بوتين يقرر ونحن نحتار..

كان يمكن لبوتين أن يمرّر "إنسحابه الجزئي" من دون إعلان، كما هي عادته في "مبادرات" أخرى. ولكنه لم يفعل. أحاط تحرّكه العسكري هذا بما يكفي من "الإنكشاف" الإعلامي لكي يصلنا، أينما وُجدنا، لكي يبلغنا "رسالته"، أو بالأحرى رسائله.

ولو شاهدنا الإستقبال البطولي الذي حظيت به طليعة الطاقم العسكري الروسية العائدة إلى الوطن، لكنا وضعنا واحدة من هذه الرسائل في خانة “الأسباب” المحفِّزة للإنسحاب: موسيقى وجمهور وخطاب قومي عالي النبرة، وفرح في الوجوه، فرح “الإنتصار في سوريا”، و”تحقيق المهمة”، ورفع روسيا إلى مصاف الدول العظمى، كما كانت أيام الإتحاد السوفياتي التليد.

إقرأ أيضًا: هكذا يحاول حزب الله كتم أصوات معارضيه

لكننا لم نأبه للرسالة الداخلية المحْمولة على قرار الإنسحاب. احترنا فقط بما يعنينا نحن: لماذا انسحب بوتين؟ ورُحنا ندقق بكل سبب من أسبابه، نعيد تصريحات المعلم والأسد، والأزمة الإقتصادية الروسية، عدم الانغماس في المستنقع السوري، إحراج الحلفاء والخصوم، من دون الذهاب الى حدّ الكسر مع الأميركيين، “التوافق مع الأميركيين”… إلى ما هنالك من “أسباب جوهرية”، نحملها ما نود من مصداقية، حسبما استبسلنا “فكريا”. ولكننا، في النهاية، نبلغ النتيجة اياها؛ من ان بوتين، بانسحابه المفاجيء هذا، يؤكد على صحة ما قلناه، أو كتبناه، في هذه أو تلك من المناسبات: فاذا كنا من أعداء بشار الأسد، قلنا ان هذه المبادرة هي إشارة إيجابية، أو تطور يدعو إلى التفاؤل في محادثات جنيف، أو خطوة إلى الأمام نحو الحل السياسي. أما إذا كنا من محور بشار، فندعي بأن القرار الروسي أُخذ بالتشاور مع بشار، وانه لم يغير شيئا في “المعادلة”، وان القوتين العظميين السورية والروسية تنسقان لما هو أخطر وأهم، في طريق النصر الأكيد الخ. كلنا احتار من هذا الانسحاب، ولكن كلنا وجد له في النهاية، مكاناً في وجهة نظره، يطمئنه على قناعاته.

مع اننا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا؛ ثمة تناقض صارخ يجب الا يفوتنا. بين وهج الرسالة البوتينية، وبين غموضها السيّال. ذلك ان صاحبها، بوتين، ضابط سابق في المخابرات السوفياتية، وريثة ستالين الرهيب. وهو مصاب بالمرض المهني الخاص بتلك المخابرات؛ مرض الكذب المغلّف بالعضلات وبالغضب المشروع، غضب المناضلين ضد الإمبريالية… يكذب حينما يقول انه أتى إلى سوريا لحماية الشرعية من السقوط ومحاربة الإرهاب؛ ويكذب الآن حينما يدعي بأنه ينسحب بعدما أنجز مهمته. وهو لا يصدُق إلا عندما يقول في “خطاب الانسحاب” ان الحرب في سوريا “كانت فرصة نادرة ومهمة ان نختبر في ميدان المعركة تقنياتنا، وهذا ستكون له فوائد كبرى”؛ بما ان هذه التقنيات ليست فنية ولا طبية ولا فضائية، فلا يمكن فهم هذا القول بغير ان بوتين كان يلعب بالسلاح في سوريا، ويقتل ويدمر ما يشاء من الحجر والبشر السوريَين، فيختبر الجديد منه، الذي يعظِم حجم حصته السورية، ويثبّتها. كأننا أمام حلقة مفرغة: بوتين يحضر إلى سوريا، بصفته الأقوى من الجميع، أقوى من بشار وإيران وإسرائيل وتركيا والخليج، ثم “ينسحب” منها بعدما صار بسلاحه الجديد أقوى من الأقوى… وحدهم الإسرائيليون يفهون بعمق هذه النقيصة الأخلاقية. لذلك، هم الذين يريدون لأنفسهم حصة أمنية من الكعكة السورية، سارعوا الى إرسال رئيسهم، رؤوفين ريفلين، ليتفاهم مع بوتين على “مرحلة ما بعد الإنسحاب الروسي من سوريا”، مذكرا بخطوط اسرائيل الحمراء، وبمطالبها الأمنية الخ.

إقرأ أيضًا:  هل سيدفع حزب الله ثمن تطهير ايران من الارهاب؟

والحال، ان هذا الرجل، بالشراكة فوق الطاولة او تحتها، مع كل قوة، بحسب قدراتها النارية، هو الرجل الذي يرسم الآن قدر سوريا. فتحُ “المندل” وحده يعلمنا بغيبه. كنا نكره الإمبريالية لوقاحتها، الصريحة في استكبارها؟ نكره أحادية القطب؟ والتفرّد الأميركي بمصير العالم؟ سوف نعشق بوتين، الآن، و”تعدد الأقطاب” الدولية الذي يقوده في ديارنا، ولعبه على حبال الهواء، فوق مستقبلنا. حتى هذه اللحظة، وبفضل “سلمية” باراك أوباما، و”توافقه” مع بوتين، أصبح جوفْ سوريا وسطحها يضجّان بقنابل موقوتة: قاعدة حميميم في اللاذقية، إتفاق  يضمن لروسيا حرية تقريرها للمصير السوري، الفدرالية الكردية، المدعومة من روسيا. قنابل موقوتة، وثلاثة “كيانات”: علوي، كردي، غني و”مفيد”، والإثنان في جيب روسيا. ثم “كيان” سني، صحراوي “غير مفيد”، إلا كذريعة للضربات العسكرية النافعة.

(المدن)

السابق
هكذا يحاول حزب الله كتم أصوات معارضيه
التالي
وداعاً بشار الأسد