرحلة القلق منذ زمن، وأعيش منذ عقود خوفاً يومياً على كل شيء. لكن أكثر ما أخافني منذ الحرب، كان مشهد الجنون الجماعي، أو الاجرام الجماعي، أو الأسوأ، أي الغباوة الجماعية. وفي ذلك، قول الإمام علي “ما جادلتُ جاهلاً إلاّ وغلبني، وما جادلت عالماً إلا وغلبته”.
تبعث الضحالة الجماعية الذعر في النفوس، لأن دلالاتها شديدة العمق. الجمهور الذي يصفق للبذاءة ويفرح بها، يمكن أن يصفق للمتاريس، أو لنيرون.
روى سعيد تقي الدين أنه شعر أكثر مرة بالخوف في حياته عندما واجه جمهوراً “مؤيداً” راح يتضخم في سرعة. لم يعد من الممكن ضبط نوعية العصب.
الناس أولاً. واعتذر عن الإكثار من المأثورات، لكن مونتسكيو كان يقول إن الحكومة في الرجال، لا في القوانين: “عندما تكون لشعب تقاليد جيدة تصبح القوانين بالغة السهولة”. والمقصود بالتقاليد، أو الاعراف، هو ما تجمع لدينا تحت عنوان “الميثاق”. والميثاق هو الروح، أي الناس، كسند للدستور الذي هو النص. وفيما يحتمل النص التأويل أحياناً، “اقتضاء الفتنة”، فإن الميثاق خلاصة الاعمار والافكار والكبار، لا يحتمل التأويل.
ثمة اعتقاد أن “الميثاق الوطني” ولد مع الاستقلال. قبعة بشارة الخوري وطربوش رياض الصلح. القبعة تستعرب والطربوش يتقبل. لكن الحقيقة أن الميثاق في جوهره وسعته، مولود مع فكرة لبنان والحرية. الشهداء، قبل عقود من الاستقلال، كانوا مسيحيين ومسلمين ومن غير أن يكون فيهم “بطل” واحد، تماماً كما في العقد الاستقلالي وصورة قلعة راشيا، حيث تجمعت الطوائف، عفواً، أو قصداً، لكي تكون الميثاقية صنو الحرية والمشاركة.
بهذا المعنى، تجاوز الميثاق معاني الدستور لأنه خيار جماعي، لا قانون جماعي. اداة قائمة على المساواة، خالية من الغطرسة وبعيدة من النزعة الديكتاتورية في “النفس الأمّارة بالسوء”. لم يسقط الميثاق بسبب خلل فيه، بل بسبب خلل في تغير الحراسة.
نوعية “الحكومات” سخَّفت القوانين، فلم يعد لها قيمة. واتبعت “الجماهير” الذين سخفوا كل القيم التي تقوم عليها الدول: الحرية والسيادة والاستقلال والوحدة الأخلاقية. ومشت الجماعات خلف الدعوات إلى التذابح والتفتت. ورفعت جميع الأعلام ضد العلم الوطني. واتهم أحدهم النشيد الوطني، الذي نقف له، بأنه مسروق من الريف المغربي. ولم يلتفت أحد. الجماهير تطرب وتصفق للبذاءات الغبيّة، لأنها تحاكي فيها غريزة الاستسلام للتفكر.
تتساوى الاشياء عندما يبطل التفكر ولا يعود العقل يقرأ سوى اللافتات المتدلية. يختلط خطاب اللعنة بخطاب الميثاق، فيكون الخليط محطة أخرى على درب الصليب. يا للرؤوس الكبرى التي ابتدعت الميثاق تقليداً للإلهامات الإنسانية الكبرى في التاريخ، كالماغنا كارتا. بلد صغير في قلب الموج وعلى حافة الريح، يقف متمهلاً ومتأملاً، كي يصنع لنفسه لغة الالتقاء والمساواة والحرية. يرثها من يرثها، ويذروها في الشوارع من يذريها. هناك مصطلح لم يرد صراحة في الميثاق، وهو أنه أبعد من الطوائف، وأرقى من النفوس، وأسمى من الهوائج العابرة، سواء كانت لغة اللعن أو سفه السفهاء.
لم تكن فوق المسرح أي مفاجأة. المفاجأة كانت تحته. العام 1975 جاء عيدي أمين دادا، يلقي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، خطاب منظمة الوحدة الافريقية، التي كان رئيسها تلك الدورة. كانت سُمعته يومها أنه يلقي بمعارضيه إلى التماسيح، وانه أباد 200 ألف إلى 500 ألف بشري من شعبه وأهله. نادراً ما تمتلىء قاعة الجمعية لأي خطيب، ولكن يومها اكتظت بالحضور. ووقف أمين دادا يخطب ساخراً من الحضور، داعياً الجميع إلى السياحة في أوغندا، حيث “السباحة آمنة وممتعة”.
وعند كل إهانة للناس من هذا القبيل، كان الجمهور يصفق ضاحكاً معه على أفظع حالة دموية في تلك المرحلة. وعندما خرجنا من القاعة، زوجتي وأنا، بعد انتهاء الخطاب، كانت الناس تتضاحك على القفشات وكأنها خارجة من مسرحية كوميدية.
لم ينسَ المؤهل السابق في الجيش البريطاني أن يحضر بكامل الثوب العسكري. نياشين وأشرطة وخيطان ونجوم وتيجان وحشوة اكتاف (ايبوليت). تساءلت في نفسي ماذا كان شعور الديبلوماسيين والديبلوماسيات من دول حقوق الإنسان، عندما عادوا إلى منازلهم وتذكروا أنهم صفقوا لِلَطائف التماسيح وضحكوا لها؟ وكم من هؤلاء صفق عن خوف وهو يخشى أن يجتاح دادا القاعة في أي لحظة؟
قلّده معمر القذافي بعد نحو ثلث قرن خلف المنبر نفسه. ليس بصفته رئيساً للمجموعة الافريقية، بل ملك ملوك أفريقيا جميعها. ارتدى عباءاته ذات الطبقات، وراح يمازح العالم كأنه أمام مجموعة “مرابعية” يعملون عنده بالسخرة في خيمته الرديئة الألوان. صفقوا له. وزاره في خيمته في سرت طوني بلير وكوندوليزا رايس، الشريكان في اكبر عملية تزوير في احتلال العراق.
يجب أن نتأمل المصفقين لأنه لولا هتافهم الأجوف لما كان من الممكن أن تتمادى وتتفاقم ظاهرة عيدي أمين. الذين صفقوا لموسوليني حتى دمر ايطاليا بانتفاخه، هم الذين لاحقوه هارباً في بحيرة كومو، اعدموه، ثم علقوه من ساقيه، لأن الجماهير حالة من اللاوعي البذيء والمتوحش. لقد هتفت لصاحب “الكتاب الأخضر” ثم سحلته، ثم سجَّته على حصيرة لكي تتأمله، بالصف، جثة في عباءة ممزقة. صدقته وصدقها، ثم خدعته وخدعها. ظل يردد أن الحكم للشعب إلى أن طالبه الشعب بشيء من الحرية، فصرخ في وجهه: من انتم؟ جرذان. من أنتم؟
لكل عقد مدى، ولا عقد مدى الحياة. والميثاق بين مجموعة بشر، وليس بين آلهة هتافين. يأتي يوم يمل فيه الهتّافون من تبادل الخواء، ويلحظون، على رغم خدرهم، أنهم فقدوا كل ارادة واعية حتى اصبحوا يهتفون للزقاقيات السمجة غير المسموحة في بيوتهم، وحتى في مقاهيهم.

إقرأ أيضاً: رئاسة الجمهورية في عامها الثالث.. تنتظر الستاتيكو العسكري في سوريا 
المشكلة تبقى تحت المسرح. الذين فوقه يعدون كل فترة شيئاً جديداً. هذه تعليمات واضحة و”شرعية” مدوّنة في كتاب الحركة الفاشية الايطالية. ولا حرج. كلما فكرت الجماهير في أن تفكر، وهي نادراً ما تفعل، يجب أن تحرك مهمازاً جديداً. وفي الامكان الاتكال عليها إلى زمن طويل. ولكن حاذر أن تتركها مع التأمل، فسوف يتكرر الحاجز الذي اعتقل عليه موسوليني، أو العبّارة التي اعتقل فيها القذافي، أو نفق الفرار الخاص الذي ضبط فيه تشاوشيسكو.
“الجماهير” لا وفاء لها. سبعون عاماً وهي تهتف لثورة اكتوبر المجيدة، ثم، في يوم واحد، روسيا دولة رأسمالية، وتحضر قداس الأحد في جميع الكنائس التي أعيد بناؤها بدل مقار الحزب الشيوعي. والمفوض العام الذي ظل يبشر الشرق بأن الدين افيون الشعوب، حضر فجأة من اجل انقاذ مسيحيي الشرق. كنت واقفاً مع غسان تويني في رواق الأمم المتحدة ننتظر مع الجميع وصول وزير خارجية الاتحاد السوفياتي الجديد ادوارد شيفاردنادزه.

إقرأ أيضاً: التشريع.. بري مصمم والمعارضة المسيحية تتوسع
كان الرجل الجيورجي خَلَف ستالين في زعامة الحزب الشيوعي في تبيليسي. ثم حل محل الوزير الابدي اندريه غروميكو في وزارة الخارجية. وفي العام 1991 اصبح رئيساً على جورجيا. ومنذ ذلك الوقت لم تعد تلتقط له صورة إلا وعلى جدار مكتبه ايقونة السيدة العذراء.
تستيقظ المسيحية فجأة لزوم العدة. ويطرب الفراعنة لتقاسيم الميثاقية، ويتحول الطرب إلى شتائم على ايقاع الكره. ولا يبقى للوطن سوى أن ينزوي. فأهل الميثاق لن يخرجوا إلى الشرفة للردح، لأنهم لا يضحون بقدسية الحياء.

(النهار)

السابق
الأخبار: هذا مصير الموظفين الذين سوف يصرفهم الحريري
التالي
حزب الله يتوسّط ليعقد صفقة مع الجماعات الإرهابية: حلال لـ «محور الممانعة»