«صبرا».. شارع الشرّ الذي يخفي حقيقتنا

شارع صبرا
فجاجة المشهد في "صبرا" تؤكد للمارة حقيقة المجتمع اللبناني الذي يختبئ بين "عوالم صباح" كأنها مدينة منافقة تخفي حقيقتها بلهجتها الفرنكوفونية المتعالية المتكبرة المتشاوفة، وضاحيتها المتباهية بلهجة القوة الحاسمة والمحسومة. فماذا يرى العابر من وإلى هذا الحيّ؟

بين بيروت، العاصمة اللبنانية، وضاحيتها الجنوبية ثمة “كوريدور” طويل مُفعم بالفوضى، سوق شعبي حيويّ يقدّم صورة حقيقيّة عن بيروت الفقيرة المُبهدلة بثيابها الرثة، بيروت العاصمة بما تمثّل من أم للفقراء، وحاضنة للتُعساء، لدرجة أننا لا نلمح أيّ كائن قائم في أحيائه يضحك أو يبتسم. الفرحة تغيب عن وجوه قاطني هذا “الكوريدور” الطويل، العاجق بالبشر، الذين يتميزون بسمرة وجوههم، هذا اللون الذي هو أشبه ببطاقة الإقامة او “الباسبور” الذي يحمله الداخل او المار في هذا “الكوريدور” الكوزموبوليتي.. إنه شارع “صبرا” أو حيّ “صبرا”.

اقرأ أيضاً: تحميل العونيين مسؤولية تعليق الحوار ..وحزب الله يتحرّك

في الجزء المُطل على محطة بنزين شهيرة، التي هي في الوقت عينه محطة محروقات، ومحطة نقل من والى بيروت، ومكان تجمّع أمة لا إله الا الله، ونقطة وصل بين بيروت الكاذبة بتبرجها والمصطنعة للجمال، التي ربما لجأت الى “البوتوكس” كسائر النساء منذ سنوات، وبين بيروت الحقيقية، ملجأ الفقير والهارب والمستضعف والحرّ والعامل.

بيروت التي تبعد جدا عن الضاحيّة ليس بالمسافة، بل بجوّها العام والنقيض والموحيّ بسفر طويل، تقطع معه وفيه المسافات لولا المرور بالمخاض أي بحيّ صبرا، ثم الى الضاحية الفوضوية والحزبيّة الى أقصى درجاتها.

هذا الممر الخلاصيّ يؤلم لأننا لا نراه على شاشات لبنان المهرجانيّة “الكلاس”، ينقلنا الى لبنان الوسخ بنفاياته، الفوضويّ بمحاله التجارية، الخالي من ميثاقيته، المُنقلب على الصورة النمطية التي تحاول ان ترسخها اعلانات وزارة السياحة في أذهاننا.

حيّ “صبرا” يجمع الفلسطيني، والسوري، والسوداني، والمصري، والنوري، والمكتوم القيد، والسيرلنكي والبنغالي والأثيوبي، وكل من هو آت من قاع سلم الفقر، في مهن تجارية، وفي تنسيق علائقي غير مفهوم بين المحال والشارع العام، بين القهوة بما هي مكان للإستراحة السريعة للاجساد المنهكة من الأعمال الشاقة، وبائع القهوة الجوّال الذي سينقرض بعد قليل، وبين الفانات، والركاب، وبين النساء المتشحات دوما بثياب سوداء طويلة مفصلة ولاصقة على الجسم توحي بالاشكال المفجعة لفتيات غير آبهات بفارغي النظر، ونساء يمتطين “موتوسيكلات” رجالهن بصحبة ما لا يقل عن خمسة أطفال ما بين الخامسة عمرا والأشهر.

“صبرا” الشارع التجاري دون أن تلمح أيّ مركز تجاري أو”سنتر” باللهجة اللبنانية الدالعة، أي “سنتر” فارع بطوله. هو شارع تجاري يغصّ بالشارين والبائعين في هشاشة البسطات، والخيم، والعرض السريع، على أرض متّسخّة نسيت البلدية دوما تنظيفها.

حيّ “صبرا” يرفع شعار حركة أمل على مدخله، ربما ليرفع عصا الخوّات بوجه المشاكسين، ليقول لهم هذا الشعار أنا المشاكس الوحيد هنا، وانا البلطجي الوحيد، وأنا الفوضويّ الناظم لفوضاكم أيها الفقراء المُعدمين كوني أنا (أيّ الشعار) أبا للمحرومين- ليس المحرومين الجدد بل المحرومين القدماء قبيل خطف “موسى الصدر ورفيقيه”.

الحرمان كبُر جدا لدرجة ان أصحابه الأصليين، تنازلوا عنه لملّاكين جُدد أتوا من سوريا ومصر والسودان.. لقد شبع المحرومون الأوائل، والآن على المحرومين الجُدد تقليدهم ليس دينيا، بل مهنيّا علّهم يصلون أو هم بحاجة لحامل الأمانة ليصلوا لموسى جديد في المنطقة العربية بعد ان قتلوه وأشبعوه قتلا في عقلهم وذهنهم وتفكيرهم قبل ان يقتله حافظ ومعمر معا.

حيّ “صبرا” حيّ الخيال الوسخ، حيّ إنفلات الخيال على غاربه السيئ وليس الجميل، حيّ النساء الإفريقيات اللواتي يقطنّ في تماس حاد جدا على أبواب رجال سوريين، محرومي الشهوة المُكلفة.

صبرا

حيّ “صبرا” لا بلدية له ترعاه، ولا افتتاح أسواق رسميّة أيضا، ولا مهرجانات صيفية ترعاه، لا سينما، لا مسرح. انه الفكرة والعبرة والقصة التي يكتبها الجميع كما يرى صورته وإنعكاسها في داخله. فـ”صبرا” في الصحف والكتب هي إسم لمجزرة اسرائيلية ارتكبها المحتل عن حقد ولأناس ماتوا دون سبب، لكنه اليوم واقع مؤلم لبلد تعيس مختبئ خلف “عوالم الصباح” المُنافقة والكاذبة، التي “تردن” بجميع اللغات الا اللغة المحلية للفقراء. وربما تعفّ نفسها عن ذكر أماكن الفقر المدقع، والعصابات والوحشية اللاأخلاقية والإرتكابات المؤلمة والتي لا يزورها “للنشر” الا عند فضيحة جنسيّة ما.

صبرا” هي الصبر الإنساني على التنحيّ عن واجباتنا في صيانة الإنسان وإسعاده، هي نسيان البسمة والضحكة. هو صندوق حزن لا يريد ان يفرح، لأنه مقصد التعساء، ولأن القاصد مشروط عليه ان يكون بائسا والا طُرد من هذا الحيّ، المحاط ببيروت المتزلفة بجمالها والضاحية الفجّة بواقعيتها.

اقرأ أيضاً: لا حرب في لبنان… إنّما الأسوأ

البؤس هو شرط المرور هناك، هو العاهة التي تصيب وجوه قاطنيه، بل المارين فيه، الذين يهربون غالبا خوفا من عدوى قد تُصيبهم.

“صبرا” أخافك، وأخاف المرور في زواريبك، لأني أرى فيك فجاجَة وحقيقة الواقع اللبناني البائس.

السابق
بريطانيا خائفة على مستقبل سوريا من «ضعف نظام الأسد»
التالي
نديم قطيش: التضامن مع «إبن أنيسة» كما التضامن مع اسرائيل