القارة الإسلامية تنفجر: «أي إسلام نريد»؟(3) هل تفتيت المنطقة مؤامرة أم حصيلة موضوعية؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، وقفة أولاً أمام طبيعة ومآلات الأحداث التي شهدها ويشهدها العالم منذ نيّف و25 سنة.
بات معلوماً أن النظام العالمي يمر حالياً بواحدة من أضخم الثورات التاريخية، التي لن تغّير هذا النظام وحسب، بل ربما أيضا الطريقة التي عاش بها البشر طيلة العشرة آلاف سنة الماضية. إنها في آن ثورة في التكنولوجيا كما في الاديولوجيا؛ في الاقتصاد كما في الفكر؛ في الزراعة التي ستنتقل قريبا مع البيوتكنولوجيا من الارض الى المختبرات، كما في الصناعة التي بدأت تنتقل هي الأخرى من عالم المادة الى عالم المعلومات والافكار والروبطة؛ في الطب العضوي كما في الطب النفسي؛ في مفاهيم القوة كما في نظريات السيادة والدولة- الأمة والحدود.
حازم الببلاوي كان مصيباً حين أطلق على هذه الثورة إسم “عصر الانقطاع “. فإذا ماكان ظهور الزراعة قبل عشرة آلاف سنة ثورة وإنقطاعاً بين نمط حياة القنص والبداوة وبين نمط الحياة الأنتاجي المستقر، وإذا ماكانت الصناعة إنقطاعاً ضخماً آخر قلب الحياة البشرية رأسا على عقب، فإن الثورة التكنولوجية الثالثة الراهنة المستندة الى المعلومات والاتصالات والبيوتكنولوجيا، والانترنت، ستكون فاتح عصر جديد يمثِّل إنقطاعا كبير آخر في نمط الحياة والانتاج. ثم هناك ايضاً الثورة العلمية الرابعة، والزاحفة، التي قد تكون الاخطر في التاريخ، والمستندة إلى الروبطة (البشر الآليين) والصناعة ثلاثية الابعاد، والمرحلة الجديدة من البيوتكنولوجيا، واستكمال ربط كل شيء بالشبكة العنكبوتية.
من لا يسير في تيار هذه الثورة، سيجد نفسه سريعا كّماً مهملاً ملقىً على ضفاف مجراها الذي سيعج ببقايا ” القديم” و “غير الفعاّل”. ومن لايكون ضيفاً على وليمتها الكبرى، سيكون على لائحة الطعام.
العولمة الراهنة تدّعي أنها ليست أيديولوجيا ولا حتى نظاماً، لكنها كذلك في الواقع بسبب تقديسها الشديد للأقانيم الكبرى الثلاثة للرأسمالية: “اليد الخفية” للسوق، والتجارة الحرة، والفردية المطلقة[1]. إنها قوى وشبكات قوى تعتبر الكرة الارضية كلها مجال عملها، وهي بدأت تضع للمرة الاولى في التاريخ السلطتين السياسية والاقتصادية في آن مباشرة في يد الرأسمالية.
وهنا بالتحديد كان هاردت ونيغري دقيقين في مؤلفهما “الامبراطورية”، حين أطلقا على السلطة الجديدة إسم ” إمبرطورية العولمة” [2]، وحين أشارا الى أن هذه الامبراطورية تولد مباشرة امام أعيننا الآن. فخلال العقود القليلة الماضية، وفيما كانت النظم الكولونيالية تتعرض الى الاطاحة، ثم تنهار الحواجز السوفييتية أمام السوق العالمية بسرعة كبيرة آخر المطاف، كنا شهوداً على ظاهرة مبادلات اقتصادية وثقافية غير قابلة للمقاومة إتفق على تسميتها العولمة.
فجنبا الى جنب مع السوق العالمية ودورات الانتاج العالمية، برز نظام عالمي، ومنطق وآلية جديدان للحكم. باتت الامبراطورية الجديدة التي تتولى الاضطلاع بمهمة تنظيم هذه المبادلات العالمية، هي السلطة السيادية التي تحكم العالم.
وفي هذا الإطار، لم يكن تدهور سيادة الدول- الأمم وعجزها المتزايد عن تنظيم المبادلات الاقتصادية والثقافية، سوى أحد الأعراض الرئيسة لعملية قدوم إمبراطورية جديدة. لقد كانت سيادة الدولة- الأمة حجر زاوية النظم الامبريالية التي دأبت القوى الاوروبية على إقامتها عبر الحقبة الحديثة. غير ان كلمة إمبراطورية في قاموس القرن الحادي والعشرين باتت تعني شيئاً مختلفاً تماماً عما تعنيه كلمة الامبريالية. فالحدود التي فرضها نظام الدول القومية الأوروبية كانت أساسية بالنسبة الى الكولونيالية الاوروبية، والى التوسع الاقتصادي. الحدود الاقليمية للدولة كانت تعّين مركز السلطة الذي يمارس حكم الاقاليم الاجنبية الخارجية عبر منظومة القنوات والحواجز. لم تكن الامبريالية في الحقيقة الا تمددا للدول القومية الاوروبية الى ما وراء حدودها الخاصة.
ويشير هاردت ونيغري الى أن الانتقال الى الامبراطورية الجديدة، لا يأتي الا من غسق إحتضار السيادة الحديثة. فعلى النقيض من الامبريالية، لاتقوم الامبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لاتعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. ولإنها أداة حكم لا مركزية ولا إقليمية فهي تسعى، تدريجيا، الى إحتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة. وتتولى الامبراطورية إدارة الهويات الهجينة، والمنظومات التراتبية المرنة، والمبادلات المتعددة عبر شبكة طبقات متباينة من الحكم والقيادة. لقد باتت الالوان المتمايزة لخريطة العالم الامبريالية متداخلة ومندمجة في قوس قزح العالم الامبراطوري ( قوس قزح العولمة الجديدة في الحقيقة ).[3]

اقرأ أيضًا: القارة الإسلامية تنفجر: «أي إسلام نريد»؟

– II –
بالطبع، فكرة نهاية الامبريالية وحلول “امبراطورية شبح” مكانها، تلسع ولاتُرى، حظيت بمعارضة شديدة من سمير أمين والعديد من اليساريين الذين رأوا فيها تسويغاً لكل مقولات الولايات المتحدة عن أنها “امبراطورية حميدة وغير امبريالية”[4]. بيد أن هؤلاء المنتقدين كانوا يعترفون في الوقت نفسه بأن العولمة في طبعتها النيوليبرالية الراهنة، دكّت بعض أسس الدولة- الأمة التي ارتكز إليها النظام الحديث منذ معاهدة وستفاليا العام 1648.
لكن، وعلى رغم أن العولمة هزّت مقومات الدولة- الأمة في بلد المنشاً (الدول الغربية)، إلا أنها لم تُلغ بعض أدوراها الرئيس. وهذا كان واضحاً بجلاء خلال الأزمة المالية والعقارية الطاحنة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ العام 2008، والتي لعبت فيها الدولة الأميركية دوراً حاسماً في إخراج الرأسمالية من ورطتها. كما هو واضح أكثر مع الإطلالة القوية الراهنة للقوميات في شرق آسيا والعديد من مناطق العالم، وإن كانت هذه الاطلالة لم تعن، حتى الآن على الأقل، انهيار للعولمة الأميركية الراهنة، وإن كان هذا الاحتمال وراداً كما حدث مع العولمة في طبعتها البريطانية التي انفجرت في الحرب العالمية الأولى.
في عالم الدول النامية، عمل كل من نهاية الحرب الباردة وظاهرة العولمة، إضافة إلى عوامل أخرى على رأسها تغيّر المناخ، والدمار الإيكولوجي، وقانون مور Moore law (سلطة الكومبيوتر والانترنت)، على نسف وجود العديد من الدول نفسها. فمن دون نظام الحرب الباردة، لم يكن من السهل على الدول النامية الضعيفة في العالم توفير الحد الأدنى لمواطنيها في مجالات الأمن والوظائف والصحة والضمانات الاجتماعية. ثم جاءت العولمة عبر شروط “إجماع واشنطن” التي فرضها صندوق النقد الدولي ليسلب هذه الدول ماتبقى من أدوار اجتماعية وتنموية.
كما تكفّلت أمنا الطبيعة في تسريع الانفجار الداخلي لهذه الدول. إذ من الصعب، على سبيل المثال، فهم أسباب انفجار سورية على هذا النحو المروّع، من دون فهم كيفية قيام الجفاف القاسي الذي ضرب البلاد طيلة سنوات أربع، والذي كان يرقص على إيقاع انفجار ديموغرافي كبير (طفرة هائلة في أعداد الشباب)، في تقويض أسس الاقتصاد والدولة السوريين. كما لانستطيع فهم بعض الأبعاد الرئيسة لانتفاضات مصر من دون فهم تأثيرات عولمة اليد العاملة الصينية على فرص العمل المصرية، ومن دون أزمة القمح العالمية العام 2010، وأيضاً من دون دراسة مضاعفات زحف ملوحة البحر على الأراضي الزراعية المصرية التاريخية، والتي تهدد الآن بتشريد نحو 10 ملايين فلاح مصري (كدفعة أولى).[5]
وبالمعيار نفسه، لايمكن فهم أسباب انتشار داعش أو انتفاضات الربيع العربي، من دون قانون مور (التطويرات المتلاحقة في الانترنت والكومبيوتر) الذي مكّن مجموعات صغيرة من تجنيد الأنصار، وتحدي الدول، وإزالة الحدود.[6]

اقرأ أيضًا: القارة الإسلامية تنفجر (2): حروب الـ30 عاماً في أوروبا والمشرق

– III –
حصيلة هذه التطورات كانت مذهلة. فقد بدأت سيرورة التفكك السياسي أولاً في أراضي العديد من الامبراطوريات السابقة، خاصة الامبراطورية العثمانية، ثم انتقلت إلى العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك أحدى القوتين العظميين: الاتحاد السوفييتي. وقبل حلول العام 2000 كان عدد الدول في العالم قد تضاعف أكثر من ثلاث مرات. فمن إندونيسيا إلى سكوتلندا، ومن الاتحاد السوفييتي السابق إلى السودان، كانت السمة الأبرز لعصرنا هي التفكك، واللامركزية، وحتى التحلل. إذ لم يكن يمر شهر إلا ونسمع عن ظهور دولة جديدة على الخريطة العالمية. وقد أدى هذا التفكك إلى طفرة هائلة في قوة منظمات لادولتية على غرار الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية والإعلام، وبالطبع المنظمات المدموغة غربياً بالإرهاب.
الباحث مارتن فان كريفيلد Martin van creveldيعتقد أن هذه العملية تعود بنا ثانية إلى حقبة القرون الوسطى الأوروبية، لكن بدلاً من الامبراطور هناك الرئيس الأميركي، وبدلاً من البابا هناك الأمين العام للأمم المتحدة. وكما في القرون الوسطى، ستتواصل حالة اللامركزية السياسية وستترافق مع تنقلات ضخمة للسكان من وحدة سياسية إلى وحدة أخرى، ومع سلسلة طويلة من الحروب الأهلية والحروب الصغيرة المحدودة، في إطار فوضى تحكمها لاقطبية عالمية.
* * *
هذه بعض المعطيات الدولية المحيطة بعملية التفكيك والتركيب في الشرق الأوسط، مايعيدنا إلى سؤالنا الأولى: هل هذه العملية الاوسطية حصيلة هذه الظروف الموضوعية الدولية، أم هي نتاج “مؤامرة” ما؟
(للبحث صلة)

(اليوم غداً – مدونة سعد محيو)

 

السابق
نهاد المشنوق يلتقي جعجع في هذه الاثناء في وزارة الداخلية
التالي
وفد ايراني يوضح لفضل الله: لا علاقة لخامنئي بتكريم مرتضى..