إما مقتول أو قاتل

الكاتب جهاد الزين

بعض أعمق وأسوأ ما في الوضع التركي المستجد بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أن الرئيس رجب طيِّب أردوغان دخَلَ من حيث مصيره الشخصي السياسي في معادلة مضرّةٍ جدا لتركيا و”نموذجها” الداخل في الاحتضار ومسيئة حتماً للتطور الديموقراطي في هذا البلد المسلم المهم. إنها معادلة: إما قاتل أو قتيل؟ ولربما الأدق القول أن الرئيس التركي بلغ عملياً هذه المعادلة قبل الانقلاب، ومحاولة الانقلاب نفسُها هي علامة على ذلك. بل لعلّ ما حصل في نهاية الأسبوع الماضي يمكن اعتباره محاولة اغتيال لأردوغان أكثر منها، ربما، محاولة انقلاب؟
سأفترض نفسي متكلماً مع أردوغان وجها لوجه.. وسأقول له:

لماذا فخامة الرئيس رجب طيِّب أردوغان
لماذا أيها السياسي والحزبي العصامي البارز الذي جاء على حصان الديموقراطية الأبيض إلى السلطة توصِل نفسك ومعك تركيا إلى هذه المعادلة الوخيمة التي لا يعيش ضمنها سوى عتاة الديكتاتوريين: إما قاتل أو قتيل. ونحن نعرف قصصهم جميعاً في العالم العربي والعالم الثالث الذي عادت تركيا وانضمّت سياسياً إلى ناديه بعدما دخلت نادي “النمور” اقتصادياً منذ عهد الرئيس توركوت أوزال ثم أحدثْتَ أنتَ قفزةً نوعية في هذا الاتجاه الاقتصادي “النموري” نرجو أن تستمر بعدما ظهرت مؤشرات سلبية في السنتين الأخيرتين.
ألم يكن الأفضل بالمطلق لك ولتركيا أن تتحوّل إلى رئيس وزراء متناوب على السلطة، إلى زعيم سياسي قُدِّر له أن يكون الشخص الثاني الأكثر أهمية في تاريخ الجمهورية التركية بعد الرئيس مصطفى كمال أتاتورك منذ نجحتَ في إنهاء الوصاية العسكرية على الحياة السياسية المدنية. رئيس سابق، رئيس حالي، وهكذا دواليك كما كان مأمولاً للتطور الديموقراطي لـ”النموذج التركي” في العالم المسلم أن يصل إليه ويَثْبُت عليه في هذه العلاقة (التي كانت) ناجحة بين الإسلام والحداثة في الجمهورية التركية.
أعرف أنك تكرر القول وتتمسّك بأنك تمثِّل الخيار الديموقراطي في تركيا الآتي من صناديق الاقتراع. هذا كان صحيحا بكل بساطة في السابق. وهذا صار”صحيحاً” بكل تعقيد الآن. وسأكرر هنا حول هذه النقطة ما سبق لي أن كتبته وقلته على التلفزيون:”ماذا تنفع صناديق الاقتراع إذا جاءت بديكتاتور أو بمن سيتحول إلى ديكتاتور (نابوليون الثالث وهتلر وموسوليني وبيرون) يقمع الصحافة والأكاديميا (هتلر وموسوليني) ويقيم نظام دولة بوليسية (هتلر وموسوليني) ويصفّي القضاء والشرطة ويخضعهما ويُدخل جيشه في حرب ضارية مع جزء كبير من شعبه لتحريك العصب الشوفيني (الأمثلة عديدة ولكن أريد أن أكتفي هنا بحكام جاءت بهم صناديق الاقتراع) والآن ربما يقسم الجيش نفسه، هذا الجيش الذي أسّس الدولة ويُعتبر من الجيوش المحترمة في العالم”.
الآن وأنتَ مستاء من محاولة الانقلاب – الاغتيال، ولك كل الحق، ولكن كان عليك أن تتوقّع ذلك، أريد أن أذكّرك بما حصل لجيوش عربية كما في سوريا ومصر والعراق انشغلت بصراعاتها الداخلية ففقدتْ كفاءاتِها وحتى تماسكَها وظهر ذلك فضائحياً عام 1967 وهذا ما يجب أن لا يدخل في سياقه الجيش التركي المحترم تقليدياً. ما يدفعني إلى هذا التحذير أنني قرأتُ أنك صرّحتَ أن فشل الانقلاب هو “هدية من الله لتطهير الجيش”. إنتبه لما تقول، فتماسك تركيا ومهابتها لا زالا مرتبطَيْن أساساً بعاملين: هيبة الجيش التركي وقوة الوطنية التركية. فلا تنسى، بالنتيجة، أنه من الناحية السياسية أنتَ المسؤول حتى عن المحاولة الانقلابية كنتيجة لتحولك التسلّطي.
علّمَتْنا التجربة العربية أن كلمة “تطهير” هي مفتاح التدهور اللاديموقراطي واللاحداثي. ولذلك فإن أرقام “التطهير” والاعتقالات الأولى الرسمية التي ظهرتْ مؤخراً بعد الانقلاب تثير كل أنواع المخاوف وهي في ارتفاع يومي مع ارتفاع أرقام الاعتقالات.
إذن “صناديق الاقتراع” لا تخولك تحويل تركيا إلى دولة بوليسية وإلى حاكم لا يتصور ولم يعد يتصور نفسه خارج الحكم.
صناديق الاقتراع تخولك، وقد خوّلتك فقط بمنع أن تكون تركيا تحت حكم الوصاية العسكرية. لكن الطليعة التركية، ومعظم الأتراك رغم الشعبوية، لا يقبلون من موقع تجربتهم الحداثية، أن يعيشوا تحت حكم بوليسي لا يقبل اختلاف الرأي حتى لو كان آتياً من صناديق اقتراع صارت، بعد الحرب الضارية مع الأكراد وربما بعد الإرهاب الذي تتعرّض له تركيا، صناديق مبرمجةً على الخوف والتخويف. وهذا انتقاص عميق من حرية الناخب. بل مصادرة لها لاسيما بعد ظهور عناصر مُقَنّعة تعتقل الجنود والضباط كما لو أن تنظيماً سريا لحزب العدالة والتنمية كان موجوداً وجاهزا ًقبل الانقلاب.

اقرا ايضًا: لغز «الانقلاب الهزيل» وألغاز أردوغان!
ستتحمّل أنتَ مسؤولية إجهاض التطور الديموقراطي الغربي، كل تطور ديموقراطي في أي بلد في العالم له هوية غربية ولو لم يكن البلد غربياً. فتركيا منذ بدأت أحداث ساحة تقسيم عام 2013 إلى المحاولة المرفوضة للانقلاب العسكري باتت تشبه فريقاً رياضياً في اتحاد رياضي غربي سقط من الفئة الأولى إلى الثانية وربما اليوم إلى الثالثة. لماذا يكون على بلد مسلم من قلب الشرق الأوسط، أي عالم الإسلام الرئيسي، أن تتراجع قدراته الديموقراطية ولا تتقدم مثلما تتقدم دول أوروبا؟ لو كان التراكم الديموقراطي سليماً لما كان يجب أن يحصل الانقلاب، أي انقلاب.

ما هذه اللعنة؟ ولماذا سياسيٌ مثلك كان يرمز إلى التحول الديموقراطي أصبح عنوان نهاية النموذج التركي؟
لماذا على صناديق الاقتراع أن تبرّر نظاماً بوليسياً أصبح البديل الواقعي عن دولة وصاية عسكرية. ومع الأسف الشديد الصراع الحالي في تركيا هو صراعٌ بين هاتين “الدولتين” وليس صراعاً على الديموقراطية؟
آلاف الضباط والجنود معتقلون في انقلاب عسكري والحبل على الجرار: هذا فهمناه. حوالي ثلاثة آلاف قاضٍ معتقل أو تحت التحقيق في انقلاب عسكري: لَم نفهم؟ آلاف الكوادر في وزارة التربية ووزارات أخرى مفصولون أو مجمّدون: أيضا لم نفهم ما علاقة ذلك “التقنيةِ” بانقلاب عسكري غير أنه محاولة انقلاب شامل تقوم بها لتكريس نظام آحادي حزبي مضموناً وشكلاً.
لم يفت الأوان بعد، رغم كل شيء، لأن تحول دون ربط اسمك بانقسام المؤسسات الرئيسية للدولة وبتحويل الشرطة شكلاً ومضموناً إلى عماد الدولة البوليسية التي أنشأت بعدما كنت لسنوات رمز التحول الديموقراطي في البلاد؟
وبداية الأعجوبة، ولو غير المنتظَرة منك، هي أن تعلن رفضك لأولوية البقاء في السلطة على حساب مصير تركيا وأن تقول أنك تتحمل المسؤولية عن وصول الأوضاع إلى هذه النقطة وتستقيل كأي رئيس ديموقراطي غربي يحترم مسؤولياته فيتنحّى في لحظة انتصار على أخصامه لينقذ تركيا وإنجازات مائة عام من الجمهورية بل وإنجازاته الشخصية السابقة.
يُقال أنك تحضّر لمبادرة على المستوى الداخلي. يجب أن لا تكون شكلية أبداً.

(النهار)

السابق
بدء جلسة مجلس الوزراء في السراي الحكومي
التالي
التفاؤل يعمّ أجواء «الرابية».. فيما الرئاسة «مكانك راوح»!