قراءة في مقال «الإسلام والعلمانية» للغنوشي

نشر الأستاذ راشد الغنوشي مقالا تحت عنوان “الإسلام والعلمانية” في موقع “الجزيرة نت” ثم نقله عدد من المجلات، ونظرا لأهمية الموضوع ولقيمة الكاتب أجريت مراجعة له في السطور التالية.
تعرّض الأستاذ راشد الغنوشي في مقاله لنشأة العلمانية، وذكر التنازع الطويل الذي حدث بين رجال الكنيسة ورجال العلم، وجاءت العلمانية ثمرة لهذا التاريخ، واعتبرها حلاّ إجرائيا يتمثّل في تحرير العقول من كل وصاية، ثم اعتبر الغنوشي أن البعد الفلسفي دخل إلى العلمانية وأصبحت هناك علمانية شاملة مقابل العلمانية الجزئية. وهو قد استفاد في تقرير هذا التقسيم من الدكتور عبد الوهاب المسيري، وأوضح أن هذه العلمانية الشاملة هي التي تحكم العلاقات الدولية اليومية السياسية والاقتصادية والفنية والثقافية إلخ. هناك ملاحظتان على الكلام السابق:
الأولى: إن نظرة الغنوشي إلى العلمانية على أنها أمر إجرائي وأن البعد الفلسفي دخل عليها في وقت لاحق غير صحيح، وذلك لأن البعد الفكري والفلسفي موجود في العلمانية مع البعد الإجرائي منذ لحظة ولادتها، لأن العلمانية كانت حصيلة المواجهة بين الدين والعلم، ورجال الكنيسة ورجال العلم، فكان لا بد من اتخاذ موقف فكري فلسفي من الدين، وهو الرفض والعداء والإقصاء لأن الدين يدافع عن حقائق غير صحيحة -في نظرهم- أثبت العلم خلافها، ولا بد من تقديم المادة وإنكار الروح المرتبطة بالدين، ولا بد من الاهتمام بالدنيا والتنكر لعالم الآخرة، ولا بد من اعتماد نسبية الحقيقة في وجه الحقائق المطلقة التي كان يقررها الدين، وكان لا بد من اتخاذ موقف إجرائي من رجال الدين وهو إبعادهم من التدخل في شؤون الحياة، فالأمر المؤكد أن الموقفين الفكري والإجرائي ترافقا في صياغة العلمانية منذ اللحظة الأولى، وهذا ما تجاهله الغنوشي.
الثانية: ميّز الغنوشي بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، واعتبر الأولى مقبولة والثانية غير مقبولة، واستند في جانب من كلامه وقبوله للعلمانية الجزئية على عبد الوهاب المسيري، والحقيقة أن التمييز يمكن أن يكون القصد منه فهم التطور الذي سارت فيه العلمانية، وفي هذه الحالة يكون التمييز مقبولا، وهو الذي أشار إليه المسيري أحيانا في دراسته عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، لكن اعتبار العلمانية الجزئية لا تتعارض مع الإسلام، واعتبار العلمانية الشاملة هي التي تتعارض مع الإسلام، هذا الكلام غير صحيح، لأن كل المفردات التي تجعلنا نعتبر العلمانية الشاملة تتعارض مع الإسلام موجودة في العلمانية الجزئية من مثل اعتبار المادة أساس الكون، والانطلاق من نسبية الحقيقة، ومعاداة الدين، واعتبار الغيب خرافة وأوهاما، وتقديس الدنيا وتدنيس الآخرة إلخ.
وقد أشار الدكتور إبراهيم مبروك في إحدى دراساته إلى خطأ قبول العلمانية الجزئية وإلى خطأ التمييز بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، واعتبر أن الأصل الذي يجعل المسلم لا يقبل العلمانية الشاملة موجود وكامن في العلمانية الجزئية وأولها فصل الدين عن الدولة وآخرها نسبية الحقيقة، لذلك فإن العلمانية الجزئية تتساوى في التحريم مع العلمانية الشاملة، لكن الاختلاف بينهما يكمن في الكم وليس في أصل المشكلة.
وقد أشار الغنوشي في جانب آخر من مقاله إلى التمييز بين المجال السياسي والديني في الإسلام، وأصّل لهذا التمييز بعدة وقائع، هي:
1- أن المجال السياسي أساسه جلب المصالح ودرء المفاسد وأداته العقل، وأن المجال الديني أساسه الوحي.
2- تمييز الأصوليين بين مجال العبادات (والأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة دون تعليل ولا تعطيل) ومجال المعاملات (والأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد والمآل).
3- تمييز الأصوليين في عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بين مهمّته الرسالية التبليغية وبين ما يخرج عن ذلك من نشاطه السلطاني قاضيا ومحاربا ومفتيا وزوجا.
وقد بنى الغنوشي على هذا التمييز بين المجالين السياسي والديني عدة أمور، هي:
1- السماح بتبلور مؤسستين إحداهما سياسية والأخرى دينية.
2- قيام بعض أشكال حياد الدولة نحو الشأن الديني.
3- قيام تعايش بين الإسلام وبين غيره من الديانات.
4- إمكان معارضة الدولة بوصفها كيانا بشريا.
وأنا سأمحّص كل هذه الوقائع التي ذكرها الغنوشي، والتي اعتبرها أصولا بنى عليها وجهة نظره في الفصل بين السياسي والديني في الإسلام، كما سأتفحّص النتائج التي توصل إليها والتي جعلته يتقبل العلمانية الجزئية على أساسها.
أما بالنسبة للقضية الأولى وهي التمييز بين المجالين السياسي والديني في الإسلام، فهذا الكلام غير صحيح، وبالعكس فإن السياسي خاضع للديني، ويدل على ذلك أن كل الأحكام التي تنفّذها الدولة مستقاة من الشريعة الإسلامية من مثل أحكام الحدود كحدّ السرقة والزنا والخمر وقتل النفس والحرابة إلخ، ومن مثل أحكام المال كتحليل البيع وتحريم الربا وتشريعات الإرث والرهن إلخ، ومن مثل أحكام الأسرة كالمهر والطلاق والزواج والرضاعة إلخ.
ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فالتصور الإسلامي لا يميّز بين الشأن الدنيوي الذي هو أوسع من السياسي وبين الشأن الديني، إذ يعتبر التصور الإسلامي أن كل نشاط دنيوي يقوم به المسلم يبتغي به وجه الله فهو عبادة، كما وضّح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي قال فيه: “في بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا” (رواه مسلم).
والآن، بعد هذا التبيين عن ارتباط الديني بالدنيوي وبالسياسي في الإسلام، يمكن أن نثبت التوضيحات التالية على الحجج التي أوردها الغنوشي من أجل قبول التمييز بين الديني والسياسي:
1- اعتبر الغنوشي أن الشأن السياسي الذي هو جزء من الشأن الدنيوي يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا غير صحيح، فإن الإسلام يعتبر أن تنفيذ الشريعة الإسلامية بكل حذافيرها في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والعلاقات والعبادات إلخ هو الذي يحقّق المصالح ويدرء المفاسد، وهذا ما قامت به الدولة الإسلامية على مدار تاريخها، فالأصل تنفيذ أوامر الدين فتكون النتيجة تحقيق المصالح ودرء المفاسد في كل أمور الدنيا.
أما القاعدة الأصولية التي ذكرها الأصوليون، والتي تقوم على مراعاة المصالح المرسلة للمسلمين، فقد توصلوا إليها عبر استقراء أحكام الشريعة الإسلامية والتي دلّتهم على هذا التوجه الأصيل في الدين، وقد أعملها الفقهاء في كل أمر لا نصّ فيه، واعتمدوها كثيرا في إصدار أحكامهم، وهناك تفصيلات تتعلق بكيفية إعمالها لا مجال لذكرها.
2- ميّز الغنوشي بين مجال العبادات والمعاملات، واعتبر أن مجال العبادات “الأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة دون تعليل ولا تعطيل”، ومجال المعاملات “الأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد”، والأرجح أن هذا التمييز غير دقيق، فالعلماء المحقّقون يعتبرون أن البحث عن العلل والمقاصد والمآل وارد حتى في العبادات، وليس فقط في المعاملات، واستشهدوا على ذلك بعدة آيات تحدثت عن العبادات وبيّنت الحكمة منها، فقال الله تعالى في الصيام: “يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” (البقرة: 183)، وقال تعالى في الصلاة: “وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون” (العنكبوت: 45)، وقال تعالى في شأن الزكاة: “خُذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم” (التوبة: 103)، وقال تعالى في شأن الحج: “وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوّفوا بالبيت العتيق” (الحج: 27-29).
3- تحدث الغنوشي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واعتبر أن هناك تبليغا وأنّ هناك سنّة تشريعية هي الملزمة للمسلمين، فهذا الحديث عن السيرة غير دقيق، والحقيقة أن كل ما وصلنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو سنّة، لكن درجة الالتزام تختلف حسب فحوى صيغة الخطاب الذي ورد من الرسول صلى الله عليه وسلم، فبعض هذه الأقوال فرض، وبعضها واجب، وبعضها مندوب، ويأتي في المقابل إشارة إلى الحرام، والمكروه كراهة تنزيهية وكراهة تحريمية، كما أن هناك سنّة مؤكدة وسنّة غير مؤكدة، وتفصيل هذه المصطلحات في كتب علم الأصول وفي كتب علم الحديث والفقه، ويأتي هذا الاقتداء والالتزام من قوله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً (الأحزاب: 21).

راشد الغنوشي
والآن يمكن أن ندوّن بعض الملاحظات عن النتائج التي بناها على التمييز بين الديني والسياسي في التاريخ والدولة:
1- أشار الغنوشي إلى أن الإسلام أفرز مؤسستين، إحداهما سياسية وهي الدولة، وأخرى دينية يقوم عليها العلماء. مع أن قيام هاتين المؤسستين ليس هو الصورة المُثلى للتاريخ الإسلامي، بل هو ما انتهت إليه مسيرة التاريخ الإسلامي، فالصورة المثلى أن يكون قائد الدولة سياسيا وعالما، لذلك اشترط مؤلّفو الأحكام السلطانية العلم في الحاكم، ومع ذلك لا يعني التقسيم السابق افتراق السياسة عن الدين في التاريخ الإسلامي كما تريد العلمانية، بل كانت الدولة ترجع إلى الدين في كل أمورها وتصرفاتها وعلاقاتها وأحكامها وحربها وسلمها إلخ، وترجع في كل ذلك إلى العلماء، بل كان الأمر أبعد من ذلك فهي تأخذ شرعيتها من تزكية العلماء لها، وذلك بعد أن تعلن الدولة وأمراؤها التزامهم بالشرع الإسلامي عند قيامها، إذا كان هناك تداخل بين المجالين السياسي والديني، وكان رجال الدولة يلتزمون بالدين وأوامره ونواهيه، وكانوا يلتزمون في كل تفصيلات الأمر السياسي بالدين وتشريعاته.
2- تحدث الغنوشي عن حياد الدولة في التاريخ الإسلامي، وأنها كانت لا تتدخّل في الشأن الديني، وهذا غير صحيح، فهي كانت تنفّذ الأمر الديني وتلتزم بكل تفصيلاته، فمعظم الدول التي قامت في التاريخ الإسلامي قامت من أجل واحد من ثلاثة أمور أو من أجل اثنين منها، أو من أجل الثلاثة مجتمعة، وهي: الأول: إحداث تجديد في أمر ديني، كما فعلت الدولة السلجوقية عندما روّجت المذهب الأشعري في مواجهة الدولة الفاطمية، وأقامت الجامعات النظامية نسبة إلى نظام الملك، واحدة في نيسابور والثانية في بغداد من أجل تدريس العقيدة الأشعرية التي ترأسها الغزالي، وكذلك قامت دولة الموحّدين على رأي معيّن من الدين جاء به محمد بن تومرت من المشرق إلخ. الثاني: مواجهة غزو أجنبي والدفاع عن الأرض الإسلامية كما حدث مع الدولة الزنكية والأيوبية والمملوكية والمرابطين في مواجهة الصليبيين والتتار والإسبان. الثالث: نشر الإسلام في أراض جديدة كما حدث مع الدولة العثمانية في أوروبا، والطاهرية في آسيا.
وأما عن تصدّي أحمد بن حنبل للمأمون فلم يكن لأنه أراد أن يتدخل في الشأن الديني، بل لأن المأمون كان يريد أن يفرض رأيا دينيا خاطئا وهو القول بخلق القرآن الكريم الذي كان يصل القول به إلى حدّ الكفر في رأي أحمد بن حنبل، وكان قد كتب ردا على هذا الرأي وفصّل فيه وجهة نظره وقدّم أدلّته في رسالته المشهورة “رسالة الردّ على الزنادقة والجهمية”.
3- ذكر الغنوشي أن حياد الدولة الإسلامية هو الذي جنب الأمّة مجازر حدثت في دول أخرى، وأن التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي أتاح معارضة الدولة بوصفها كيانا بشريا، ولكن الحقيقة أن الذي جنّب الأمة المجازر والذي أتاح إمكانية معارضة الدولة عدة أمور، هي: معقولية النص الإسلامي ووضوح واجبات الحاكم والمحكوم في التشريع الإسلامي من جهة، واحترام العقل في الكيان الإسلامي والمنهجية الإسلامية من جهة ثانية، وعدم وجود طبقة رجال الدين من جهة ثالثة. هذه الأمور مجتمعة هي التي جنّبت الأمة الإسلامية المذابح التي وقعت فيها المجتمعات الأخرى، وإن احترام أهل الكتاب والتشريعات التي أحلّت ذبائحهم والزواج من نسائهم، وغيرها من التشريعات هي التي وجّهت المسلمين إلى المحافظة على كيانهم الخاص، وعلى إفراز نظام المِلَل.
ليس من شك في أن الأمة الإسلامية قادرة على أن تستفيد من آليات التجربة الديمقراطية، بل الواجب عليها أن تستفيد منها، وليس ذلك ناتجا من إرث التمييز بين ما هو ديني وسياسي في تاريخ الدولة الإسلامي كما يتصور الغنوشي، بل هو ناتج من التأصيل الشوري الواضح والصريح والحاسم الذي اعتمدته كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية في إعطاء الشرعية للحاكم، والذي تم على أساسه اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة.
إن أهم ما تحتاجه أمتنا في مرحلة نهوضها واستعادة دورها الحضاري هو الوضوح المنهجي والدقّة في الاستفادة من المعطيات الثقافية للحضارة الغربية، وهو ما دعاني إلى كتابة المقال، فآمل أن أكون قد وفّقت إلى الصواب.

(الحزيرة.نت)

السابق
معروف حمية اثناء قتله الحجيري: إذا رديت لي روح إبني سأطلق سراحك
التالي
قاسم سليماني يصل الفلوجة لإدارة المعارك فيها