المصالحة التركية الإسرائيلية… الغاز وأشياء أخرى

تم الإعلان رسمياً الاثنين الماضي عن اتفاق المصالحة التركي الإسرائيلي لرفع مستوى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، وتبادل السفراء مرة أخرى. الاتفاق تضمن تلبية شرطين من شروط تركيا الثلاث، مع حل وسط فيما يتعلق بالشرط الثالث. للتذكير فقد طالبت تركيا بالاعتذار الإسرائيلي عن جريمة أسطول الحرية، والتعويض للشهداء، ورفع الحصار عن غزة، الذي كان الهدف أو الفكرة الأساس وراء تسيير الأسطول.

اقرأ أيضاً: مستقبل علاقات تركيا مع مصر وسوريا

قدمت إسرائيل اعتذاراً رسمياً منذ ثلاث سنوات، وبعد ذلك قبلت فكرة أو مبدأ التعويض مع مساومات أو نقاشات حول التفاصيل والآليات، والتزامن مع وقف الدعاوى ضد السياسيين والعسكريين المسؤولين عن الجريمة، بينما مثّل الشرط الثالث العقبة الأساس أمام المصالحة أو رفع مستوى العلاقات بين الجانبين ولا أقول تطبيع لأن السفارات ظلت مفتوحة، وإن بدرجة القائم بالأعمال والعلاقات الاقتصادية والتجارية استمرت أيضاً، بل شهدت ارتفاعا ملحوظاً في السنوات الأخيرة، خاصة أنها تتم أو تدار من قبل القطاع الخاص في بلدين يعتمدان الاقتصاد الحر.

للعلم أيضاً، فإن تركيا وعلى لسان كبار مسؤوليها وطوال ست سنوات لم تقل يوماً أنها لن تعيد أو تستأنف العلاقات مع إسرائيل، وإنما أصرت على شروطها الثلاث؛ ولم تقل أنها في حالة عداء مع الدولة العبرية وهى تتبنى فكرة التسوية العادلة الشاملة لقضية الفلسطينية القائمة على الشرعية الدولية، وحل الدولتين بينما جاء التمنّع من قبل تل أبيب التي ماطلت وتلكأت ثلاث سنوات بتقديم الاعتذار، وبعد الاعتذار ماطلت وساومت في قصة التعويض، وظلت ترفض أي حديث عن رفع الحصار، وحتى تخفيفه زاعمة أنها تفرضه لأسباب أمنية حيوية، وأنها تدخل ما يحتاجه القطاع من مواد ومستلزمات خاصة في السياق الإنساني.

للانتباه أيضاً فإن المؤسسة الأمنية العسكرية الاسرائلية دعمت دائماً المصالحة مع تركيا لأهميتهاالاستراتيجية وثقلها في المنطقة، ورغم دعم كبار المسؤولين السياسيين أيضاً للأمر، إلا أن نتن ياهو لم يمتلك الشجاعة اللازمة لفعل ذلك أمام صخب أفيغدور ليبرمان وبعض المتطرفين، والمزاودة عليه من اليمين كما لتفضيله خلال السنوات الثلاث الماضية للعلاقة مع نظام الجنرال السيسي، والحديث عن أن أنقرة ذهبت بعيداً في دعم حماس والعلاقة معها.
ما الذي تغيّر؟ ولماذا أبصر اتفاق المصالحة أخيراً النور؟ بعد مفاوصات استمرت بشكل متقطع ستّ سنوات تقريباً، علماً أنها أخذت طابع الانتظام أو التواصل في العام الأخير فقط.
بعد توقف لسنوات استؤنفت المفاوضات في أيار/مايو من العام الماضي، وكان أول لقاء قد عقد بين مدير عام وزارة الخارحية الإسرائيلية دوري غولد مع نظيره التركي فريدون سيزلى أوغلو في العاصمة الايطالية روما، وشهد تأكيد واضح على نية إسرائيل في تسريع وتيرة المصالحة واستعداد أو انفتاح للنقاش الجدّي حول الشرط الثالث المتعلق برفع الحصار عن غزة.

نتن ياهو بات طليقاً أكثر من الناحية السياسية بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي أضعفت خصومه، وهو شكل حكومة يمينية، خالصة حليفه او خصمه اليميني البارز فيها زعيم حزب البيت الصهيوني نفتالي بينيت، لا يهتم كثيراً بملف السياسة الخارجية – يركّز أكثر مع الاستيطان وتوسيعه وتكريس الطابع اليهودي العنصري للدولة – بينما ينصب اهتمام القطب الآخر موشيه كحلون على الاقتصاد فقط، وبالتالي فقد بات ملف السسياسة الخارجية بين يدي نتن ياهو، دون مزايدة أو سجال مع أحد وهو تولى وزارة الخارحية بنفسه مع تعيين أحد أصدقائه ومساعديه دوري غولد في منصب مدير عام الوزارة والرجل القوي فيها.

اسرائيل تركيا

إضافة إلى ذلك طبعاً سعى نتن ياهو إلى مواجهة المتغيرات في المنطقة، مع التحولات في سورية آنذاك لصالح المعارضة، ومع ضعف نظام الجنرال السيسي في مصر وعجزه عن فرض الاستقرار بمعناه السياسي الاقتصادي الاجتماعي الأمني، وبالتالى صعوبة الاعتماد عليه كشريك إقليمي، حتى لو امتلك الرغبة بل حتى خرج عن طوره أحياناً من إثبات قدرته على القيام بهذا الدور، كما تبدى من مبادرته الشكلية التي هدفت ضمن أشياء أخرى لمساعدة نتن ياهو على التخلص من صادع المبادرة الفرنسية وفكرة المؤتمر الدولي للسلام في فلسطين.

التدخل أو الاحتلال الروسي لسوريا أدى إلى تباطؤ الحوارات التركية الإسرائيلية بعض الشيء من قبل إسرائيل لهضم أو استيعاب نتائج هذا التحول، وبعد التأكد من نوايا موسكو الحسنة، واستعدادها لتفهم بل خدمة مصالح تل أبيب في سوريا طالما أن هذه الأخيرة لا تعمل على إسقاط نظام الأسد أو إضعافه، علماً أنه يخدم مصالحها في تدمير ثروات البلد، وتقتيل شعبها وتشريده في بقاع الأرض وعموماً. فقد اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أن الدفء مع روسيا لا يمنع تحسين العلاقات مع تركيا التي هي أيضاً لاعب مهم في سورية والمنطقة.

غير أن السبب الأساس والمركزي، وراء السعي الإسرائيلي لتحسين العلاقات مع تركيا، يتمثل بملف الغاز الذي تم اكتشافه بكميات كبيرة شرق المتوسط، وتسعى تل أبيب لتسويقه في بيئة كبيرة مستقرة مجدية. كما مد أنبوب عملاق لتصديره إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، نتن ياهو وضع ثقله السياسي والشخصي خلف هذه القصة أو ما تعرف بخطة الغاز الحكومية، باعتبارها جزء من المصالح الأمنية الحيوية لإسرائيل، وللمفارقة بدعم كبير من مسؤولين وسياسيين أمريكيين سابقين، حاليين، وسابقين شركاء في شركة نوبل أنيرجي العملاقة التي حازت على حق التنقيب عن الغاز وتسويقه.

رئيس الوزراء الإسرائيلي اعتبر أن السوق المصرية غير مستقرة، والسوق الأردنية صغيرة، وغير مستقرة أيضاً، وأن السوق التركي هو الأنسب، ويكاد يكون مثالي على مستوى الاتساع الجحم والبنى التحتية، وفهم طبعاً أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بمعزل عن التعاطي الجدّي مع بند رفع الحصار عن غزة.

في أيار العام الماضي قبل، وبعد ذلك لم يتغير الموقف التركي أو الشروط الثلاث: الاعتذار التعويض ورفع الحصار، الضغوط الإقليمية بما في ذلك تعثر سيرورة الثورات، والمسيرة الديموقراطية وشيوع وانتصار الثورات المضادة في العالم العربي، إضافة إلى الاتفاق النووي الإيراني، ورضى واشنطن عن الهيمنة الإيرانية على دول عربية، والتدخل الروسي في سورية، ثم حادثة إسقاط الطائرة في تشرين ثاني/ نوفمير الماضي، والرغبة التركية في عدم الارتهان إلى الغاز الروسي أو حتى الايرانى والتنويع فى مصادر استيراده مع الاحتفاظ بتركيا كنقطة مركزية لا يمكن الاستغناء إليها لنقله إلى أوروبا.

سعت تركيا كذلك لمنع نشوء تحالف ثلاثي استراتيجي ضدها يستند إلى ملف الغاز والطاقة بشكل عام ، يضم تل أبيب أثينا ونيقوسيا، بدعم من روسيا وبدرجة أقل من الأردن ومصر، وهذا التحالف الذي اعتبرته مؤذي وضار جداً بمصالحها، وعلى مستويات السياسية الأمنية الاقتصادية والاستراتيجية أيضاً.

موجة الإرهاب التي ضربت تركيا أخيراً، ساهمت كذلك في تشجيع سلطاتها على المصالحة مع إسرائيل، ليس فقط من أجل التعاون الأمني في ملف داعش وحزب العمال، وإنما لمنع تل أبيب من التأثير السلبي على الملف الكردي إن بشقه التركي أو شقّه السوري.

ارتدت التحولات السابقة بأثر سلبي على أنقرة ومصالحها ودفعتها إلى التفكير بحلول وسط، فيما يتعلق بشرط رفع الحصار عن غزة مع تنبهها طبعاً إلى استحالة تحقيق ذلك أي رفع الحصار بالكامل في ظل الانقسام الفلسطيني، وفي ظل موقف السلطة الفلسطينية البارد وغير المتشجع، كما في رفض النظام المصري القاطع لأي رفع جديله، بما في ذلك الشق أو الجانب الإنساني.

المعطيات السابقة شكّلت مجتمعة الخلفية أو القاعدة لاتفاق المصالحة الأخير، والتوافق على رفع مستوى العلاقات عودة السفراء، استئناف الاتصالات بمستوياتها المختلفة، ومع الاقتناع باستحالة بل صعوبة رفع الحصار ببعدها السياسي، جرى العمل على رفعه أو تخفيفه جدّياً ببعده الإنساني، وهكذا أصرت أنقرة على حل مشاكل القطاع وأزماته الإنسانية المختلفة، وأصرّت على إرسال مواد ومساعدات إنسانية إلى غزة، ولو عبر ميناء أشدود الإسرائيلي، واستعدت كذلك لإرسال سفينة كهرباء تركية قبل أن يتم التوافق على إنشاء محطة كهرباء تركية ألمانية ومحطة تحلية مياه تركية خالصة، وبناء مستشفى تركي كبير بكامل طاقمه ومعداته، وإعادة تأهيل البنى التحتية المنهارة، وتنفيذ مشاريع إسكانية كبرى في قطاع غزة، وإعادة إعمار البيوت والمنشآت التي دمرتها الحرب بل الحروب الثلاثة الأخيرة. واللافت كان أيضاً الإصرار التركي على المضي قدماً في مشروع المنطقة الصناعية التركية الفلسطينية في مدينة جنين للتأكيد على أنها لا تدخل في لعبة الخلافات أو الانقسامات، ولا تساهم بأي حال في تأبيد الانقسام أو تكريس الفصل بين الضفة الغربية وغزة.

في التفاهمات والاتفاقات لا ينال كل طرف ما يطلبه، يتم غالباً اللجوء إلى الحل بل الحلول الوسط والتسويات وبموازاة التفاهم على ملف غزة تم التوافق على استئناف أو رفع مستوى العلاقات، واستئناف الاتصالات بمستوياتها المختلفة، وإعادة العلاقات إلى ما كانت عام 2010، وليس عام 2009 عندما انهار التحالف الاستراتيجي مع إفشال جهود الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية، ثم حرب غزة التي اعتبرتها أنقرة طعنة لها من قبل رئيس الوزراء السابق أهود أولمرت وبعد حادثة أو سجال دافوس بين االرئيس أردوغان وشيمون بيريز الذي أثبت أن من المستحيل إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه سابقاً.

وعموماً وكما أقرّ نتن ياهو نفسه فلا أوهام عند أحد، وليس هناك من يتحدث عن شهر عسل جديد، وبالتالي لسنا أمام تحالف استراتيجي جديد بين البلدين، وإنما علاقات جيدة مع تبادل اقتصادي يستند إلى الغاز والسياحة، أيضاً واتصالات أمنية لمحاربة الإرهاب وفق التعريف المشترك – داعش وحزب العمال – مع حوارات أو لقاءات سياسية لمناقشة التطورات والمستجدات في المنطقة وضمان كل طرف لمصالحه بينما تحتفظ انقرة بموقفها الواضح والمعلن من القضية الفلسطينية ومن ضرورة تحسين اوضاع الشعب الفلسطينى وتطويرها، ولو اقتصادياً وإنسانياً دون الانخراط السياسى بالكامل في الملف الذي لم يعد في كل الأحوال محل اهتمام وتركيز حتى لدى من ينتقدون الخطوة التركية الأخيرة، بينما هم يمعنون في تدمير تقسيم وإضعاف المنطقة، وتحقيق كل ما أرادته إسرائيل وعجزت عن إنجازه بنفسها.

(اورينت نت)

السابق
مواعيد الدورة الثانية للشهادتين المتوسطة والثانوية‏
التالي
وما زالت جرائم الحرب السورية دون حساب