نصري الصايغ يكتب في جريدة السفير: المقاومة شيء.. وحزب الله الحاكم شيء آخر تمامًا

لم تعُد وحدك. يحدث الآن أنك موجود بصيغة جمع مختلف: حر، جديد، نقي، ملتزم، مبدئي، ديموقراطي، مدني أو علماني، معاصر، أصيل، منتمٍ، منخرط، ملتزم، متحدٍّ، جريء، واعٍ، مواجه، طالق من الطائفية والمذهبية والعائلية، منحاز إلى الوطن بصيغة المواطن المتمرد، ومؤمن بأن لبنان يستحقّ مصيراً أفضل.
لم تعُد وحدك. يحدث بالرهان، أن «كلّن يعني كلّن». لا علامات فارقة. جموع سلطة تشاركية في دسم المنافع وموائد المحاصصة، بالقسطاس الظالم والمشين. يحدث أنك بصيغة جمع مختلف وجديد الجموع اللبنانية المعروفة بأسمائها الحركية والحزبية وبانتماءاتها الطائفية والمذهبية والعشائرية المجزية، هي جموع تُقاد بخرافة الانتماءات القبلية، وتقتات من عصبيات الخرافات الظلامية والسياسية، وتشكل دعائم الإرث الذي يُغذّي زعامات الاصطفافات المتعفنة والمربحة. هي جموع متعلّمة، عارفة، مدركة، وأحياناً تحاضر في العفة الديموقراطية وتبشِّر ببلد الحريات والمبادرات الفردية، وتقدم الغالي والنفيس دفاعاً عمّن ينتهك الدولة والمؤسسات والقضاء والاقتصاد والتربية والجامعات و… هذه فئة رخيصة الثمن، كثيرة الفائدة وعظيمة التقدير في آلية تدمير الدولة والشعب والمجتمع. لبنان هذا، هو مَن صنعها.
لست وحدَك الآن وبعد الآن. أنت تخيفهم، لأنك لست منهم ولا تشبههم أبداً ولا تقبل أن تكون على موائدهم. أنت مقتنع وعلى حق، أن «كلّن يعني كلّن»، لا براءة لأحد من هذه الكلية. صنيعة تحالف الأضداد والتقاء الأحفاد ضرورية لهم، خوفاً من جديد قادم، ليس منهم، يجرّب المعركة ويتجرّأ على المواجهة، في عقر الدار البيروتي وفي الأطراف الحيوية المكرّسة لقوى الأقطاب المتّحدة.
ولا بدّ من فاصلة. «حزب المقاومة» شيء، و«حزب الله» السياسي شيء آخر. الأول علامة زمن جديد. دليل لغدٍ متحرّر من الاحتلال. مثال يُحتذى في النضال. فلسطينيته تغلب تشيّعه. انتصاراته فتوحات. يخيف إسرائيل ولا يخاف. بالإجمال، صفاته النضالية جعلته واحداً من اللاعبين الإقليميين ولا معادلة دولية إلا ويكون فيها طرفاً. «حزب الله» السياسي شيء آخر. يكاد يكون جزءاً من نظام الطبقة السياسية الحاكمة، وعلاقاته في الأرياف، فحدّث ولا حرج. البلديات احتكار صارخ بلافتة «التوافق». وأسوأ ما بلغه لبنان، هو بسبب تلفيقة التوافق العاطلة والمعطّلة. انتهت الفاصلة ولا إضافة، سوى أن هذه الفاصلة هي بنت المعاناة والتجربة. هل نأمل بتغيير؟ لعل.
لم تعُد «بيروت مدينتي» وحيدة. مَن هم خارج بيروت معها بأعداد جميلة. كثرتها قادمة. «مواطنون ومواطنات في دولة» تنتشر. تستمر حفراً في الصخر. المستقلون الأحرار ما عادوا طفّاراً وما عادوا أرصفة لساسة وزعامات اعتادت الامتطاء السهل لسهولة المركب: ظهور الناس وضمائرهم المغدورة… معركة بيروت «البيارتة» جمعت كل الأضداد، المتعاركة على كل شيء، من الرئاسة إلى قانون الانتخاب إلى… تعيين مراقب في دائرة «الميكانيك» أو ترشيح مختارين… نمط حروب عصابات. شيء من تخالف أو تحالف القراصنة ضد كل طارئ جديد في أيام السياسة المقبلة.
«كلّن» يعرفون أن المعركة بدأت اليوم. لا حجة لـ «كلن» في عدم إجراء انتخابات نيابية، غير خوفهم من السقوط الانتخابي الممكن، والسقوط الأخلاقي الأكيد. ليس عندهم من بضاعة انتخابية يعرضونها على الناخب غير ما أنتجوه في فترة التعطيل العاقر.

إقرأ أيضًا: «بيروت مدينتي» تشتكي من تجاوزات: نسبة التصويت 13% !
المعركة صعبة. الطوائف المتحالفة تتمتّع باستقلالية كانتوناتها ضمن بيئات تُدعى «حاضنة». القوى المتحكمة أقفلت أبواب التغيير أو التبديل كلها، ورمت المفاتيح في بحر المجهول. أقفلت أبواب الطوائف كلها. اختراقها طائفياً مستحيل، العمل ضدها بحاجة إلى شجاعة متهوّرة. تحالف «حزب الله ـ أمل» أقفل الباب الشيعي، لا أحد غير هذه الثنائية ومن تضمه إليها من العائلات أو من الميسورين. لا حساب للكفاءات. مَن يستطيع كسر هذا التقليد الشيعي الصارم؟ من يشق الصفوف ليقول لا مسموعة، غير مقموعة، ولا تخنقها الكواتم الاجتماعية ومشتقاتها الظالمة؟ تحالف «التيار والقوات» (آخر ما تبقى من السلالة الكتائبية الأصلية) أغلق الطريق على التغيير داخل هذه البيئة. العائلات ليست البديل، لأنها الشبيه والمقلّد. تحالف «المستقبل» وخصومه المحليين في طرابلس والبقاع الغربي يقفل الأبواب أمام كل حامل راية متحرّرة. في البيئة الدرزية التوحيدية لا يوجد أي تباين بين القاعدة والقمة. إنها موحّدة مع وليد جنبلاط في كل حالاته وتحوّلاته. أي مكان سيرسو فيه تسبقه إليه قواعده.
مَن له طاقة على مقارعة هذه القلاع الموحّدة والمحروسة والمعترف بها دولياً، وعربياً، وإقليمياً؟ لكل طائفة لبنانها. من له طاقة على مقارعة رجال دين ومجالس ملّية متأهّبة للذود عن السياسة الحنيفة لزعيمها أو لقائدها؟ مَن يستطيع أن يضاهي القوة المالية لهذه القوى المستحوذة على حصصها المجزية بأرباح خرافية، والقابضة على ما تفرضه من «خوة» أخوية على أثرياء الطوائف الطامحين بالجلوس إلى موائد أصحاب السلطة؟ «كلّن»؟

إقرأ أيضًا: صفعتان على وجه حزب الله: بعلبك والهرمل قالتا «لا»
فكيف إذا اجتمعوا «كلّن» في بيروت. في البقاع، وغداً في الجنوب وبعده في الشمال وجبل لبنان؟ غداً ستتألف لوائح موحّدة من «المستقبل» و «حزب الله» و «أمل» و «القوات» و «التيار» وجنبلاط.
إنما، لا مفرّ من المواجهة، القلاع الطائفية والسياسية العملاقة ليست معصومة من السقوط، عندما تتوفّر الظروف الداخلية والإقليمية. بشرط عدم الاستسلام لليأس وتجنّب التفاؤل السهل. المواجهة، في كل الساحات، تفترض تقليد الطوائف المختلفة والمتوحّدة. لا خطوة إلى الأمام ولا إمكانية لحصار هذه القلاع، إلا بتوحيد القوى المدنية والعلمانية واللاطائفية والتقدمية واليسارية و… لخوض المعارك معاً. مَن يظنّ أنه وحده قادر، قصير النظر. غير مسموح أن تخوض «بيروت مدينتي» و «مواطنون ومواطنات في دولة»، معركة واحدة، بلائحتين. أقصر الطرق إلى الخسارة وأمثولة سيئة.
لا مفرّ من الصدق مع الذات والآخرين. المعركة تتخطى التفاصيل والخصوصيات والحساسيات والحسابات الضيقة.
لم يعُد مسموحاً «أن تكون وحدك». المعركة بدأت يوم الأحد الفائت، قد يُقال: هذا فعل دونكيشوتي. هو بالفعل كذلك. دون ديكشوت، كان فارساً قادماً من عصر الفروسية القديم الذي يدافع عن قيم ومبادئ تمُت إلى عصر الفروسية البائد. اليوم، دونكيشوت اللبناني، هو فارس قادم من المستقبل، حاملاً معه الحرية، الديموقراطية، المواطنة، العدالة والكرامة.
أهلاً بدون كيشوت الذي تصدى لمقارعة قلاع الطواحين الطائفية المزمنة. «إننا محكومون بالأمل» والتفاؤل… ولا مفرّ، ولو طال الزمن كثيراً.

(السفير)

السابق
عماد بزي لـ«جنوبية»: سندعم المستقلين في الضاحية
التالي
هكذا أجاب الحراك المدني عن سبب تقصيره في الضاحية