معضلات الدور السياسي لرجال الأعمال في لبنان

الكاتب جهاد الزين

في سياق نشاطاته الحوارية المتواصلة أقام “ملتقى” التأثير المدني”، وهو تجمّعٌ لنخبة من رجال الأعمال اللبنانيين الكبار الحاملين هَمّاً إصلاحيّاً وتغييريّاً للبنان، حفلَ إفطارٍ في فندق “فور سيزون” في بيروت يوم السابع والعشرين من حزيران حضره حشدٌ كبيرٌ من مختلف النخب الفاعلة في الشأن العام (من دون رجال سياسة) وتخلَّلَتْهُ كلمةٌ لرئيس مجلس إدارة الملتقى المهندس فهد صقال وشريطٌ مصورٌ عن أبرز رؤئ ونشاطات الملتقى. بعض أبرز ما يلفت النظر في رؤية الملتقى للشأن العام تشديده على إيجاد استراتيجية للأمن القومي اللبناني بالتعاون مع الجيش اللبناني من حيث شمول الأمن القومي للمسائل الاجتماعية والاقتصادية والوطنية. جرى اختيار الزميل جهاد الزين لإلقاء قراءة في الشأن العام اللبناني وهذا هو النص الحرفي لكلمته.

علمتني تجربتي المتواضعة كمراقب سياسي، أنه لا قيمة لأي فكر إصلاحي إذا لم تحضنْهُ أو تتبنّهُ قوى إصلاحية قادرة. كثيرون بين النخب الإصلاحية اللبنانية ينشغلون بأفكار الإصلاح ويهملون التفكير بمن سيصنع الإصلاح. أعطي مثلا واحدا رئيسيا في تاريخنا السياسي الحديث: فلنتذكّر بسبب الهوة بين الفكرة وطبيعة القوة التي تحملها كيف تبين أن شعار إلغاء الطائفية السياسية سرقه ووظّفه تحالفُ قوى طائفية عاتية لتوليد نظام أكثر طائفية من السابق.
إن دراساتٍ دقيقةً مطلوبةٌ لنعرف بالضبط من هي القوى في المجتمع اللبناني التي لها مصلحة في الإصلاح؟ وأطرح هذا السؤال من موقع تشكيكي جداً مع ألف علامة استفهام؟ ولربما يساهم ملتقاكم المدني في إطلاق هذا النوع من التقييمات السياسية والاقتصادية.
في كتاب مذكراته عن حياته كشاب في باريس خلال عشرينات القرن العشرين، كتب الروائي الأميركي الشهير إرنست همنغواي، أنه عندما كان لا يملك ثمن وجبةِ غداء ويُمضي معظم يومه صائما، ويضطر للذهاب إلى مكتبة شكسبير التي تبيع فقط كتبا باللغة الانكليزية والتي لا تزال موجودة إلى اليوم قريبا من كنيسة نوتردام ليسأل ما إذا كان جاءه أي مبلغ مالي من الخارج … عندما يضطر لذلك كان همنغواي يتعمّد في مشْيِهِ من شقته في شارع كاردينال لوموان إلى السان ميشال اختيارَ شوارعَ لا واجهاتِ محلاتٍ لبيع المأكولات فيها ولا مطاعمَ حتى لا يحرِّكَ مشهدُ الواجهات شهيتَهُ للأكل…
أخْذا بنموذج همنغواي لـ”حلِّ” المشاكل بتعمّدِ عدم السماح للنفس برؤيتها، تشبه بعض الرأسمالية اللبنانية ورأسماليات أخرى في العالم من يختار لمعالجة مشكلة الفقر عدم المرور بأحياء الفقراء.
ضرورة التصدي المباشر للمسألة الاجتماعية ليس مجرد وعظ نظري أعفي نفسي من سذاجة ادعائه أو تكراره عليكم وإنما هي شرط بنيوي على مستوى أي مبادرة إصلاحية من بيئة رجال أعمال، سيما التي تعلن أنها تريد استقلالها عن السياسة السياسية اللبنانية، لا أقصد السياسة اللبنانية بل السياسة السياسية اللبنانية.
دعوني بسرعة أحرر نفسي من سذاجة ثانية، للتوضيح أنني لا أقصد مطلقاً بالبعد الاجتماعي العمل الخيري أي التبرعي. ما أعنيه هو العمل الاقتصادي المبني على حسابات الربح والخسارة والجدوى وليس على العطاء الذاتي أو الاستعطائي.
العمل الخيري الذي يقع فيه عميقا جزء كبير من البورجوازية اللبنانية النافذة سياسياً أو الطامحة سياسياً لا يستطيع حل أي مشكلة اجتماعية كبرى أو قطاعية من حيث تفاوت المداخيل أو انعدامها أو خلق دينامية انتقال إلى الطبقة الوسطى. هذا بحث طويل ولكني أعطي مثَلَيْن أحدهما لبناني والآخر عالمي.
تعرفون أنه بات من الثابت أن كل دراسات أجهزة الأمم المتحدة والبنك الدولي في العقد ونيِّف المنصرم تعتبر شمال لبنان وطرابلس تحديداً هما الأفقر اليوم عندنا. طرابلس بالذات باتت تعتبر إحدى أفقر مدن البحر الأبيض المتوسط قياسا حتى بمدنٍ كالجزائر وغزة والاسكندرية. وطرابلس هذه المدينة العزيزة علينا جميعا بأكثرَ من معيار تعيش منذ أكثر من عقد ونصف العقد تحت نظام متعدد الأطراف من الأعمال الخيرية الكثيفة. هذا يجب الاعتراف الإيجابي به قطعا فحسب معلوماتي تبلغ موازنة بعض المتمولين السياسيين ملايين الدولارات من العمل الخيري والمساعدات سنويا. وهذا رقم واحد من عدد من الأرقام. مع ذلك أين هي طرابلس اليوم؟ تزداد فقراً وأحيانا خطورة وتتسع أحياؤها في ما أسميه المنطقة الشرقية منها وهي طرابلس التاريخية… تزداد فقراً وضآلةَ مداخيل. حتى اليوم لم نعد نسمع عن سياسي رئيسي واحد فيها يقيم في منطقتها الشرقية. وكتبتُ مرة بعد انتخابات طرابلس الأخيرة أن المقيم في منطقتها الغربية المتجهة نحو البحر يبدو وكأنه لم ينتقل فقط بل فر من المنطقة الشرقية.
لقد اعتمد مليارديريو طرابلس على العمل الخيري ولكنهم لم يبنوا اقتصادا للمدينة ولم يساهموا في ذلك رغم مواقعهم المتقدمة في السلطة. وأقترح في هذه المناسبة أن يُحضِّر “ملتقى التأثير المدني” لمؤتمر كبير حول أدوار المدن اللبنانية يُعقد في طرابلس.

إقرأ أيضاً: بلديات لبنان …المجتمع المدني والتغيير «من تحت»
أما المثال العالمي فيتعلق، باختصار، بمبادرة بيل غايتس التي خصصت بشكل جدي قبل سنوات أكثر من عشرة مليارات دولار لمكافحة الأمراض في إفريقيا. دار نقاش مهم استدرج خبراء اقتصاديين كباراً للسجال مع وضد مشروع غايتس وهو سجال بجوهره قائم على عدم جواز اعتبار الفيلونتروبي بديلاً للاقتصاد المنتج والخالق للوظائف.
لا تستطيع بيئة رجال أعمال تعلن طموحاً تغييرياً أن تمارس السياسة كما يمارسها السياسيون ورجال الأعمال الملتحقون بهم أو غير أصحاب المشاريع الإصلاحية.
لذلك السؤال الصعب جدا ولا أدّعي أي قدرة على إجابة سهلة عليه هو: هل مهمتكم هي المساعدة على منع انهيار النظام بمعناه العام، وهذا هدف مفهوم ومشروع لرأسمال مسؤول حتى لو كانت أعمالُ الرأسماليين القائمين به ومداخيلُهم موجودة في الخارج وليس في لبنان أم مهمتكم هي تغيير النظام من حيث لا نضيع في الجدل السفسطائي عن الفارق بين الإصلاح والتغيير؟
كمواطن ومراقب سياسي أسأل على سبيل المثال والحصر هل يمكننا أن نتصور مثلا بيئة مثل بيئة “ملتقى التأثير المدني” تقدم مشروعاً دقيقاً ومتكاملا ومفصّلا لفرض الضريبة التصاعدية في لبنان؟ دراسة عن حجم الضياع في رأس المال الوطني بسبب الخلل بل الفساد الضرائبي كمقدمة لمشروع متكامل لفرض الضريبة التصاعدية؟
مشروع متكامل تدور حوارات عليه مع خبراء دوليين ولبنانيين وقوى الحراك المدني الشابة وشخصيات نيابية وحكومية وسياسية لاختبار مدى إمكانية النظام السياسي بشروطه الراهنة على القيام بذلك
هل بهذا السؤال أكون قد اقترفتُ السذاجة الثالثة في هذه الكلمة القصيرة التي شرّفتموني بتحمل مسؤوليتها؟
باختصار، واعتذر عن مصارحتكم بهذا السؤال: هل لديكم مصلحة بالضريبة التصاعدية؟
أما النقطة الرابعة التي لا أخشى أن تكون ساذجة لأنني مقتنع تماما بأهميتها.
إنها سيداتي سادتي المتعلقة بنقص الشجاعة السياسية للرأسماليين اللبنانيين غير المتورطين بزواريب السياسة السياسية اللبنانية.
دائما هذا النوع من المفارقات موجود في لبنان:
نقص الشجاعة السياسية للرأسماليين الإصلاحيين مثلما هو غياب، نعم غياب، أي تاريخ من المواجهة السياسية قام بها القضاء اللبناني التابع دائما للسلطة السياسية ولم يتجرأ هذا القضاء مرة واحدة في كل التاريخ السياسي للدولة اللبنانية على مواجهة الإرادة السياسية العليا للطبقة النافذة. هناك قضاة محترمون على المستوى الفقهي مثلما هناك رجال أعمال متنورون وإصلاحيون ولكن بلا استقلالية سياسية.
بعض أهم ما كشفه الحراك المدني الشبابي وامتداده في “بيروت مدينتي” أن هناك نخبة بل نخبا شبابية من الطبقة الوسطى ومن الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، نخباً عالية المؤهلات ومن جامعات مختلفة، وتحديدا من جامعات النخبة التعليمية، باتت تشعر بضيق شديد من إدارة الطبقة السياسية للدولة والشأن العام.

إقرأ أيضاً: الحراك المدني نضال أم هزال؟
شخصياً لست متفائلاً بإمكانية هذا الحراك الجدير بالإعجاب والاحترام على إحداث فارق مؤسساتي في النظام السياسي وقد أغضبت أصدقاء عديدين عندما سمّيت الحراك المدني ثم “بيروت مدينتي” بأنهما حركة على طريق المطار أي على درب الهجرة من البلد.
لذلك سؤالي إلى الملتقى:
هل تستطيعون الوصول إلى أشكال نشاط غير تقليدية وفعالة في دعم او المشاركة في دعم احتجاجات الجيل الجديد المعترض والمأزوم؟
باختصار: ماذا تستطيعون أن تفعلوا خارج الأساليب التقليدية وخارج أنكم مجرد شهود؟
النظام السياسي اللبناني خلافاً لكل ما يقال هو نظام قوي جدا ولو كان يدير دولةً تافهة أو أصبحت تافهة لا بل إن تفاهة الدولة هي شرط قوته.
مهمة صعبة جدا في ظروف المنطقة المتفككة.

(النهار)

السابق
حاملة الطائرات الروسية ‘أدميرال كوزنيتسوف’… إلى سوريا!
التالي
«القاع» ليست «القُصَير»